عاشوراء وعاقبة المتقين

د عبدالعزيز التويجري

2022-08-05 - 1444/01/07 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/مكانة الابتلاء 2/قصة فرعون في يوم عاشوراء 3/مكانة عاشوراء وفضله

اقتباس

تفتحُ في القلوبِ منافذَ ما كان ليعلمها المؤمنُ من نفسهِ إلا حين تتعرض للابتلاء، وعند الابتلاءِ يتميزُ الغبشُ من الصفاءِ، والهلعُ من الصبرِ، والصدقُ من الكذبِ، والثقةُ...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ لله الذي أعزَّنا بالدين، وجعلنا خيرَ أمةٍ أخرجت للعالمين، وأشهد ألا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك له ولي المؤمنين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله سيدُ الأولين والآخرين-  صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الدعاة المجاهدين وسلم- تسليما.

 

أما بعد: فاتقوا الله -معشر المؤمنين-، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا.

 

في البلايا والمِحَن يُكشفُ عما في القلوب، ويُظهر مكنونات الصدور (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ)[آل عمران:154].

 

ينتفي بالابتلاءِ الزيفُ والرياء، وتنكشفُ الحقيقةُ والصدقُ معه بجلاء (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ)[محمد:31].

 

الابتلاءُ تطهيرٌ ليس معه زيفٌ ولا دَخَل، وتصحيحٌ لا يبقى فيه غبَشٌ ولا خلل (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت:2-3].

 

الابتلاءُ محكٌّ لا يخطئ، وميزانُ لا يظلم، والرخاءُ في ذلك كالشدةِ، والمؤمنُ الصادقُ ثابتُ في السراءِ والضراءِ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[البقرة:214].

 

تفتحُ في القلوبِ منافذَ ما كان ليعلمها المؤمنُ من نفسهِ إلا حين تتعرض للابتلاء، وعند الابتلاءِ يتميزُ الغبشُ من الصفاءِ، والهلعُ من الصبرِ، والصدقُ من الكذبِ، والثقةُ من القنوط.

 

يتكالبُ الأعداءُ على النبيِ -صلى الله عليه وسلم- والذين معه، ويغدرُ اليهودُ، ويخونُ المنافقونَ (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً)[الأحزَاب:10-11]، فيشتدُ البلاءُ بالنبيِ -صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا معه، حينها تَعْرضُ لهم صخرة وكدية شديدة فيقومُ النبيُ -صلى الله عليه وسلم- وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، فَأَخَذَ المِعْوَلَ فَضَرَبَ، فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ, فُتِحَتْ فَارِسُ", ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ , فُتِحَتِ الرُّومُ" فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ.

 

في حُلكِ الظلامِ يتراءى النصرَ يتلألأُ، وفي الشدةِ يرى الفرجَ والفجرَ يسطعُ، صدق وإيمان ويقين بوعد الله ونصر الله يرونه رأي العين (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)[الأحزاب:22].

 

وفي يومِ عاشوراء لما لحق فرعونُ موسى ومن معه حتى حاصرهم على البحرِ والتقى الجمعان، وتراءت الفئتان (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشعراء:61]، فقال موسى في شدة البأس والضيق (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء:62].

 

وكم للهِ من لطفٍ خفيٍّ *** يدقُ خفاه عن فهم الذكيٍّ

 

(فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[الشعراء:63] فعبر عليه موسى ومن معه (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ)[الشعراء:65] فكانت نهاية الطاغية المتجبر المتكبر من تعلى على الله في ألوهيته فقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعلَى، وَقَالَ: مَا عَلِمتُ لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرِي، فكانة نهايته ان أهلكه الله بما كان يفتخر به حين قال (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)[الزخرف:51], فأجرى الله الماء من فوقه (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)[الشعراء:66] وللظالمين أمثالُها، وما هي من الظالمين ببعيد.

 

وحوادثُ التاريخِ ومواقفُ الزمانِ شاهدةٌ على أنه لا يقفُ أحدٌ أمامَ دعوةِ الحقِ وشريعةِ ربِ العالمين إلا أذله اللهُ وقصمه، سُنَّةَ اللَّهِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، والقرآن فيه العبر والعبرة لكل مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.

 

لا تهيئ كفني يا عاذلي فأنا *** لي مع الفجر مواثيق وعهد

 

وأين سراج النجم من نفخة الشهبِ؟! وأين ضياء الشمس من رمية الحجرِ؟!

 

فالإسلام كالشمس لا يغرب في مكان إلا أضاء في آخر، فإن تخلى عنه قوم وضعفوا عن حمله، خذلوا ووههنوا  واستبد الله النصر والتمكين بغيرهم، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[الأنفال:53].

 

فحينما سقطت غرناطة -دولة المسلمين بالأندلس- عندما تهاونوا بأمر الله وذلوا للنصارى، في نفس الوقت كان سليمان القانوني يدق أسوار النصارى شرقاً.

 

وما سارت الضعينة من مكة إلى الحيرة آمنة لا تخاف إلا الله إلا بعد ان قتل خمسمائة من قراء الصحابة في اليمامه،  وما عم الرخاء في زمن عمر بن العزيز، فكان الرجل يخرج بصدقته فلا يجد من يقبلها إلا بعد إقامة العدل ورد المظالم.. (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور:55].

 

حينما يؤمن الإنسان إيماناً صادقا، بأن وعد الله حق، فإن جواذب الإيمان ترفعه عن الالتفات إلى موطن الذلة والخنوع، وتدفعه إلى العمل لنصرة الحق وإعلاء شريعة الله، والصبر على الشدائد؛ فما يولد المولود إلا بعد شدائد وآلام، وما يطلع الفجر إلا بعد الظلام.

 

فما يسبح الإنسان في لُج غَمرةٍ *** من العز إلا بعد خوض الشدائدِ

 

قال ربنا عز وجل: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)[الصافات:171-173 ( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[المجادلة:21].

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للاوابين غفورا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أخرج البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ قَدِمَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ: "مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟" فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : "فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ" وقال "لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ" يَعْنِي مع العاشر. وصيامه يكفر ذنوب سنة.. كما في صحيح مسلم: "وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ".

 

ويستحب حث الصغار وأهل البيت على صيامه، قالت الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ، الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: "مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ" فَكُنَّا، بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ"(متفق عليه).

 

وشهر محرم من الأشهر الحرم، قَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صَلَاةُ اللَّيْلِ".

 

اللهم اهدنا للحق ورزقنا الثبات عليه وأعذنا من مضلات الفتن.. اللهم كما أنجيت موسى وقومه فأنجِ المسلمين المستضعفين في كل مكان من فراعنة هذا الزمان، يا قوي يا جبار.. اللهم آمنا في دورنا واصلح ولاة أمورنا.. اللهم اجعلهم نصرة للحق وأهله وحربا على الباطل وأهله.

المرفقات

عاشوراء وعاقبة المتقين.pdf

عاشوراء وعاقبة المتقين.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات