اقتباس
شخصية ظهير الدين بابر جديرة بالدراسة والتأمل، وظهير الدين بابر يعتبر في نظر التاريخ أحد العظماء الذين يندر وجودهم لا في الناحية العسكرية فحسب، بل في كل ناحية من نواحي حياته، وهذا سر عظمته النادرة. فقد تغلب على جيوش اللودهي باثني عشر ألفاً من الجنود، برغم خيانة حاكم لاهور له بعد أن استدعاه، ثم تغلب على الجيوش الكثيرة الجرارة التي جمعها ملوك الهندوس الخائفين على ملكهم من الضياع، حتى استطاع أن...
بلاد الهند في التاريخ والجغرافيا:
عندما نتكلم عن بلاد الهند في التاريخ فإننا لا نعني بذلك دولة الهند القائمة اليوم بحدودها المعروفة، ولكن نعني بذلك شبه القارة الهندية التي انقسمت بفعل الاحتلال الصليبي الذي يكره بشدة الكيانات الكبيرة وبالأخص تلك التي يحكمها المسلمون، انقسمت هذه البلاد الشاسعة الآن لعدة دول هي: الهند، وباكستان، وبنجلاديش، ونيبال، وبوتان، وسيريلانكا، إضافة إلى ما يتبعها من جزر في المحيط الهندي وهي: جزر المالديف، وجزر لكاديف في الغرب، وأندمان ونيكوبار في الشرق، وسيلان أو سرنديب في الجنوب.
وشبه القارة الهندية عالم قائم بذاته جغرافيًا في قلب القارة الآسيوية، ففي الشمال جبال الهمالايا الشامخة والتي تعرف بسقف الدنيا، وفي الشرق جبال آسام وهي في الأصل متفرعة من جبال الهمالايا، وفي الغرب جبال الهند وكوش الممتدة حتى الشاطئ، أما في جهة الجنوب فالمحيط، وهي بلاد شاسعة ممتدة الأرجاء تبلغ مساحتها قرابة 4.5 مليون كيلو متر مربع، وبها الكثير من الشعوب والقوميات واللغات واللهجات، وكانت عبر التاريخ من المناطق المؤثرة على ركب الحضارة ومسيرة البشرية، وتعددت بها الأجناس والديانات بصورة واسعة حتى يمكن القول أن شبه القارة الهندية هي تجسيد حقيقي لجميع أدوار تاريخ البشرية في شتى صوره، وفيها التمثيل الكامل لفروق الآدميين وما عرفوه من معتقدات منذ ظهور الوثنيات حتى هداية الناس إلى التوحيد.
ونظرًا لاتساع رقعة هذه البلاد لم يستطع حاكم واحد أو دولة واحدة أن تخضع جميع أقاليمها، فقامت بها العديد من الممالك والإمارات حتى آخر العهد الويدي، حيث بدأت معالم النظام الطبقي في الهند تتبلور وتستقر بين أهل هذه البلاد، وكان نظام الطبقات الهندي من أشد صور الظلم والقسوة والاستهانة بالكرامة الإنسانية، وقبل ميلاد المسيح-عليه السلام- بثلاثة قرون ازدهرت في الهند الحضارة البرهمية، ووضع فيها مرسوم جديد للمجتمع الهندي، وألف فيه قانون مدني وسياسي وهو المعروف الآن باسم (منوشاستر)، ويقسم هذا القانون أهل البلاد إلى أربع طبقات وهي:
(1) البراهمة: وهم طبقة الكهنة ورجال الدين، ولهم امتيازات وحقوق تضعهم في مصاف الآلهة عندهم.
(2) شترى: وهم طبقة العسكريين ورجال الحرب.
(3) الويش: وهم طبقة رجال التجارة والزراعة.
(4) الشودر: وهم المنبوذون والخدم، وهم عند البراهمة أحط من البهائم وأذل من الكلاب.
أما عن مكانة المرأة ووضعها داخل المجتمع الهندي فكانت مثل المتاع تباع وتشترى ولا حقوق لها بالكلية، وكان المجتمع الهندي قبل ظهور الإسلام زاخرًا بالشهوات والملذات المحرمة، وخاصة الشهوة الجنسية الجامحة حتى إنهم قد عبدوا جسد المرأة وصوروا مفاتنها في معابدهم، وكان كهنة المعابد وسدنتها من أفسق الناس وأفجرهم، وبالجملة كان المجتمع الهندي قبل الإسلام في حالة فوضى دينية وأخلاقية واجتماعية شاملة.
رحلة الإسلام داخل الهند:
عرف العرب بلاد الهند قبل الإسلام وخبروها جيدًا للروابط التجارية بين الطرفين، فلما تشرَّف العرب بالإسلام، وحملوا أمانة التكليف ومسئولية نشر الرسالة والدعوة في أرجاء المعمورة، فحملوا سيوفهم على عواتقهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وكان أمام المسلمين عقبة كؤود قبل الوصول إلى بلاد الهند، وهي عقبة الدولة الفارسية، لذلك لم يكد المسلمون أن يقضوا على هذه العقبة حتى يمموا نواصي خيولهم ناحية بلاد الهند.
وصل المسلمون إلى بلاد الهند ووطئوا أرضها في أيام الراشدين وتحديدًا سنة 15 هـ أيام الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، عندما أغار الحكم بن أبي العاص الثقفي على مدينة (تانه) شمال مدينة بومباي، ومن يومها أخذ المسلمون يغيرون على أطراف الهند مرة بعد مرة ولا يستقرون بأي بلد يغيرون عليه حتى استقرت أوضاع الدولة الأموية بعد صراعات داخلية طويلة، وفي سنة 89هـ بدأت أولى الحملات الكبرى على بلاد الهند حيث استطاع القائد محمد بن القاسم أن يفتح بلاد السند وقتل ملكها الغادر (داهر).
في أيام الدولة العباسية اهتزت مكانة المسلمين في الهند بسبب انتشار الأفكار الهدامة والعصبية القبلية التي اجتاحت بلاد ما وراء النهر، وقامت عدة إمارات مستقلة داخل الهند معظمها من الباطنية الإسماعيلية، واستمر هذا الوضع المفكك حتى ظهور الدولة الغزنوية وسلطانها الكبير محمود بن سبكتكين سنة 391هـ وقد نذر نفسه للجهاد في سبيل الله، فدخل بلاد الهند عن طريق ممر خيبر ففتح بلادًا واسعة لم يفتحها المسلمون من قبل، وهدم معبد (سومنات) وثن الهنود الأكبر وظلت الدولة الغزنوية تحكم الهند حتى سنة 555هـ، ثم قامت بعدها الدولة الغورية، وهي التي فتحت بلاد البنغال ودهلي، وأسسوا أول سلطنة إسلامية مستقرة وثابتة بالهند سنة 602هـ.
ثم تعاقبت الدول الإسلامية على حكم بلاد الهند مثل دولة (إيلتمش) من سنة 607هـ ـ 664هـ، ثم دولة (بلبن) من سنة 664هـ ـ 689هـ، ثم دولة الخلج من سنة 689هـ ـ 720هـ، ثم دولة آل تغلق 720هـ ـ 815هـ، ثم دولة آل خضر 815هـ ـ 855هـ، ثم دولة اللودي من سنة 855هـ ـ 932هـ، ولم تكن تلك الدول كلها تحكم بلاد الهند جميعًا ولكن قامت العديد من الإمارات الموازية في مناطق وأقاليم الهند الواسعة مثل كشمير والملتان والكوجرات والبنغال وجانبور وهضبة الدكن، وحكم الإسلام للهند في تلك الفترة أشبه ما يكون بحكم ملوك الطوائف بالأندلس بكل سلبياته وآفاته التاريخية، لذلك لم يكن مستغرباً أن يكون مصيرها نفس مصير دولة الطوائف بالأندلس، إذ ظهرت الأسرة المغولية بقيادة محمد بابر شاه سنة 932هـ، ووحدت الهند تحت راية واحدة، وقامت دولة المغول الإسلامية في الهند، وهي التي ظلت تحكم البلاد حتى سقوطها في قبضة الاحتلال الإنجليزي الديني.
فمن هو ظهير الدين محمد بابر مؤسس سلطنة مغول الهند الإسلامية؟ وما هي قصة صعوده إلى سلم المجد وذروة سنام الشهرة في تاريخ الأمم والممالك الإسلامية؟
التعريف والنشأة:
هو واحد من أعظم سلاطين المسلمين في الهند السلطان ظَهيرْ اَلَدّين محمد بابر بن عمر شيخ بن أبي سعيد بن السلطان محمد بن ميران شاه بن الأمير تيمور لنك المولد في 16محرم 888 هـ الموافق فيه 14فبراير 1483م، ووريث أبيه الأمير عُمر شيخ ميرزا على عرش فرغانة، ومؤسس سلطنة المغول الهنديَّة، وهو كذلك مُؤسس سُلالة مغول الهند التيمورية التي حكمت شبه القارة الهندية طيلة ثلاثمائة عام إلى أن انقضى أجلها بعد خلع آخر السلاطين المغول محمد بهادر شاه سنة 1857م من قبل البريطانيين. وتعود جذور ظهير الدين بابر إلى الطاغية الجبار "تيمورلنك" الذي أقام دولة شاسعة امتدت من دلهي حتى دمشق، ومن بحيرة آرال إلى الخليج العربي، ولم تلبث هذه الدولة أن تفككت بعد وفاته بين أولاده، حتى أفلح حفيده السلطان "أبو سعيد ميزرا" في أن ينشئ له دولة امتدت من السند إلى العراق، وخلفه فيها أبناؤه العشرة، واختص عمر شيخ ميرزا-والد ظهير الدين بابر-بإقليم فرغانة بأقصى الشمال الشرقي من بلاد ما وراء النهر.
وقد أطلق عليه أحد كبار الشيوخ هناك واسمه "منير مرغياني" اسم (ظهير الدين محمد)، حتى صعب على عشيرته من الأتراك والمغول الجغتائيين التلفظ بهذا الاسم، فأطلقوا عليه من عندهم اسم (بابر) وهو اللقب الذي اشتهر به في التاريخ وعرفه الناس به، ويعني هذا الاسم باللغة الفارسية (النمر). أبوه هو عمر شيخ حاكم فرغانة والابن الرابع لأبي سعيد ميرزا ثامن حكام الدولة التيمورية.
تولى عرش فرغانة بعد وفاة أبيه وهو في الثانية عشرة من عمره في عام 900 هـ الموافق فيه 1494م، فلم يمكث في الحكم سوى ثلاثة شهور وعشراً ، ثم انقض عليه جيرانه من الأمراء الأوزبك والشيبانيين، ففقد سمرقند وجميع أملاكه ببلاد ما وراء النهر، وأصبح شريدًا طريدًا يضرب في الأرض ويبحث عن مأوى، لكنه وإن خسر ملكه وتخلى عنه رجاله، فإنه لم يتطرق اليأس إلى قلبه، ولم يضع الأمل، فظل عامًا وبعض عام في الصحاري والجبال حتى واتته الفرصة فانتهزها بعد أن التقى بجموع من عشائر المغول والأتراك الفارة من وجه الأوزبك عند الجنوب الشرقي ببلاد ما وراء النهر، فقادها واتجه بها إلى أرض "كابل" و"غزنة"، وكان أحد أعمامه قد تُوفي حديثًا عنها، فأقام هناك، وتولى عرشها، وظل نحو عشرين عامًا قبل أن يقدم على فتح الهند، وإقامة دولة المغول.
وبعد عشرين سنة من القتال المستمر استطاع ظهير الدين أن يسترد معظم أملاكه السليبة، ولكنه في النهاية اصطدم مع قائد آخر كان أشد منه بأساً وأيضا من نسل المغول هو محمد الشيباني خان الأوزبك الذي هزمه وأجبره على الخروج من بلاد ما وراء النهر. ولكن هزيمة ومقتل الشيباني على يد إسماعيل الصفوي قوت من عزم ظهير الدين على العودة مرة أخرى إلى افغانستان وبلاد ما وراء النهر.
تحالف ظهير الدين مع إسماعيل الصفوي:
من منطلق أن عدو عدوي صديقي، فقد دخل ظهير الدين في تحالف مع شاه الدولة الصفوية الخبيثة "إسماعيل الصفوي"، وهكذا السياسة في واحدة من أسوأ تجلياتها، المهم أن ظهير الدين لم يكن على وعي كامل بطبيعة المؤامرات الصفوية، فاتحدت القوتان في السيطرة على أراضي الأوزبك، وتطلع ظهير الدين إلى استرداد بلاد ما وراء النهر، فأمده حليفه إسماعيل الصفوي بفرق من جنده ليستعين بهم في تحقيق آماله وطموحاته، وقد رحّب أهالي بخارى وسمرقند بأميرهم القديم واستقبلوه استقبالاً حسنًا، ثم ما لبث أن تحول الترحيب إلى داء ومقاومة، لإصرار جنود الشاه على إرغام أهالي البلاد على اعتناق المذهب الشيعي، وارتكبوا في سبيل تحقيق ذلك مذابح رهيبة، مما جعل الناس يأتلفون مع الأوزبك لطرد هؤلاء الغزاة ومعهم بابر نفسه، الذي حاول أن يمنع قادة الفرس من ارتكاب جرائمهم المخزية، لكن صوت نصحه ضاع أدراج الرياح.
بعد أن أسفر إسماعيل الصفوي عن وجه الطائفي الخبيث وانكشفت نواياه لظهير الدين بابر، ندم بابر على تحالفه معه، وما جلبه هذا التحالف عليه من سخط المسلمين خاصة بعد المذابح المروعة التي قام الشيعة بحق سكان بخارى وسمرقند وذبحهم لمئات العلماء من أهل السنة، فأعلن عن فك شراكته الإستراتيجية مع إسماعيل الصفوي، ولكن لعلمه أنه لن يستطيع مجابهة الصفويين في المنطقة قرر العودة إلى عاصمة دولته "كابل " بأفغانستان ، ولكن ما لبث أن قام بتغيير وجهته بالكلية ناحية بلاد الهند، وذلك بعد أن وصلته رسائل استغاثة من مسلمي الهند بسبب جور وفساد حكم أسرة اللودهي.
الهند تحكم أسرة اللودهي:
بعد أن دمر تيمور لنك دولة آل تغلق في الهند سنة 815 هـ تمزقت الوحدة السياسية لدولة الإسلام في الهند وتحولت إلى عدة دويلات مشابهة لدولة الطوائف في الأندلس واستمر الوضع على هذا التشرذم طيلة أربعين سنة حتى استطاع اللودهيون توحيد شمل الدولة مرة أخرى سنة 855هـ.
اللودهيون، آل لودهي: سلالة أفغانية تولت الحكم في الهند لمدة 75 سنة، وينحدر مؤسس السلالة لوده بهلول من إحدى القبائل الأفغانية. تولى إمارة البنجاب أثناء عهد أسرة "آل سيد" سلاطين دلهي ـ طوائف ـ ثم استولى على السلطة في دلهي سنة 1451 م. قام بغزو سلطنة جاونبور سنة 1476 م. قام ابنه اسكندر لودهي بتوسيع رقعة مملكته من جبال الهندوس حتى حدود البنغال شرقاً.
وحاول السلاطين اللودهيون الأفغان أن يستعيدوا لهذه البلاد مجدها السابق، فنجحوا بذلك، فأتيح لبهلول اللودهي أن يسترد حدود دلهي القديمة وبسط نفوذه على رقعة كبيرة من الأرض، ثم خلفه ابنه اسكندر بعد فأضاف إلى بلاده منطقة الدواب وأخضع لسلطانه الراجبوتانا ووثق علاقاته بحكام البنغال. كان عمال دلهي على ولاياتها عند اللودهيين من الأفغان، وكانت يعلمون جيداً أن الدولة قامت بسيوفهم وبرجالهم، فمناصبهم ليست بمنحة من سلطان دلهي إنما هي حقهم الطبيعي والثابت. وحين خلف السلطان اسكندر ولده إبراهيم لم يكن مثل أبيه وجده في حسن السياسة والقيادة، فمال إلى امتهان الأمراء والانتقاص من حقوقهم، فاجتمعوا فيما بينهم على التراجع عن بلاطه إلى ولاياتهم لإثارة الاضطرابات عليه بمناطق أوده وجونپور بهار، وللتصريح بخروجهم على سلطانه. وقطعت كل من البنغال ومالوه والكجرات العلاقات مع العاصمة، وقام رانا سنكا صاحب اُدايپَور وأقوى أمراء الهنادكة في زمنه بتزعم حلف عقده مع أمراء الراجبوتانا بهدف القضاء على سلطان المسلمين في الهند كلها.
انطلق فريق من كبار الأمراء وفيهم دولتخان اللودهي أمير الپنجاب وعلاء الدين علم خان عم السُلطان، يستنجدون بظهير الدين محمد بابر في كابل ويحرضونه على دخول الهند ومعاونتهم في إنزال سُلطان دلهي عن عرشه. وكان بابر يردد القول دائماً في سيرته أنه منذ أن استقر بكابل كان يعزم على التوجه إلى الهندستان، ففضلاً عما كان لجده السلطان أبي سعيد من أملاك عند أطراف الپنجاب والسند، كان يرى في نفسه أنه الوريث الشرعي لها حتى بعث إلى السلطان إبراهيم اللودهي صاحب دلهي يطالبه بها، بعد أن رأى استحالة عودته إلى بلاد ما وراء النهر التي ثبت الأوزبك أقدامهم فيها، وبات الصفويون يسيطرون إلى خراسان وما حولها.
خرج بابر إلى الهند في غزوات متتالية بدأت في سنة (925هـ= 1519م) حتى تم له السيطرة على السند والبنجاب، ثم كانت معركته الفاصلة "باي بت" في (7 من رجب 932هـ= 20 من إبريل سنة 1526م) مع إبراهيم اللودهي على بعد عشرة أميال شمالي "دلهي" وقد حقق نصرًا هائلاً على اللودهيين على الرغم من قلة عدد جنوده الذين لم يتجاوز عددهم اثني عشر ألفًا في مقابل مائة ألف، بعد أن باغت خصمه وهو في طريقه للقتال، وأخذت بنادقه ومدفعيته تصلي قلب الجيش اللودهي نارًا حامية، ولم يكن للند معرفة بها من قبل، فتمزق جيش واللودهيين، وقتل السلطان إبراهيم في ساحة القتال، ودخل بابر مدينة دلهي واستقر على عرش واللودهيين بقلعة آكرا.
وبعد النصر بدأ الفاتح العظيم في توزيع ما وقعت عليه يده من كنوز الهند على رجاله، وبلغ من كثرتها أنه بعث بنصيب منها إلى ولاته وجنوده فيما وراء حدود الهند، وأغدق على العلماء والفقراء في كافة المزارات الإسلامية والأراضي المقدسة، وخص كل ساكني كابل بنصيب من غنائمه. يذكر أن مما غنمه الفاتح جوهرة كوهينور أكبر ماسة عرفتها الدنيا، وهي التي نهبها البريطانيون في القرن التاسع عشر، وزينوا بها تاج ملكتهم فكتوريا.
معركة خانوه وقيام الدولة المغولية بالهند:
استغل أمراء الراجبوات الهندوس مطالبة ظهير الدين بأملاك آبائه في الهند، فأرسل حاكم الراجبوات رانا سانجا سفيراً إلى بابر في كابول يعرض عليه المشاركة في هجوم بابر على سلطان دلهي إبراهيم لودي. كان عرض سانجا هو مهاجمته آكرا في حين بابر يهاجم دلهي. ومع ذلك، في حين بابر في قتال مع السلطان إبراهيم لودي، لم يقم سانجا بأي تحرك، حتى يحطم الجيشان المسلمان بعضهما بعضاً. ظناً منه أن ذلك سيمكنه من السيطرة على مناطق كان يطمع بها. وشرع سانجا في بناء تحالف واسع من شأنه إما أن يجبر بابر على الخروج من الهند أو يحاصره بالبنجاب. في أوائل 1527، بابر تلقي تقارير مسبقاً عن تحرك سانجا تجاه آكرا.
نجح الشيطان رانا سانجا في بناء تحالف عسكري هائل ضد بابر. وانضم إليه -بطبيعة الأمر- جميع ملوك الراجبوات القيادية من ولاية راجستان (وسط الهند) وعلاوة على ذلك، محمود لودي، الابن الأصغر لاسكندر لودي، والذي أعلنه الأفغان سلطانهم الجديد بعد مصرع إبراهيم اللودهي في القتال ضد بابر انضم أيضا إلى التحالف وندد بابر بالأفغان الذين انضموا إلى التحالف ضده كما الكفار والمرتدين. واستطاع ظهير الدين محمد بابر أن يضفي على صراعه ضد أمراء الراجبوات الهندوس واللودهيين الأفغان الصبغة الدينية الواضحة، فأعلن قبل الحرب توبته من شرب الخمر ومنع بيعها وتداولها وسكبها في الشوارع مثل الأنهار، ورد المظالم إلى أهلها، وأطلق سراح الأسرى المسلمين من سجونه، وأعلن الجهاد ضد تحالف الكفار والمنافقين على حسب وصفه. وحلف هو وقواده على المصحف ألا يفروا من القتال، إما النصر أو الشهادة، ونجح ظهير الدين في استجاشة الشعور الإسلامي لدى جنوده ومسلمي الهند وقتها. وفي يوم 16 مارس 1527. الموافق 13 جمادى الآخرة 933 هـ وقعت معركة خانوه الكبرى والتي انتصر فيها ظهير الدين بابر على تحالف الراجبوات الهندوس واللودهيين الأفغان على الرغم من التفاوت الكبير بين الجيشين.
لكي يغدو بابر سيداً للهندستان كلها كان عليه بعد أن تم له القضاء على أمراء الراجبوات الهندوس وتأمين أراضيه، أن يستولي على بعض الحصون الكبرى التي لا يزال يعتصم بها بعض أمراء الهنادكة، وأن يقضي على نفوذ الأمراء الأفغانيين في المناطق الشرقية، وأن يخمد ما يثيرونه من قلاقل هناك. وسار جنود بار صوب الشرق بطريق قنوج، في حين قام بابر وهو على رأس فريق آخر من قواته بفتح حصن چندري الذي يقع أقصى جنوب گواليار وكان على هذا الحصن أمير هندوكي قوي وهو ميدني راو، وتم فتح هذه القلعة بالرغم من امتناع أسوارها على مدفعيته، ومن موقعها الذي كان بأعلى أحد التلال. وكان مخطط بابر بعد فتح هذه القلعة أن يُخضع بعض الحصون الأخرى بمالوه ثم يسير إلى الراجبوات الهندوس من جديد؛ ليقتحم چتور عاصمة موار ومقر خصمه المهزوم رانا سنكا، إلا أنه لم يكتمل لما بلغه من ارتداد قواته في الشرق إلى قنوج بعد أن أُرغمت على إخلاء لكناو، فسارع إليها بنفسه وبلغ بابر فنوج، والتحم هناك مع رجاله في قتال عنيف مع ثوار بهار الذين عادوا بعد أن تزعمهم السُلطان محمود بن اسكندر اللودهي بعد هزيمته في خانوه، وبسبب تريث بابر في مطاردتهم لأمكن له القضاء عليهم تماماً. وأعاق حلول فصل الأمطار الغزاة من الاستيلاء على إقليم بهار كله بعد ما بلغت أوده، وأتاح هذا الفرصة للثوار ليعودوا من جديد في العام التالي، واستنفد القضاء عليها جهوداً كبيرة من بابر، وكادت تقضي إلى اشتباكه في الحرب مع البنغال. وذلك أن محمود اللودهي كان قد اجتمع له مائة ألف جندي استخلص بهم إقليم بهار كله وبعض الأراضي المحيطة به؛ حتى أرسل بابر إليه ابنه "عسكري" في بداية الأمر ثم لحق به بعد ذلك بنفسه فدخل "الله آباد" و"چنار" "وبنارس" فأقبل عليه الأمراء الأفغان مستسلمين بعد تركهم للثائر اللودهي، ورابه التجاء بقية الثوار إلى إقليم خريد برغم تأكيد "نصرت خان" صاحب البنغال له بنزوعه إلى المسالمة وحرصه على الولاء. ثم اصطدم ببقايا الثوار واللودهيين وانتصر عليهم في معركة ككرا، واستطاع بهذا الانتصار القضاء التام على الثوار الأفغان وإعلان صاحب البنغال ولائه لظهير الدين بابر. وبهذه الوقعة التي تعد ثالث معركة حاسمة خاضها بابر في الهند بعد معركتي: پاني پت وخانوه، غدا بابر ذلك الأمير التيموري صاحب السلطان المُطلق في الهندستان، وأصبحت دولته تمتد في رقعتها المترامية الأطراف من نهر جيجون إلى البنغال ومن الهملايا إلى چندري وگواليار (وسط الهند).
أبقى بابر على هيكل الإدارة الهندية وأدخل عليه بعض النظم التيمورية، فجعل على كل إقليم نائبين له، يقوم الأول بقيادة الجُند ومراقبة جمع الضرائب ورعاية مصالح السكان، والآخر يتولى الإشراف على الإيرادات والمصروفات ويوازن بينهما، ويدفع للجند والعمال أجورهم. وكان من مبادئ التيموريين التي ساروا عليها في الهند إجراء العدل بين السكان جميعاً وعدم التفريق بين مسلم وغيره. وأمر بابر بمسح كثير من الأراضي وشق كثير من الطرق ليربط بها بين مختلف أجزاء بلاده، وكان أعظمها تعبيد الطريق الطويل فيما بين كابل وآگرا، وإقامة منائر ليهتدي بها أبناء السبيل ومنازل للمسافرين والدواب. وكان بابر مولعاً بالعمارة وبلغ عدد من يستخدمهم لذلك بضع ألوف من النحاتين والبنائين؛ ليقيموا له منشآته من قصور ومساجد وحمامات ونافورات وخزانات للمياه. ومنشآت بابر الباقية في الهندستان حتى الوقت الحاضر هي مساجده الثلاثة في پاني پت وسَنبل وحصن واللودهيين بآگرا. وقد سأل المعمار العثماني الشهير سنان أن يمده ببعض تلاميذه. وأدى حب بابر للطبيعة إلى إقامة مجموعة من البساتين والحدائق، ومنها بستان چار باغ في آگرا، وقد جلب إليه كثيراً من النباتات وأشجار الفاكهة التي لم تكن معروفة في الهند من قبل. ومن أبرزها فاكهة المانجو التي اشتهرت بها الهند بعد ذلك ولم تكن معروفة لهم.
شخصية ظهير الدين بابر:
شخصية ظهير الدين بابر جديرة بالدراسة والتأمل، وظهير الدين بابر يعتبر في نظر التاريخ أحد العظماء الذين يندر وجودهم لا في الناحية العسكرية فحسب، بل في كل ناحية من نواحي حياته، وهذا سر عظمته النادرة. فقد تغلب على جيوش اللودهي باثني عشر ألفاً من الجنود، برغم خيانة حاكم لاهور له بعد أن استدعاه، ثم تغلب على الجيوش الكثيرة الجرارة التي جمعها ملوك الهندوس الخائفين على ملكهم من الضياع، حتى استطاع أن يؤسس ملكاً إسلامياً، استمر ثلاثة قرون. وكان مع نبوغه العسكري نابغة في مختلف العلوم، حتى ذكر المؤرخون عنه أنه كان حنفي المذهب مجتهداً، ألف عدة كتب في علوم مختلفة: في العروض وفي الفقه، وكتابه فيه يسمى "المبين"، كما اخترع خطاً سمي باسمه كتب به مصحفاً وأهداه إلى مكة. وكان مع ذلك أديباً رقيقاً، يقرض الشعر بالتركية والفارسية.
ومن أهم آثاره التي تركها مذكراته التي كتبها بنفسه عن حياته، وقد كتبها في صراحة تتجلى فيها شجاعته النفسية أمام كثير من الحقائق التي ذكرها عن نفسه وقد كتبها باللغة التركية، ثم ترجمت إلى الفارسية، ترجمها "عبد الرحيم ميرزا خان" في عهد حفيده جلال الدين أكبر، ومن الفارسية إلى عدة لغات أوربية.
ويذكر المؤرخون عن بابر قوته الجسمية، حتى كان يستطيع حمل رجلين كل رجل بذراع، والسير بهما مسافات طويلة، وأنه عبر كل نهر صادفه، وعبر نهر الجانج في ثلاث وثلاثين ضربة بذراع، وكان مشهوراً بطول ذراعه، وكان يتسلق الجبال العالية، ويستمر على ظهر حصانه لمسافة ثمانين ميلاً، دون أن يدركه التعب، ويذكر المؤرخون مع هذا أنه كان مفرطاً على نفسه في شرب الخمر، على عادة أمراء زمانه، إلا أنه عاد إليها بعد أن أقسم على تركها عند بدء الموقعة بينه وبين جنود الهندوس المتحالفة، ومنشوره الذي وزعه على سكان البلاد بتحريم الخمر يكشف بعد التوبة عنده، وقد جاء فيه: "نحمد توابّا يحب التوابين والمتطهرين ونشكر ديانا يهدي المذنبين والمستغفرين، وبعد: فإن طبيعة الإنسان على مقتضى الفطرة تميل إلى لذات النفس البشرية، فهي ليست بمنجاة عن ارتكاب الآثام، (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف:53]، وها هي التوبة عن الشرب قد آن أوانها في هذه الأوقات المباركة التي نعد العدة فيها للجهاد في سبيل الله، وقد اجتمع عساكر الإسلام لحرب الكفار (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16]، فاقتلعنا أسباب المعصية بقرع أبواب الإنابة -ومن قرع باباً ولجَّ ولجَ- وافتتحنا هذا بالجهاد الأكبر هو مجاهدة النفس (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا) [الأعراف:23]، (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف:15]، فأعلنا جميعاً توبتنا عن الشراب وأمرنا بأدواته من كؤوس الفضة والذهب فألقيت إلى الفقراء والمساكين والمعوزين صدقة.
وكان بابر قيادياً رفيعاً يعرف كيف يستثير حماسة جنوده في المواقف الحساسة، فقد كان الخوف يشيع في رجال بابر من قتال الهنادكة ومن معهم من الأفغان، بسبب التفاوت الضخم بين الطرفين، فأخذ ظهير الدين في تقوية همم رجاله بخطبة فقال: "إن المرء مهما طال به الأجل فمصيره إلى الفناء، فما أشرف له أن يستشهد في ميدان الجهاد فيخلد ذكره عن أن يموت خاملاً حتف أنفه، ولقد أراد الله القدير أن يمتحننا بهذه المحنة، فإن نسقط في ميدان الجهاد فقد كُتبت لنا الشهادة وإن ننتصر فقد أعْلينا كلمته تعالى ".
وقد مات ظهير الدين بابر سنة 935 هـ وهو في الخمسين من العمر قضى منها 38 سنة في الحكم والإمارة والتنقل من طور إلى طور وحال إلى حال، استطاع خلالها بعزمه وقوة إرادته وصبره وجلده وحلمه أن يتحول من أمير مطارد ليس له إلا ثلاثمائة من الرجال إلى سلطان من أعظم سلاطين العالم الإسلامي في زمانه وزمان الهند كله.
أهم الدروس المستفادة من حياة ظهير الدين:
-خطورة التنازع بين المسلمين والذي أضاع كثيراً من دولهم وممالكهم وإنجازاتهم الحضارية (تشتت مسلمي الهند إلى ملوك الطوائف).
-الصبر والجلد والإصرار على الوصول إلى الهدف وعدم الاستسلام للخطوب، كلها صفات لابد أن تقود إلى النجاح.
-الشيعة هم العدو على مر العصور، وهدفهم الذي لم يتغير منذ ظهور دولتهم الخبيثة هو نشر التشيع قسراً بين المسلمين، وسلاحهم في ذلك القتل وسفك الدماء. مثلما فعلوا مع أهل سمرقند وبخارى دليل على جرائمهم الشنيعة بحق المسلمين.
-خطورة التحالف مع الشيعة لأنهم لا يوفون بعهد، ولا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة، وما فعلوه مع بابر أقوى دليل على ذلك.
-مثلما قلنا من التحالف مع الشيعة يقال عن التحالف مع أعداء الأمة ضد أبناء الأمة في سبيل الملك والسلطة، فهو تحالف لا يرضي الله ورسوله، وقام على محاربة المسلمين.
-التوبة هي عنوان الانتصار.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم