عناصر الخطبة
1/تحريم الله للظلم على نفسه وبين عباده 2/خطورة الغيبة والنميمة 3/بعض صور ظلم اللسان والقلب 4/علاج أمراض القلوب والألسن 5/الحذر من أذية الناس باللساناقتباس
منْ أعظمِ الظّلم ظلمُ اللسانِ والقلبِ، ظلمُ اللسانِ بالقيلِ والقال والكذبِ والغيبةِ والنميمةِ والاستهزاءِ والسخريةِ والتّعرُّض للأخرين، وظلمُ القلبِ بالحسدِ والضغينةِ والحقدِ والكراهيةِ؛ فيا من تتعرضونَ لإخوانكمْ صباحًا ومساءً، واعلموا أنكم محاسبون على النقيرِ والقطميرِ والصغيرِ والكبيرِ والقليلِ والكثيرِ...
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنَا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ؛ فلَا مُضِلّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ ومَنْ تبعهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدّينِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:
فاتّقُوا اللهَ -أيُّها المؤمنونَ-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عبادَ اللهِ: لقد حَرّمَ اللهُ -جلّ وعلا- الظلُّمَ على نفسِهِ وجعلهُ بين العبادِ محرمًا كما جاءَ في الحديثِ القدسيّ، قالَ اللهُ -تعالى-: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالمَوْا"(رواه مسلم).
يَقولُ اللهُ -جلّ وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات 11].
ويقولُ ربنَا -جلّ وعلا- مُحذّرًا منَ الغيبةِ ومصوّرًا لهَا أبشعَ تصويرٍ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ)[الحجرات 12].
أرأيتم -أيها الإخوة- أشنع وأفظع من هذا التصوير الذي يصوره الله للغيبة وهو أن المرء يمزع من لحم أخيه الميت ويأكل منه، أتقبل النفس ذلك ؟! لا وألف لا لا تقبل أن تأكل من لحمه حيًّا؛ فكيف تأكل من لحمه ميتًّا أليست الغيبة في المجتمع اليوم فاكهة المجالس؟!
أليس يندر أن يجتمع مجموعة من الرجال أو النساء إلا ويكون في حديثهم الكلام في فلان أو فلانة؟!
هؤلاء يحطبون على أنفسهم ويسودون صحائف أعمالهم بالسيئات، وَقَد عرّف النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الغيبة فقال: "أَتَدْرُونَ مَا الغِيبة ؟ قَالٌوا: "اللهُ ورسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: "أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ؛ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهِتَّهُ"(رواه مسلم).
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ، "أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِس ؟ قَالُوا: "الُمْفْلِسُ فِينَا مُنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاع"؛ فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أَمّتِى مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ؛ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطْرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النّارِ"(رواه مسلم).
الغيبةُ والنميمةُ مرضٌ فَتّاكٌ لا يعيشُ عليهمَا الناسُ؛ إلا كمَا تعيشُ الجراثيمُ على المستنقعِ منَ الماءِ؛ فاحذرْ أيّها المسلمُ- أنْ تتعرضَ لعلماءِ بلدِك ولولاةِ أمرِك بالقيلِ والقال؛ فالله سائلكَ عن ذلك؛ فغيبتهمْ أعظمُ وأشنعُ من غيرهم، واعلمْ أنَّكَ ستقفُ وتسألُ، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18]، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7-8].
وقالَ -صلّى اللهُ عليهِ سلّم-: "لَا يُؤْمِنْ أَحَدُكُمْ حَتّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"(متفق عليه)، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- حسبكَ من فلانةَ أنها قصيرة؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ"(رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ فَرْجَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنّةَ"( رواه البخاري)، وقالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أحدكم لَيَتَكَّلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ؛ فَيَكْتُبُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يلقاه"(رواه الترمذي).
وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بِلِسَانِ معاذ -رضي الله عنه-، وَقَالَ: "كُفَّ عَلَيْك هَذَا قُلْت: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: "ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!"(رواه الترمذي)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمْونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"(متفق عليه).
وَكَانَ أَبْو بَكْرٍ -رضي الله عنه- يُمْسِكُ بلسانِه ويقولُ: "هَذَا الّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِد"، وقال ابنُ مسعودٍ -رضي الله عنه-، مَا مِنْ شيء أَحْوَجُ إِلى طُولِ سِجْنٍ مِنَ اللِّسَانِ"، وقالَ عمرُ -رضي الله عنه-: "مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ"، وكانَ ابنُ عباسٍ -رضي الله عنه- ما يُمْسِكُ بِلسانِهِ ويقولُ: "وَيْحُكَ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ وَاسْكُتْ عَنْ سُوءٍ تَسْلَمْ، وَإِلّا فَاعْلَمْ أَنّكَ سَتَنْدَم"، وقال الحسن -رضي الله عنه-: "مَا عَقِلَ دِينَهُ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ لِسَانُهُ".
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)[الحجرات: 6].
وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحاسَدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبِعْ بعضكم على بيع بعضٍ، وكونوا – عباد الله – إخوانًا، المسلم أخو المسلم: لا يظلِمه، ولا يخذُله، ولا يكذِبه، ولا يحقِره، التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره ثلاث مراتٍ – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرامٌ: دمُه ومالُه وعِرضه"(رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آَمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ اْلِإيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعُ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعُ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ"(رواه أبو داوود)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّات"؛ أي؛ "نمّام"(متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "تجدُ مِن شرِّ الناس يومَ القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" (متفق عليه).
وقال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)الهمزة: 1]، وقال تعالى حكاية عن المجرمين، (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49]، وقال تعالى: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شيء)[فصلت 21].
ستًسأل العين عما نظرت وستسأل الأذن عما استمعت وسيسأل الفرج عما اقترف وستسأل اليد عما بطشت وأرسلت واستقبلت من المقاطع؛ فلنحفظ جوارحنا؛ فإنهن مستنطقات يوم العرض على الله.
وقد جاء في الحديث أن الله -جل وعلا- يقرر عباده؛ فيقول، "للمرء أتريد شاهدًا من نفسك؛ فيقول رب أي نعم فيقول الله للجوارح انطقي فتنطق كل جارحة بما وقع منها.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ، والصلاةُ والسّلامُ على الرّسولِ الكريم محمّد بن عبدِ اللهِ الّذِي علّم أمتهُ كلّ خيرٍ، وحذَّرهمْ منْ كلِّ شرٍّ، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، أما بعد:
عبادَ اللهِ: ومنْ رحمةِ اللهِ أنْ فتحَ لنا أبوابَ الخيراتِ، قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: "يَا ابنَ آدمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ايْنَ آَدَمَ لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَة"(رواه الترمذي).
عبادَ اللهِ: منْ أعظمِ الظّلم ظلمُ اللسانِ والقلبِ، ظلمُ اللسانِ بالقيلِ والقال والكذبِ والغيبةِ والنميمةِ والاستهزاءِ والسخريةِ والتّعرُّض للأخرين، وظلمُ القلبِ بالحسدِ والضغينةِ والحقدِ والكراهيةِ.
والعلاجُ -أيها المؤمنون- تطهيرُهما وحفظُهما ليسلمِ المرءُ على دينِهِ، وكلُّ امرئٍ موقوفٌ ومحاسبٌ، وسيسألُ عنْ كلِّ ما تفوَّهَ بِهِ وما صدرَ منهُ؛ فليُعِدَّ للسؤالِ جوابًا وليكن الجوابُ صوابًا.
فاحذروا -يا من تتعرضونَ- لإخوانكمْ صباحًا ومساءً، واعلموا أنكم محاسبون على النقيرِ والقطميرِ والصغيرِ والكبيرِ والقليلِ والكثيرِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ"(رواه مسلم).
عبادَ اللهِ: الحذر َالحذرَ من أذيّةِ عبادِ اللهِ والتعرُّضِ لهمْ ولا سيّما في مسائلِ التكفيرِ؛ فبعضُ الشبابِ يتساهلُ في هذا الأمرِ ويحكمُ على الناسِ وهو منْ أجهِلهِمْ، ومن رمى أخاهُ بالكفرِ ولمْ يكنْ كذلكَ؛ فكلمتُهُ ترجِعُ إليهِ يَبُوءُ بِهَا.
هَذَا وَصَلّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى؛ فقدْ أمركمُ اللهُ بذلكَ؛ فقالَ جلَّ مِنْ قائلٍ عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم