عناصر الخطبة
1/ أسباب الخسوف والكسوف بين أهل الإيمان وأهل الشرك 2/ انصراف كثير من الناس عن التأمل في هذه الظاهرة والاتعاظ بها 3/ فزع النبي صلى الله عليه وسلم عند كسوف الشمس 4/ كثرة المعاصي والفسوق في هذا الزمن 5/ أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 6/ الآيات الكونية حث على التوبة والرجوع إلى الله تعالى 7/ حدوث الكسوف علامة تذكير وتنبيه بيوم القيامة.اقتباس
انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا، ونسوا أهوال الآخرة، أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة والتي هي المصير الحتمي لكل حي. بسبب الذنوب والمعاصي يكون الهم والحزن ويكون العجز والكسل وتفشو البطالة، بالمعصية تزول النعم وتحل النقم وتتحول العافية، لقد فشا الزنا وظهر الربا علنًا وشُربت الخمور والمسكرات، لقد كثر أكل الحرام وتنوعت فيه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يغفر الذنب لمن تاب من عباده في حاضره وماضيه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله خير من دعا إلى الهدى وقام لربه يعبده ويُناجيه، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أيها الأحبة في الله، حدث حادث كونيّ في بداية هذا الأسبوع، وكثير من الناس لا يعلم به ولا يهتمّ، وهو خسوف القمر.
وخسوف القمر وكسوف الشمس له أسباب طبيعية يُقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يُقر بها المؤمنون وينكرها ويتجاهلها الكافرون وضعيفو الإيمان من المسلمين، فالمؤمنون يعتبرونها إنذارا وتخويفًا مما هو قادم، والكافرون والعلمانيون والليبراليون يعتبرونها ظاهرة تستحقّ النظر والتمتّع والمراقبة بواسطة الكاميرات والمناظير المقربة، وأنها ظاهرة فلكيّة طبيعية تحدث بسبب مرور الأرض ما بين القمر والشمس، لا علاقة لها بأحوال بني آدم ولا بذنوبهم، بل هو جريان طبيعي للدورة الفلكية، وأصبح علماء الفلك يستطيعون أن يحددوا بدايته ونهايته.
أيها الإخوة، لقد كثر الحديث عن هذا الموضوع ومحاولة إخراجه عن قدرة الله، ونجح أعداء الله من يهود ونصارى وعلمانيين إلى حد كبير من صرف كثير من الناس عن التأمل في هذه الظاهرة والاتعاظ بها والخوف من عواقبها، ولم تعد تؤثر فيه، ولا يحرص في حالة حدوثها على الفزع إلى المساجد ليتفرغ للدعاء والاستغفار والصدقة كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمر.
ففي السنة العاشرة من الهجرة وفي أواخر حياته -صلى الله عليه وسلم- انكسفت الشمس في الوقت الذي توفي فيه ولده إبراهيم -رضي الله عنه-، فخرج -صلى الله عليه وسلم- فَزِعًا إلى المسجد يجر رداءه مستعجلاً، وجاء في رواية مسلم أنه من فزعه أخطأ فخرج بدرع بعض نسائه لظنه أنه رداؤه حتى أدركوه بالرداء، قال ابن حجر: "يعني أنه -صلى الله عليه وسلم- أراد لبس ردائه فلبس الدرع من انشغال خاطرة بذلك".
وكان يومًا شديد الحر، وأمر مناديًا أن ينادي: "الصلاة جامعة"، فاجتمع الناس في المسجد رجالاً ونساءً، فقام فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وصَفُّوا خلفه، فكبر وقرأ الفاتحة، ثم قرأ بعدها سورة طويلة بقدر سورة البقرة، يجهر بقراءته، حتى جعل أصحابه يَخِروُّن من طول القيام، ثم ركع ركوعًا طويلاً جدّا.
ثم رفع وقال: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة ولكنها أقصر من الأولى، ثم ركع ركوعًا طويلاً دون الأول، ثم رفع وقال: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، ثم سجد سجودًا طويلاً جدًا نحوًا من ركوعه، ثم رفع وجلس جلوسًا طويلاً، ثم سجد سجودًا طويلاً، ثم قام إلى الركعة الثانية، وسُمع في سجوده يقول: "ربِّ، ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟! ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟!"
ثم صنع في الركعة الثانية مثلما صنع في الأولى، لكنها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام، ثم تشهد وسلم وقد انجلت الشمس، ثم قام فخطب الناس خطبة عظيمة بليغة، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد: فإن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، وإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله ودعائه واستغفاره".
وفي رواية: "فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا حتى ينفرج عنكم"، ثم قال: "يا أمة محمد، والله ما من أحد أغيرُ من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، وايم الله لقد رأيت منذ قمت أُصَلِّي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار، رأيت النار يحطم بعضها بعضًا، فلم أر كاليوم منظرًا قط أفظع منه، ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه، ورأيت فيها امرأة تُعذّب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض.
ولقد رأيتكم تُفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، يُؤتَى أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا، فيقال: نَم صالحًا، وأما المنافق فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، ثم ذكر الدجال وقال: لن تروا ذلك حتى تروا أمورًا يتفاقم شأنها في أنفسكم، وحتى تزول الجبال عن مراتبها"، ثم قال: "ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل" إلى آخر تلك الخطبة العظيمة البليغة الجامعة.
أيها الإخوة المؤمنون، هل تظنون أن فزع النبي -صلى الله عليه وسلم- وخروجه إلى المسجد مسرعًا ثم الصلاة ثم بعدها ألقى تلكم الخطبة وما شاهد في مكانه من أحوال وأهوال، هل كل ذلك يكون لأمر عادي ليس له أهمية؟! لا والله، إنه لن يكون إلا لأمرٍ عظيم ومخيف.
وإننا نُقر ونعتقد بأن لهذه الظواهر الكونية أسبابًا طبيعية، وأن علماء الفلك يستطيعون معرفة تاريخ وقوعه عن طريق حسابات دقيقة، ويُحدد باليوم والساعة والدقيقة، ونُقر ونعتقد بل ونجزم بأن هناك أسبابًا شرعية أيضًا، وهي المقصودة والمهمة في هذا الحدث، وأنها ابتلاءات يخوف الله بها عبادة كما قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق؛ لكي نستيقظ من غفلتنا، ونحاسب أنفسنا، وننظر إلى واقعنا، ونتوب من ذنوبنا، ونصحح ما نحن فيه من أخطاء، ونعود إلى الله.
أيها الإخوة، إن ذهاب نور الشمس والقمر كله أو بعضه ما هو إلا إنذار وتذكير للعباد ليبتعدوا عن المحرمات؛ ولذلك كثر الخسوف والكسوف في عصرنا هذا بشكل ملفت ومتكرر عما كان عليه الحال فيما مضى، فلا تكاد تمضي سنة حتى يحدث كسوف أو خسوف أو كلاهما معًا في شهر واحد، والسبب كثرة المعاصي والفسوق في هذا الزمن، مع أنه في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحصل إلا مرةً واحدة، وقد قيل: إن المعاصي تزيل الحاصل وتمنع الواصل، وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
أيها المسلمون، إنه لا تفسد الأحوال ولا تضيع الأمة إلا حين يُهدّ ويُمنع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنه الحصن الحصين والدرع الواقي والسياج الحامي الذي تتماسك به عُرى الدين وتُحفظ به حرمات المسلمين وتُهتك به أستار المجرمين، فإذا تعطلت هذه الشعيرة ودمر هذا الحصن وأقفلت أبوابه أو حُجِّمت فعلى الإسلام السلام، وويل يومئذٍ للفضيلة من الرذيلة، وويل لأهل الحق من المبطلين، وويل للصالحين من سفهِ الجاهلين وتطاول الفاسقين.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه فتدعونه فلا يستجب لكم"، وفي حديث آخر: "ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يُغيروا ثم لا يُغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب". فكم من المعاصي نراها ونستطيع أن نغيرها ولم نفعل.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أيها المسلمون، إن المتأمل لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي ذكرناه في الخطبة الأولى حول كسوف الشمس يجد مواعظ عظيمة وأسسًا شرعية ينبغي أن نتبعها ونعمل بها، فهو -صلى الله عليه وسلم- حينما رأى الشمس كاسفة خرج مسرعًا يجر إزاره فَزِعًا؛ مما يدل على أن هذه الحادثة مرعبة ومخيفة وليست للمتعة والنظر في هذا الكون، وإلا فما الداعي للخوف؟!
ثم إنه صلى، فهذه الصلاة لا يمكن أن تكون صلاة شكر على نعمة التمتع بالمنظر، بل هذه صلاة مستغفر يرجو الرحمة ورفع العقوبة، وبيَّن -صلى الله عليه وسلم- أن الله يخوّف به عباده، ثم أمرهم إذا رأوا الكسوف أو الخسوف أن يفزعوا للصلاة، وفي رواية أخرى للصدقة والتكبير وعمل الطاعات. والطاعات تدفع العقوبة المترتبة على الذنب كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33] وكذلك رؤيته -صلى الله عليه وسلم- للجنة والنار في ذلك المكان ما هو إلا تحذير وعظة.
لقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا، ونسوا أهوال الآخرة، أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة والتي هي المصير الحتمي لكل حي.
بسبب الذنوب والمعاصي يكون الهم والحزن ويكون العجز والكسل وتفشو البطالة، بالمعصية تزول النعم وتحل النقم وتتحول العافية، لقد فشا الزنا وظهر الربا علنًا وشربت الخمور والمسكرات، لقد كثر أكل الحرام وتنوعت فيه الحيل وارتفعت أصوات المعازف والمزامير المحرمة في كل مكان، وتهاون الناس في سماع الأغاني الماجنة والفاجرة، وانتشرت المعاكسات والمغازلات في الشوارع والطرقات، ولا من يُنكر، بل تجاوزت هذه المعاكسات إلى خلواتٍ محرمة بين الشباب والشابات، ومعروف ما يترتب على ذلك من مشاكل وفضائح عائلية ولا حول ولا قوة إلا بالله وبعد هذا كله نستغرب أن ينخسف القمر أو تكسف الشمس.
أيها المؤمنون، إن الله يعظ عباده ويخوفهم إذا أذنبوا، واستحقوا العقوبة بعذاب أدنى كالكسوف، فإن لم وتخويف؛ لأنَّ حدوث الكسوف علامة تذكير وتنبيه بيوم القيامة؛ لأن الله أخبر عن يتعظوا أخذهم بالعذاب الأكبر الذي لا رجعة فيه ولا سلامة منه؛ لأن العذاب الأدنى فيه فرصة للتوبة والرجوع، أما الأكبر فلا فرصة فيه، (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة: ٢١]؛ لعلهم يتعظون ويرجعون إلى الله ويدركون بأن هذه موعظة من الله يوم القيامة بأن الكون يتغير وتتبدل أمور كثيرة منها خسوف القمر وتكوير الشمس.
كما قال تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) الآية، ومعنى كورت أي: ذهب نورها، وهذا هو نفس ما يحصل للشمس في أثناء الكسوف في أيامنا هذه، فعندما تتقدم علامة وآية من آيات يوم القيامة ليراها الناس رأي العين في الدنيا فما معنى ذلك؟ إنه تذكير وتخويف وتنبيه لمن أعرض عن ذكر الله وعمل المعاصي.
وفقني الله وإياكم لتعظيمه والخوف منه ورزقنا الاعتبار بآياته.
ثم صلوا على خير البرية سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم