عناصر الخطبة
1/خطورة اتباع خطوات الشيطان 2/اشتمال الكتاب والسنة على كليات الدين وجزئياته 3/التدابير الشرعية الوقائية من فاحشة الزنا 4/الرد على شبهات دعاة الاختلاط 6/صور الاختلاط المحرماقتباس
أيها الإخوة: إن من المصائب: أن يخفى على أحد ممن ينتسبون إلى العلم؛ ما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة، فيصبح بين عشية وضحاها؛ داعية إلى الفساد من حيث يعلم، أو لا يعلم؛ كمن يزعم أن لا نص شرعي؛ يدل على تحريم الاختلاط، في أماكن العمل. أيها الإخوة: من المعلوم أن القرآن والسنة لم يستوعبا التفاصيل اللفظية لجميع جزئيات الأحكام من المباحات والواجبات والمحرمات، وإنما اشتملا على كليات الدين ومقاصده. ولذلك ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
كنت سأواصل حديث المرة الماضية، ولكن طرأ ما جعلني أغير الموضوع، لعل الله أن ينفع على كل حال.
إن مما حذر منه ربنا -تبارك وتعالى-: اتباع خطوات الشيطان، فالشيطان له خطوات يستدرج بها الإنسان؛ لأن الشيطان يدرك أن الإنسان صاحب عقل وإيمان، وإذا كان الإيمان قويا، والعقل مستيقظا، فليس بالسهولة جره إلى المعصية والفاحشة؛ إلا بخطوات ماكرة، حذر الله -تعالى- منها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) [النــور: 21].
ومن هذا الباب يجب أن نعرج على مسألة عظيمة، ربما ناقشها الحوار الوطني في موضوع عمل المرأة الذي هو محور هذا العام، وهي: مسألة الاختلاط.
وإننا لنربأ بأهل هذه البلاد الطيبة من التنازل عن شرف عظيم تقلدوه سنين طويلة، وتميزوا فيه عن غيرهم، فيما يتعلق بالعفاف والحياء، وهو شرف الفصل بين الجنسين الرجل والمرأة، في أماكن العمل.
فإن التنازل عنه منزلق خطير في خطوات الشيطان التي حذرت منه الآية السابقة.
أيها الإخوة: إن من المصائب: أن يخفى على أحد ممن ينتسبون إلى العلم ما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة، فيصبح بين عشية وضحاها داعية إلى الفساد من حيث يعلم، أو لا يعلم؛ كمن يزعم أن لا نص شرعي يدل على تحريم الاختلاط، في أماكن العمل.
أيها الإخوة: من المعلوم أن القرآن والسنة لم يستوعبا التفاصيل اللفظية لجميع جزئيات الأحكام من المباحات والواجبات والمحرمات، وإنما اشتملا على كليات الدين ومقاصده.
ولذلك قال ابن مسعود -رضي الله عنه- للمرأة التي قرأت القرآن، ولم تجد آية فيها عن النامصة، قال لها: "والله لئن كنت قرأتيه لقد وجديته" ثم قال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)[الحشر: 7].
يعني إن لم تجدوه بالتفصيل في القرآن، فانظروا في السنة، فالقرآن يحتوي على شيء من جزيئات الأحكام، ولكن ليس جميعها.
ولذلك في مسألة الاختلاط: نجد أن القرآن والسنة اشتمل على نصوص عامة عبارة عن مجموعة تدابير شرعها الله -تعالى-، من أجل حماية المجتمع المسلم من إحدى أكبر الجرائم، وأشد الفواحش، فتكا بالمجتمعات، ألا وهي: فاحشة الزنا، التي لم ينه عنها الإسلام فحسب، بل نهت عنها جميع الأديان، قال تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) [الإسراء: 32].
فلم يقف التحذير من الزنا عند النهي عن الوقوع فيه، بل زاد على ذلك النهي عن عدم الاقتراب من الوقوع فيه: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا)[الإسراء: 32].
ثم جاء عليه من الوعيد الشديد؛ كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) [الفرقان: 68-69].
وإذا نهى الإسلام عن شيء ما، فلا بد أن يضع التدابير التي تمنع من وقوعه، ولذلك لما نهى عن الزنا جاءت الأحكام والتدابير تباعا لحماية المسلم والمسلمة مما يقربهما من فاحشة الزنا؛ ومن ذلك: الأمر بالحجاب: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب: 53].
وهناك آيات أخرى في الحجاب مشابهة.
وجاء الأمر في قرار المرأة في البيت، ونهيها عن الخضوع في القول: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب: 32-33].
وجاء الأمر بغض البصر: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [النــور: 30].
بل جاء في الآية التي تليها تحديد ما يتعذر ستره من الزينة؛ كطرف الثوب، وتحديد من يجوز للمرأة أن تظهر لهم زينتها، حتى وصل الأمر بنهي النساء عن مجرد ضرب أرجلهن بالأرض، لكي لا يظهر صوت الخلخال: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) [النــور: 31].
ثم جاء الأمر النبوي بعدم الدخول على النساء؛ ففي صحيح البخاري قال عليه الصلاة والسلام: "إياكم والدخول على النساء" فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله: "أرأيت الحمو؟" قال: "الحمو الموت".
وجاء النهي عن خلوة الرجل بالمرأة، وعن سفرها لوحدها بلا محرم، صح في البخاري قوله: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم".
إلى هذا الحد بلغ سد الإسلام لكل ما يمكن أن يكون ذريعة للفاحشة.
ولذلك عند نظر العاقل إلى موضوع الاختلاط بين الرجال والنساء في بيئة العمل، فإنه لا يمكن أن يعتقد أن الإسلام الذي يحتاط بكل تلك التدابير لمنع الفتنة بالمرأة، والاحتياط لمجرد الاقتراب من فاحشة الزنا، يستهين بالاختلاط بين النساء والرجال!.
ولذلك يقول أهل العلم: "ومن المعلوم: أن الله -تعالى- لا يحرم شيئا لسبب، ثم يبيح شيئا آخر يوجد فيه سبب التحريم نفسه؛ لأن هذا تناقض وخلل لا تقبله القوانين الوضعية البشرية، فضلا عن التشريع الإلهي الكامل".
يعني: أن الله -تعالى- لا يمكن أن يحرم على المرأة الخضوع بالقول، والتسكع بالمشي، والضرب الأرجل؛ لإظهار صوت الخلخال، سدا لكل ذريعة تفضي إلى الزنا، ثم يبيح لها ذريعة أقوى؛ كالاختلاط بالرجال، هذا لا يقوله عاقل!.
وهل يقول عاقل في قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا)[الإسراء: 23] أنه يجوز ضرب الوالدين؛ لأن الله -تعالى- لم ينهه عن ضربهما، وإنما نهى عن نهرهما، وقول: "أف" فقط؟! هل يقول هذا عاقل؟!
قال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب: 33].
يقول مجاهد -رحمه الله-: "كان النساء يتمشين بين الرجال-أي يختلطن بهم-، فذلك التبرج".
ومن أجل إبعاد المرأة عن الاختلاط بالرجال لم يوجب الله عليها صلاة الجماعة في المسجد، بل خص الرجال بها فقط، قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَال...)[النــور: 36-37].
ولم يقل رجالا ونساء.
بل جعل صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، قال صلى الله عليه وسلم: "صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في حجرتها خير من صلاتها في دارها، وصلاتها في دارها خير من صلاتها في مسجد قومها" [رواه الطبراني، وهو حديث صحيح].
ولم يوجب عليها النفقة، ولا الإمامة، ولا الجهاد، ولا كل ما يستدعي خروجها، كل ذلك من أجل سد باب الفتنة، والحفاظ على المرأة من الاختلاط بالرجال.
ولضمان عدم الاختلاط؛ جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بابا خاصا للنساء، يدخلن منه إلى المسجد؛ ففي سنن أبي داود بإسناد صححه الألباني، قال صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: "لو تركنا هذا الباب للنساء!".
قال ابن القيم: "والحديث فيه حديث أن النساء لا يختلطن في المساجد مع الرجال، بل يعتزلن في جانب المسجد، ويصلين هناك بالاقتداء مع الإمام".
وجاء في السنن: "أن عمر كان ينهى أن يدخل من باب النساء".
قال الحافظ في حديث زينب امرأة بن مسعود: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسن طيبا" قال: "ويلحق بالطيب ما في معناه؛ لأن سبب المنع منه ما فيه من تحريك داعية الشهوة؛ كحسن الملبس والحلي الذي يظهر، والزينة الفاخرة، وكذا الاختلاط بالرجال".
هل يحتاج صاحب نظر: بعد هذا الحشد من الأدلة أن يقول: ليس هناك نص شرعي، يحرم اختلاط المرأة بالرجل في أماكن العمل؟!
أسأل الله لي ولكم الثبات على الحق.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد:
فهناك حالات لا مناط للمرأة منها من نوع اختلاط، لكن يبقى حرص الشريعة على منع اختلاط الرجال بالنساء قائما ما دام بالإمكان تقليله، إلى أبعد حد.
ومن هذه الحالات: الطواف؛ فكثيرا ما يحتج دعاة السفور، وأرباب التغريب بالطواف، فيقولون: ها انظروا إلى الطواف أليس فيه اختلاط، وهو عبادة! فلماذا تمنعونه في غيره؟!
فنقول: هونوا عليكم؛ لأنه أولا: الواقع ليس حجة على الشرع، فلأجل أن نرى اختلاطا في الطواف اليوم، أو نراه في المستشفيات، أو نرى أي منكر ما هنا أو هناك، هذا لا يؤثر في الحكم الشرعي، ولا ينتقل حكم شيء ما من الحرمة إلى الإباحة، بمجرد حصول ذلك الشيء في الواقع، فالواقع ليس حجة على الشرع.
ثانيا: حتى الطواف في الأصل كان مفصولا، فقد ذكر العلماء أن الفصل بين الرجال والنساء في الطواف فصلان:
فصل مطلق، وفصل جزئي.
والفصل الجزئي: كان حاصلا في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- الجميع يطوفون، ولكن النساء في حلقة واسعة خاصة بهن بعيدا عن الكعبة، في منأى عن الاختلاط بالرجال، والرجال في حلقتهم الخاصة بهم، قريبا إلى الكعبة، بالرغم من طوافهم جميعا في وقت واحد.
فالحاجة إذاً لم تكن مانعا في النهي عن الاختلاط؛ لأن الناس كانوا أصلا يجتنبونه لحسن إسلامهم، وتعظيمهم لرب البيت، وتعظيمهم لحرماته، هكذا كان واقع حالهم.
فالنساء كن يطفن بعيدات بمعزل عن الرجال، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة -رضي الله عنها- في الطواف: "طوفي من وراء الناس، وأنتِ راكبة".
لماذا قال: "من وراء الناس!؟" أليس في هذا تأكيد على عدم الاختلاط بالرجال حتى لو كانت راكبة؟!
بلى!.
ولهذا قال الإمام ابن حجر في شرحه: "وإنما أمرها أن تطوف من وراء الناس-يعني حتى لو كانت راكبة- ليكون أستر لها".
ولهذا نرى أيضا: أنه لما اقتضى الحال التأكيد على الفصل الجزئي لكثرة الفتن، وكثرة الطائفين، وتساهل الكثير منهم، في الابتعاد عن النساء في الطواف؛ منع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الاختلاط فيه، ونهى الناس عن ذلك صراحة وعلنا؛ لوجود الداعي.
فقد روى الفاكهي من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال: "نهى عمر -رضي الله عنه-: أن يطوف الرجال مع النساء، قال: فرأى رجلا معهن؛ فضربه بالدرة".
هذا هو الفصل الجزئي.
أما الفصل المطلق، بمعنى أن الرجال يطوفون في وقت والنساء في وقت بحيث لا يجتمعون مطلقا، فقد فصل بعض الأمراء بين النساء والرجال في الطواف مطلقا؛ كخالد القسري، وإبراهيم بن هشام الأموي، وهو وإن كان حرصا منهم على العفة إلا إنه اجتهاد خاطئ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك، مع إمكانه أن يفصل فصلا كاملا.
ولذلك أنكر عليهم عطاء بن أبي رباح؛ فقد صح في البخاري قال ابن جريج: أخبرني عطاء، إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال -أي عطاء-: "كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الرجال؟!" أي مع الرجال في نفس الوقت، ولكن بدون اختلاط.
قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة -رضي الله عنها- تطوف حجْرَةً من الرجال لا تخالطهم.
"حجْرَةً" معتزلة.
الحاصل: أن التساهل بالاختلاط في الطواف اليوم ليس حجة على الشرع، ليس بالضرورة أن يكون واقع الحال موافقا للشرع من كل وجه، وإنما الحجة في ذلك مقاصد الإسلام المأخوذة من نصوص الكتاب والسنة التي طالما قصدت منع الاختلاط، وما أكثرها من نصوص؟! وما أكثرها من أحكام وتدابير؟!.
ومن ذلك: وضع النساء في المسجد، أين قرر الشرع لهن أن يصلين مختلطات جنبا إلى جنب مع الرجال! أم في الصفوف الخلفية بعيدا عن الرجال آخر المسجد؟!
أيدل هذا على إباحة الاختلاط أم العكس؟
بل زاد صلى الله عليه وسلم من التأكيد على عدم الاختلاط، منفرا حتى من اقتراب أي من الطرفين الرجال والنساء من صف الآخر، قائلا: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها".
أيدل هذا على التساهل في الاختلاط أم التحذير منه؟
ثم ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا سلم قام النساء، حين يقضي تسليمه ثم يلبث في مكانه يسيرا قبل أن يقوم" كي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال؟!
ثم أخبرتنا أم سلمة -رضي الله عنها-: أن النساء كن ينصرفن مباشرة بعد السلام وبسرعة، ماذا يستنبط العاقل؟!
جاء في البخاري: أن أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرت هند بنت الحارث -رضي الله عنها- أن النساء في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام الرجال.
على ماذا تدل كل هذه النصوص التي أوردها البخاري في صحيحه! على الترحيب بالاختلاط؟! وأنه لا بأس به؟! أم على البعد عنه والتحذير منه؟!
بل حتى في الشارع أو الطريق الذي يحتج به بعضهم في جواز الاختلاط؛ لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- اختلاط الرجال بالنساء في الطريق؛ لما خرجوا من المسجد، قال لهن: "استأخرن" أي تأخرن عن وسط الطريق: "فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق" أي أن تتوسطن الطريق: "عليكن بحافات الطريق" أي بأطرافه وجوانبه.
يقول راوي الحديث أبو أسيد الأنصاري -رضي الله عنه-: "فكانت المرأة تلصق بالجدار، وتبالغ في ذلك، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار" [رواه أبو داود وهو صحيح].
كل هذه النصوص والروايات الصحيحة إذا جمعناها ماذا نخرج بها: أنه لا يوجد ما يدل على منع الاختلاط في مواقع العمل؟!
إن المسلم العاقل -أيها الإخوة-: لا يراوده أدنى شك في أن الشرع قصد إبعاد المرأة عن مخالطة الرجال.
وفي الختام نشير إلى ضوابط الاختلاط المحرم، فالاختلاط المحرم مرجعه إلى ثلاث صور:
الصورة الأولى: الذي يمس فيه جسد المرأة جسد الرجل، إذ لا يشك أحد أن المس أشد فتنة من مجرد سماع صوت الخلخال، فالاختلاط الذي يحصل فيه نوع مس، والتصاق؛ محرم.
الصورة الثانية: الاختلاط الذي يحقق الخلوة بين الرجل والمرأة.
الصورة الثالثة: دوام مكث الرجل مع المرأة الأجنبية في مكان واحد، ولو لم تتحقق الخلوة، مثل المكاتب، مكاتب الموظفين في دوامها المستمر يوميا.
إذ لا يشك عاقل أن خلوة المرأة مع الرجل خمس دقائق، أو ربع ساعة، وهو محرم، ليس أخطر عليها من ذلك المكث الطويل المستمر؛ لأن الاجتماع المستمر يسهل من تبادل الحديث بينهما، وإنس اللقاء، وتوسيع مداخل الشيطان بينهما.
لا يشك عاقل يريد الحق بأن هذا اللقاء الدائم أخطر من خلوة قصيرة، أو من تزاحم لحظة في باب المسجد، أو خلال الطواف بالبيت، ومن خضوع بالقول مرة، أو فرقعة صوت خلخال في طريق من طرق المسلمين.
هذا إن كان الاختلاط لم تصاحبه أصلا مخالفات شرعية أخرى؛ كاستهانة بضوابط الحجاب الشرعي، أو خضوع بالقول، ومزاح، وضحك، أو تكسر في المشي، ونحو ذلك من المحرمات المنصوص عليها.
هذه هي ضوابط الاختلاط المحرم، وما سواه فهو مباح: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم