طول العمر خير للمؤمن المسلم وشر للفاسق الكافر

فؤاد بن يوسف أبو سعيد

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/فضل طول العمر في طاعة الله 2/اغتنام الأوقات في طاعة الله 3/الدعاء بطول العمر لغرض شرعي 4/طول حياة الأنبياء السابقين 5/تبرع آدم -عليه السلام- لابنه داود -عليه السلام- بجزء من عمره 6/دعاء الآباء للأبناء بطول العمر على طاعة الله 7/الاتعاظ بحال المضيعين لأعمارهم في معصية الله 8/عاشوراء بين أهل السنة وأهل البدعة

اقتباس

يَا مَن يغترُّ بالأماني والآمال الكواذب، ومبارزٌ بالقبايح وَمَا يدْرِي من يحارب؟ يَا حَاضرَ الْبدنِ غيرَ أَن الْقلب غَائِب! أرضيت أَن تفوتَك الْخيرَاتُ والرغائب؟ يَا من عمره يفنى فِي مَمَرِّه ويسري كالنجائب! يَا من شَاب وَمَا تَابَ هَذَا من الْعَجَائِب! يَا عجباً! كَيفَ نَام الْمَطْلُوب وَمَا غفل الطَّالِب؟!...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له.

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً  * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70 - 71].

 

أما بعد:

 

فإن خيرَ الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمَّدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

 

إن طولَ العمُر خيرٌ للمؤمن المسلم، وشرٌّ للفاسق والكافر، فالمؤمن يزداد بطول العمر خيرا وطاعة، فقد "كَانَ رَجُلانِ مِنْ بَلِيٍّ -حَيٌّ مِنْ قُضَاعَةَ- أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا، وَأُخِّرَ الآخَرُ سَنَةً، قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا، أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ... فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى سِتَّةَ آلافِ رَكْعَةٍ، أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلاةَ السَّنَةِ؟!" [مسند أحمد، ط الرسالة: 14/ 126، ح: 8399، الصحيحة: 2591].

 

إن المؤمن يغتنم الأوقاتَ من العمر، وينتهز اللحظات من الحياة، في طاعة وذكر، وتدبُّر وفكر، تزيده إيمانا وتسليما، وطاعة وعملا: "طوبى لمن طال عمره وحسن عمله" [صحيح الجامع: 3928].

 

قاله جوابا لمن سأل: أي الناس خير؟ وطوبى كلمة إن شاء؛ لأنها دعاء معناها: أصاب الخير "من طال عمره وحسن عمله".

 

قال عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ-: "مَوْتُ الإِنْسَانِ بَعْدَ أَنْ كَبِرَ وَعَرَفَ رَبَّهُ خَيْرٌ مِنْ مَوْتِهِ طِفْلا بِلا حِسَابٍ فِي الآخِرَةِ" [ذكره الطيبي].

 

وقال القاضي: "لما كان السؤال عما هو غيبٌ لا يعلمه إلا الله؛ عدلَ عن الجوابِ إلى كلامٍ مبتدأٍ ليُشْعِرَ بأماراتٍ تدلُّ عن المسؤول عنه وهو طولُ العُمُرِ مع حُسنِ العملِ؛ فإنه يدلُّ على سعادةِ الدارين، والفوز بالحسنيين" [فيض القدير: 4/ 371].

 

هذا هو ما قرَّره النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما سأله رجل: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ" قَالَ: "فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟" قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ" [سنن الترمذي: 2330، هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وانظر: صحيح الجامع: 3297].

 

فالحياة الممدوحة المحمودة، هي من يغتنمها المسلم ليدخر فيها أعمالا صالحة تنفعه في الآخرة، والحياة المذمومةُ المقبوحةُ هي حياةُ الكفارِ والفسَّاق، الذين لا يزيدهم طولُ حياتهم إلا خسرانا وحسرات، نتيجة ما عملوا من المعاصي والسيئات.

 

ف "لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ: إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ" [صحيح البخاري: 5673].

 

نهانا عن تمني الموتِ أو استعجاله، وأكَّدَ على ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا" [صحيح مسلم: 2682].

 

فطويل العمر مع إحسان العمل خير من قصيره، عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ الْمَازِنِيَّ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيَّانِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ فَقَالَ: "طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ" فَقَالَ الْآخَرُ: أَيُّ الْعَمَلِ خَيْرٌ؟ قَالَ: أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَيَكْفِينِي؟! قَالَ: "نَعَمْ! وَيَفْضُلُ عَنْكَ" [الآحاد والمثاني، لابن أبي عاصم: 3/ 51، ح: 1356، وانظر: الصحيحة: 1836].

 

لكن من يوفَّق لذلك إلا من وفَّقه الله -جل جلاله-؟!

 

ودعا بعضهم بطول العمر، وعدمِ الموت، لهدف شرعي يبتغيه؛ مثل دعاء سعد بن معاذ بعد غزوة الخندق عندما أصيب أصابة قاتلة، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ لا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ قُرَيْظَةَ" [صحيح ابن حبان: 15/ 498، رقم: 7028].

 

الأنبياء طول حياتهم خير لهم ولأممهم من بعدهم، قال أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله تعالى عنه- قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ-" وفي طريق: "إنَّ ملكَ الموتِ كانَ يأتي الناسَ عِيانًا، حتى أتى موسى -عليه السلام-" "فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ! قَالَ فَلَطَمَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ- عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا، قَالَ: فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، فَقَالَ: "يا ربِّ" إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي -ولولا كرامتُه عليكَ لشقَقْتُ عليه- قَالَ: فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي، فَقُلْ: الْحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرَةٍ، فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً، قَالَ: "أي ربِّ" ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ، قَالَ: فَالآنَ مِنْ قَرِيبٍ، رَبِّ أَمِتْنِي مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، رَمْيَةً بِحَجَرٍ" قال: فشمَّه شمَّةً، فقبضَ روحَه، قال: فجاءَ بعدَ ذلك إلى الناسِ خفيًّا" قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَاللهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ" [صحيح مسلم: 2372، الصحيحة: 3279].

 

قَالَ البغوي -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "هَذَا الْحَدِيثُ يَجِبُّ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ الإِيمَانُ بِهِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَبِرَهُ بِمَا جَرَى عَلَيْهِ عُرْفَ الْبَشَرِ، فَيَقَعُ فِي الارْتِيَابِ؛ لأَنَّهُ أَمْرٌ مَصْدَرُهُ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَحُكْمِهِ، وَهُوَ مُجَادَلَةٌ بَيْنَ مَلَكٍ كَرِيمٍ، وَنَبِيٍّ كَلِيمٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَخْصُوصٌ بِصِفَةٍ خَرَجَ بِهَا عَنْ حُكْمِ عَوَامِّ الْبَشَرِ، وَمَجَارِي عَادَاتِهِمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي خُصَّ" [شرح السنة للبغوي: 5/ 266].

 

ألا واعلموا أن من علامات اقتراب الأجل، وانقراض العمر: تغيُّرَ لونِ الشعرِ الأسود وغيره إلى أبيض، ألا وهو الشيب، الذي يكره رؤيته الشيب والشباب، وهو آتٍ لا محالة لمن طال عمره، وفي نفس الوقت هو علامة على الخير لعبد المؤمن.

 

فالشَّيب نور، والشيب وقار، والشيب حسنات، والشيب درجات، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الإِسْلَامِ، كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ رِجَالا يَنْتِفُونَ الشَّيْبَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ شَاءَ نَتَفَ شِيبَهُ" -أَوْ قَالَ:- "نُورَهُ".

 

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ: "مَنْ شَاءَ فَلْيَنْتِفْ نُورَهُ" [شعب الإيمان: 8/ 385، ح: 5971، انظر: الصحيحة: 3371].

 

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الشَّيْبُ نُورُ الْمُؤْمِنِ؛ لا يَشِيبُ رَجُلٌ شَيْبَةً فِي الإِسْلَامِ، إِلا كَانَتْ لَهُ بِكُلِّ شَيْبَةٍ حَسَنَةٌ، وَرُفِعَ بِهَا دَرَجَةً" [شعب الإيمان: 8/ 384، ح: 5970، وانظر: الصحيحة: 1243].

 

لماذا "الشيب نور المؤمن؟"؛ لأنه يمنعه عن الغرور والخفة والطيش ويميله إلى الطاعة، وتنكسر به نفسه عن الشهوات، وكل ذلك موجب للثواب يوم المآب "لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة ورفع بها درجة" أي منزلة عالية في الجنة [فيض القدير: 4/ 184].

 

جاء في لسان العرب: 7/ 424" أَنشد ابْنُ بَرِّيٍّ:

 

أَتَيْتُ الَّذِي يأْتي السَّفِيهُ لِغِرَّتي *** إِلى أَن عَلا وخْطٌ مِن الشيْب مَفْرَقي

 

أيها الشيَّاب! يا من شابت رؤوسكم: هل تعلمون من هو أوَّل من وَخَطَ شعرَه الشيب؟

 

إنه خليل الله إبراهيم -عليه السلام- فكم بلغ من العمر -عليه السلام-؟

 

يجيب على ذلك أبو هُرَيْرَةَ قَالَ: "اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ عاش بعد ذلك ثمانين سنة".

 

قال سعيد بن المسيب: "إِبْرَاهِيمُ أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ، وَأَوَّلُ مَنْ أَضَافَ، وَأَوَّلُ مَنْ قَصَّ الشَّارِبَ، وَأَوَّلُ مَنْ قَصَّ الظُّفُرَ، وأول مَنْ شابَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ! مَا هَذَا؟ قَالَ: وَقَارٌ، قَالَ: يا ربِّ زدني وقاراً" [صحيح الأدب المفرد: 1250، صحيح الإسناد موقوفاً ومقطوعاً، وصحّ عنه مرفوعاً].

 

ومن المحبة الجِبلِّيَّة والفطرية للأبناء؛ تبرع آدم -عليه السلام- لابنه داود -عليه السلام- بجزء من عمره يضاف لعمر داود، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ؛ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟! قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ، يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ! فَقَالَ: رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا قُضِيَ عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ المَوْتِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟! قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟! قَالَ: فَجَحَدَ آدَمُ، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنُسِّيَ آدَمُ، فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ" [سنن الترمذي: 3076، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ" وانظر: صحيح الجامع : 1681].

 

ولا مانع من الدعاء بطول العمر لمن نظنُّ به خيرا، من الأولاد والأبناء، وغيرهم، قال أَنَسٌ -رضي الله تعالى عنه-: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُ عَلَيْنَا، أَهْلَ الْبَيْتِ، فَدَخَلَ يَوْمًا فَدَعَا لَنَا، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: خُوَيْدِمُكَ أَلا تَدْعُو لَهُ؟! قَالَ: "اللَّهُمَّ! أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَأَطِلْ حَيَاتَهُ، وَاغْفِرْ لَهُ" فَدَعَا لِي بِثَلاثٍ، فَدَفَنْتُ مِائَةً وَثَلاثَةً، أي من الأولاد والأحفاد، وَإِنَّ ثَمَرَتِي، أي ما يزرعه من ثمار "لَتُطْعِمُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، وَطَالَتْ حَيَاتِي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنَ النَّاسِ، وَأَرْجُو الْمَغْفِرَةَ" [الأدب المفرد مخرجا: 653، الصحيحة: 6/ 42].

 

عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ" [سنن الترمذي: 2416، وانظر: الصحيحة: 946].

 

عباد الله: إِن المنايا قد دقَّتْ واقتربت، فالنفوس رهينة قد جَمعت وتَعبت، كأنكم بأكفِّ الردى قد أُخذت وسُلبت، رُبَّ شمسٍ طالعة على الْقَبْر قد غربت، يَا فراخ الفنا! فخاخُ البِلى قد نُصبت.

 

عباد الله: كلُّ الْمعاصِي قد سُطِّرت وكُتبت، والنفوس رهينةٌ بِمَا جنت واكتسبت: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة: 286].

 

يَا مَن يغترُّ بالأماني والآمال الكواذب، ومبارزٌ بالقبايح وَمَا يدْرِي من يحارب؟ يَا حَاضرَ الْبدنِ غيرَ أَن الْقلب غَائِب! أرضيت أَن تفوتَك الْخيرَاتُ والرغائب؟ يَا من عمره يفنى فِي مَمَرِّه ويسري كالنجائب! يَا من شَاب وَمَا تَابَ هَذَا من الْعَجَائِب!.

 

يَا عجباً! كَيفَ نَام الْمَطْلُوب وَمَا غفل الطَّالِب؟! [الكبائر، للذهبي، ص: 159].

 

وتوبوا إلى الله واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمد الشاكرين الصابرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم صل وسلم وبارك على النبي الأمي الأمين، وآله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

وبعد:

 

أما من أضاعوا أعمارهم في غير طاعة، وأفنوا حياتهم بغير توحيد، ولا إيمان، فهؤلاء باؤوا بالخسران، انظروا إلى الكفار من أقوام الأنبياء، انظروا واعتبروا من فرعون، وقارون، وهامان، وأُبيِّ بن خلف.

 

اعتبروا من كفار الشرق والغرب كيف ضيعوا أعمارهم في الدنيا، وتركوا الإيمان بالله، والعمل للآخرة؟ فتركوا الدنيا وخلفوها وراءهم، وأقبلوا على الآخرة لينالوا نتيجة ما فرَّطوا، قال سبحانه: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ * وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنعام: 31 - 32].

 

ولا ننس -عباد الله- اغتنامَ الأيامِ التي تمرُّ علينا، خصوصا الأيامُ التي اصطفاها الله -تعالى- بمزيد من الاهتمام، وبهذه المناسبة؛ ومن كانت عنده همة للصيام، فليصمْ الثلاثاءَ القادمَ والأربعاءَ والخميس؛ ليدرك صيامَ يومِ عاشوراء، الذي سيصادف الأربعاءَ أو الخميس، ومن شاءَ اقتصر على صيامِ الأربعاء والخميس، ليخرج من الخلاف بين الدول.

 

وخسِر من استخدمَ نفسَه يوم عاشوراء للَّطْمِ والصياحِ والنواح، كما يفعله بعض الجهلة في مشارقِ الأرض ومغاربها، وهي أفعال شنيعة، ليست من دين الله في شيء، بل هي من تسويلِ الشيطانِ ووسوسته، واختراعه، ووجِدَ له مروِّجون.

 

قال بعض الفضلاء: "إن شرَّ السُرَّاقِ الخطباءُ الذين يستغلُّون المنبرَ لأغراضهم الشخصية؛ لأنهم يسرقونَ أعمارَ الناس، فهم شرٌّ ممَّنْ يسرقُ أموالهم" [دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ: 1/ 93].

 

عباد الله: صلُّوا وسلِّموا على رسول الله، استجابة لأمر الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلِّم وباركْ على نبينا محمد، وعلى آلِه البررةِ الطاهرين، وعلى الصحابة الكرامِ الطيبين، بدايةً بالخلفاء الأربعة، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعلى سائر العشرة المبشرين، وكلِّ الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

اللهُمَّ أَصْلِحْ لنا دِيننا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرنا، وَأَصْلِحْ لنا دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا مَعَاشنا، وَأَصْلِحْ لنا آخِرَتنا الَّتِي فِيهَا مَعَادنا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لنا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لنا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].

 

 

المرفقات

العمر خير للمؤمن المسلم وشر للفاسق الكافر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات