طفولة خير البشر

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2021-06-11 - 1442/11/01 2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/بادية بني سعد منهل القوة والفصاحة 2/حياة اليتم وصعوبات الطفولة 3/التهيؤ للصدارة 4/مشاركة الأسرة في أعمالها ومهماتها.

اقتباس

إِنَّ طُفُولَةَ نَبِيِّنَا الْكَرِيمِ مَدْرَسَةٌ تَتَعَلَّمُ مِنْهَا الْأَجْيَالُ، وَيَنْشَأُ عَلَى عِبَرِهَا خِيَارُ الرِّجَالِ؛ فَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَرْحَلَةُ النَّبَوِيَّةُ مَرْحَلَةً لِكَثْرَةِ اللَّهْوِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَعُودُ بِالْفَائِدَةِ الْحَاضِرَةِ وَالْمُسْتَقْبَلِيَّةِ لِلنَّبِيِّ الْعَظِيمِ...

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَلْ عَرَفَتِ الْبَشَرِيَّةُ إِنْسَانًا أَسْمَى مِنْ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهَلْ قَرَأَتْ سِيرَةَ عَظِيمٍ كَسِيرَتِهِ، وَهَلْ سَمِعَتْ بِقُدْوَةٍ مُكْتَمِلَةِ الْجَوَانِبِ يَقْتَدِي بِهِ عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ زَمَانِهِ إِلَى زَمَانِنَا؛ كَقُدْوَتِنَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟

 

سَرِّحْ طَرْفَكَ -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ- فِي حَيَاةِ الْعُظَمَاءِ فَلَنْ تَجِدَ شَخْصِيَّةً يُمْكِنُ لِلنَّاسِ أَنْ يَتَرَبَّوْا بِقِرَاءَةِ مَرَاحِلِهَا الْعُمْرِيَّةِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الْمَرَاحِلِ الْعُمْرِيَّةِ الَّتِي مَرَّ بِهَا نَبِيُّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَصَدَقَ اللَّهُ إِذْ يَقُولُ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الْأَحْزَابِ: 21].

 

إِنَّ مَرْحَلَةَ الطُّفُولَةِ مَرْحَلَةٌ عُمْرِيَّةٌ تَحْتَاجُ إِلَى عِنَايَةٍ تَرْبَوِيَّةٍ فَائِقَةٍ؛ حَتَّى يَنْطَلِقَ مِنْهَا الطِّفْلُ صَالِحًا رَاشِدًا فِي بَقِيَّةِ مَرَاحِلِ عُمْرِهِ، وَهَكَذَا نَجِدُ طُفُولَةَ خَيْرِ الْبَشَرِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَنَحْنُ الْيَوْمَ سَنَعْبُرُ الزَّمَانَ جِيلًا إِثْرَ جِيلٍ إِلَى زَمَانِ طُفُولَةِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِنَقْرَأَ طُفُولَتَهُ النَّقِيَّةَ لِكَيْ نُرَبِّيَ مِنْ خِلَالِهَا أَطْفَالَنَا عَلَى تِلْكَ الدُّرُوسِ التَّرْبَوِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ تِلْكَ الطُّفُولَةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُشْرِقَةِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ طُفُولَةَ نَبِيِّنَا الْكَرِيمِ مَدْرَسَةٌ تَتَعَلَّمُ مِنْهَا الْأَجْيَالُ، وَيَنْشَأُ عَلَى عِبَرِهَا خِيَارُ الرِّجَالِ؛ فَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَرْحَلَةُ النَّبَوِيَّةُ مَرْحَلَةً لِكَثْرَةِ اللَّهْوِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَعُودُ بِالْفَائِدَةِ الْحَاضِرَةِ وَالْمُسْتَقْبَلِيَّةِ لِلنَّبِيِّ الْعَظِيمِ، كَمَا هُوَ حَالُ غَيْرِهِ مِنَ الْأَطْفَالِ؛ بَلْ كَانَتْ مَرْحَلَةً عَامِرَةً بِالتَّرْبِيَةِ عَلَى مَا يَعُودُ عَلَى الطِّبَاعِ وَاللِّسَانِ وَالْبَدَنِ بِالْخَيْرِ الْكَثِيرِ؛ فَلَقَدْ كَانَتِ الْبَادِيَةُ فِي تِلْكَ الْحِقْبَةِ التَّارِيخِيَّةِ هِيَ الرَّوْضَةَ وَالْمَدْرَسَةَ الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي يَتَلَقَّى مِنْهَا الْأَطْفَالُ دُرُوسَ إِتْقَانِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيّ مِنْ أَفْوَاهِ أَهْلِهِ، الَّذِينَ لَمْ يُلَازِمُوا الْعَيْشَ فِي الْحَاضِرَةِ كَمَكَّةَ؛ فَتَخْتَلِطَ أَلْسِنَتُهُمْ بِأَلْسِنَةِ الْأَعَاجِمِ الْقَادِمِينَ لِلتِّجَارَةِ إِلَى الْحَوَاضِرِ.

 

وَكَانَتِ الْبَادِيَةُ أَيْضًا مَلَاذًا لِلطَّبِيعَةِ الْهَادِئَةِ النَّقِيَّةِ الَّتِي تَسْتَنْشِقُ مِنْهَا الرُّوحُ حَيَوِيَّتَهَا وَجِمَالَهَا وَعَافِيَتَهَا؛ فَهِيَ بِمَثَابَةِ مَشْفًى صِحِّيٍّ يَنْقُلُ إِلَيْهِ بَعْضُ الْحَضَرِيِّينَ أَبْنَاءَهُمْ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرَاضِ الْحَاضِرَةِ.

 

وَكَانَتِ الْبَادِيَةُ كَذَلِكَ مُعَسْكَرًا لِلصِّغَارِ يَتَرَبَّوْنَ فِيهِ عَلَى الْجَلَدِ وَالْخُشُونَةِ، وَتَنْمِيَةِ مَعَانِي الرُّجُولَةِ مُنْذُ الطُّفُولَةِ، فَرِقَّةُ الْحَاضِرَةِ لَا تُسَاعِدُ عَلَى تَنْمِيَةِ هَذِهِ الْغَايَةِ الْمَنْشُودَةِ؛ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ: "وَكَانَتِ الْعَادَةُ عِنْدَ الْحَاضِرِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَنْ يَلْتَمِسُوا الْمَرَاضِعَ لِأَوْلَادِهِمُ ابْتِعَادًا لَهُمْ عَنْ أَمْرَاضِ الْحَوَاضِرِ؛ وَلِتَقْوَى أَجْسَامُهُمْ، وَتَشْتَدَّ أَعْصَابُهُمْ، وَيُتْقِنُوا اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ فِي مَهْدِهِمْ، فَالْتَمَسَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَرَاضِعَ، وَاسْتَرْضَعَ لَهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَهِيَ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ..."(الرَّحِيقُ الْمَخْتُومُ).

 

وَمِنْ بَادِيَةِ بَنِي سَعْدٍ نَسْتَلْهِمُ ثَلَاثَ رَسَائِلَ تَرْبَوِيَّةٍ -مَعْشَرَ الْآبَاءِ-:

أُولَاهَا: أَنْ تُعْنَوْا بِتَرْبِيَةِ أَوْلَادِكُمْ عَلَى حُبِّ الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّخَاطُبِ بِهَا، وَتَقْدِيمِهَا عَلَى كُلِّ اللُّغَاتِ؛ لِأَنَّهَا لُغَةُ قُرْآنِنَا، وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا، وَلَنْ نَفْهَمَ الْوَحْيَيْنِ إِلَّا بِفَهْمِ اللُّغَةِ الَّتِي جَاءَا بِهَا؛ فَأَطْفَالُنَا الْيَوْمَ يَعِيشُونَ مُزَاحَمَةً شَدِيدَةً لِلُغَتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ بِلُغَاتٍ أُخْرَى فِي مَرَاحِلِهِمُ الِابْتِدَائِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمُزَاحَمَةُ -بِلَا شَكٍّ- سَتُؤَثِّرُ عَلَيْهِمْ سَلْبًا فِي إِجَادَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَحُبِّهَا.

 

وَلَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنْ إِبْعَادَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ لُغَةِ دِينِهِمْ، وَالْحَيْلُولَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّحَدُّثِ بِهَا وَفَهْمِهَا مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ أَعْدَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْعَزِيزَةِ.

 

وَثَانِي هَذِهِ الرَّسَائِلِ: أَنْ تَحْرِصُوا عَلَى تَنْشِئَةِ أَوْلَادِكُمْ تَنْشِئَةً صِحِّيَّةً، وَأَنْ تُجَنِّبُوهُمُ الْبِيئَاتِ الْمَوْبُوءَةَ؛ فَالْوِقَايَةُ خَيْرٌ مِنَ الْعِلَاجِ.

 

وَثَالِثُهَا: أَنْ تُرَبُّوا أَبْنَاءَكُمْ عَلَى الْقُوَّةِ وَالْجَلَدِ، فَإِيَّاكُمْ وَالتَّرْبِيَةَ النَّاعِمَةَ، وَكَثْرَةَ التَّدْلِيلِ؛ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ الطِّبَاعَ بِقَدْرِ إِفْسَادِهَا مِنَ الْأَجْسَادِ، فَـ"التَّدْلِيلُ وَتَلْبِيَةُ الرَّغَبَاتِ وَتَوْفِيرُ أَكْثَرِ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْكَمَالِيَّةِ سَبَبٌ فِي إِفْسَادِ الطِّفْلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَوَّدُ عَلَى التَّرَفِ، وَيَعْجِزُ فِي مُسْتَقْبَلِهِ عَنْ مُوَاجَهَةِ الْوَاقِعِ، وَلَنْ يَسْتَطِيعَ تَحَمُّلَ الْمَسْئُولِيَّاتِ بِسَبَبِ تَدْلِيلِ الْوَالِدَيْنِ لَهُ".

 

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: وَفِي طُفُولَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ الْيُتْمُ هُوَ الْأَرْضَ الَّتِي تَرَعْرَعَ فِيهَا خَيْرُ الْبَشَرِ، فَذَاقَ مُرَّ فَقْدِ الْوَالِدِ؛ حَيْثُ لَمْ تَكْتَحِلْ عَيْنَاهُ بِرُؤْيَتِهِ قَطُّ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ فَقَدَ الْحِضْنَ الدَّافِئَ الَّذِي كَانَ يُنْسِيهِ يُتْمَهُ؛ حَيْثُ مَاتَتْ أُمُّهُ وَهُوَ فِي السَّادِسَةِ مِنْ عُمْرِهِ، وَهَكَذَا غَدَا خَيْرُ الْبَشَرِ بِلَا وَالِدٍ وَلَا وَالِدَةٍ.

أَخَذَ الْإِلَهُ أَبَا الرَّسُولِ وَلَمْ يَزَلْ *** بِرَسُولِهِ الْفَرْدِ الْيَتِيمِ رَحِيمَا

نَفْسِي الْفِدَاءُ لِمُفْرَدٍ فِي يُتْمِهِ *** وَالدُّرُّ أَحْسَنُ مَا يَكُونُ يَتِيمَا

 

غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ أَلْقَى عَلَى قَلْبِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حُبَّهُ الْعَظِيمَ؛ فَكَفَلَهُ وَرَعَاهُ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ؛ وَلَمْ يَدَعِ اللَّهُ رَسُولَهُ الْكَرِيمَ بِدُونِ كَافِلٍ، فَكَفَلَهُ بَعْدَ جَدِّهِ: عَمُّهُ الْعَطُوفُ أَبُو طَالِبٍ، وَبِذَلِكَ حَفِظَ اللَّهُ نَبِيَّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا كَانَ يُعَانِيهِ الْيَتَامَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ مِنَ اسْتِضْعَافٍ وَهَضْمٍ وَظُلْمٍ، قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ -تَعَالَى- مُمْتَنًّا عَلَيْهِ: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)[الضُّحَى:6]؛ "فَالْمَعْنَى: أَنْشَأَكَ عَلَى كَمَالِ الْإِدْرَاكِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَكُنْتَ عَلَى تَرْبِيَةٍ كَامِلَةٍ، مَعَ أَنَّ شَأْنَ الْأَيْتَامِ أَنْ يَنْشَؤُوا عَلَى نَقَائِصَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَنْ يُعْنَى بِتَهْذِيبِهِمْ، وَتَعَهُّدِ أَحْوَالِهِمُ الْخُلُقِيَّةِ؛ فَكَانَ تَكْوِينُ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ عَلَى الْكَمَالِ خَيْرًا مِنْ تَرْبِيَةِ الْأَبَوَيْنِ".

 

وَرَغْمَ هَذِهِ الرِّعَايَةِ التَّامَّةِ الَّتِي لَقِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَالَ يُتْمِهِ إِلَّا أَنَّ صُعُوبَاتِ الْيُتْمِ وَمَرَارَتَهُ تَبْقَى حَاضِرَةً فِي ذَاكِرَةِ الْيَتِيمِ وَوَاقِعِهِ، وَبِالتَّالِي يُشْفِقُ هَذَا الْيَتِيمُ فِي كِبَرِهِ عَلَى مَنْ شَارَكَهُ هَذَا الْوَصْفَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: "الْحِكْمَةُ فِي يُتْمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ الْأَيْتَامِ؛ فَيَقُومَ بِأَمْرِهِمْ، وَأَنْ يُكْرِمَ الْيَتِيمَ الْمُشَارِكَ لَهُ فِي الِاسْمِ".

 

وَمِنْ هُنَا يَجِبُ أَنْ نُحْسِنَ إِلَى الْيَتَامَى، وَنَرْحَمَهُمْ؛ كَيْ نُخَفِّفَ عَنْهُمْ وَطْأَةَ الْيُتْمِ، وَقَسْوَةَ الْفَقْدِ لِلْوَالِدِ، وَفِي هَذَا السِّيَاقِ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلَّا لِلَّهِ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ، وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى يَتِيمَةٍ أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَهُ، كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

وَلِذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- لَمَّا قَالَ لِنَبِيِّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)[الضُّحَى:6]، قَالَ بَعْدَهَا: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ)[الضُّحَى: 9]؛ أَيْ: كَمَا كُنْتَ يَتِيمًا فَآوَاكَ اللَّهُ فَلَا تَقْهَرِ الْيَتِيمَ؛ أَيْ: لَا تُذِلَّهُ وَتَنْهَرْهُ وَتُهِنْهُ، وَلَكِنْ أَحْسِنْ إِلَيْهِ، وَتَلَطَّفْ بِهِ"(تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ).

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا بِالْيَتَامَى رُحَمَاءَ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ سُعَدَاءَ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَفِي طُفُولَةِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَشْهَدٌ آخَرُ مِنْ مَشَاهِدِ رِعَايَةِ جَدِّهِ لَهُ؛ لِمَا كَانَ يَرَى فِيهِ مِنَ النَّجَابَةِ الْمُبَكِّرَةِ، وَتَوَقُّعِ عَظِيمِ شَأْنِهِ مُسْتَقْبَلًا؛ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَيَقُولُ: "كَانَ يُوضَعُ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِرَاشٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَكَانَ بَنُوهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَ فِرَاشِهِ ذَلِكَ، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَيْهِ، لَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ إِجْلَالًا لَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْتِي، وَهُوَ غُلَامٌ جَفْرٌ، حَتَّى يَجْلِسَ عَلَيْهِ، فَيَأْخُذُهُ أَعْمَامُهُ لِيُؤَخِّرُوهُ عَنْهُ، فَيَقُولُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ -إِذَا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ-: دَعَوُا ابْنِي؛ فَوَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَشَأْنًا، ثُمَّ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَاشِ، وَيَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، وَيَسُرُّهُ مَا يَرَاهُ يَصْنَعُ".

نِعَمُ الْإِلَهِ عَلَى الْعِبَادِ كَثِيرَةٌ *** وَأَجَلُّهُنَّ نَجَابَةُ الْأَوْلَادِ

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَمِنْ جَوَانِبِ طُفُولَةِ خَيْرِ الْبَشَرِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُشَارَكَةُ أُسْرَتِهِ فِي أَعْمَالِهَا وَمُهِمَّاتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُنَا الْكَرِيم -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- غَافِلًا عَمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارِكَ بِهِ أُسْرَتَهُ فِي مَصَالِحِ دُنْيَاهَا، فَمِنْ تِلْكَ الْأَمْثِلَةِ: أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ سِنَّ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ خَرَجَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فِي رِحْلَةٍ تِجَارِيَّةٍ إِلَى الشَّامِ.

 

وَلَا شَكَّ أَنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- شَارَكَ أُسْرَتَهُ فِي أَعْمَالٍ أُخْرَى غَيْرِ هَذَا، فَفِي هَذَا تَوْجِيهٌ تَرْبَوِيٌّ أَنَّ عَلَى الْآبَاءِ تَوْجِيهَ أَطْفَالِهِمْ إِلَى التَّكَسُّبِ الْمُمْكِنِ، وَالْمُشَارَكَةِ لِلْأُسْرَةِ فِي حَاجَاتِهَا، حَسْبَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ فِيهِ إِشْغَالًا لَهُمْ بِالنَّافِعِ لِيَكُفُّوا عَنْ غَيْرِ النَّافِعِ؛ وَكَمْ مِنْ أَبٍ أَحَبَّ تَدْلِيلَ وَلَدِهِ، وَالرَّحْمَةَ الزَّائِدَةَ بِهِ فَأَعْفَاهُ عَنْ ذَلِكَ صَغِيرًا، فَصَارَ عَالَةً عَلَيْهِ فِي حَاجَاتِ عَيْشِهِ كَبِيرًا!

 

عِبَادَ اللَّهِ: لِنَجْعَلْ طُفُولَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُصْبَ أَعْيُنِ أَطْفَالِنَا؛ لِيَقْتَدُوا بِهَذِهِ الْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ، وَيَنْشَئُوا عَلَى مَا نَشَأَ عَلَيْهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ نُحَدِّثَهُمْ عَنْ طُفُولَتِهِ النَّجِيبَةِ، وَنُرَبِّيَهُمْ عَلَى دُرُوسِهَا التَّرْبَوِيَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِنَايَةِ بِالنَّقَاءِ وَشَرَفِ النَّفْسِ، وَالْجَلَدِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، وَالتَّهَيُّؤِ لِلصَّدَارَةِ فِي سَمَاءِ الْمَعَالِي، وَمُسَاعَدَةِ الْأَهْلِ وَالنَّاسِ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَنُرْشِدُهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ النَّقِيِّ الَّذِي سَلَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي طُفُولَتِهِ حَتَّى كَانَ سَبِيلًا مُوَصِّلًا إِلَى الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، فَسَلَامَةُ الْبِدَايَةِ تُوصِلُ إِلَى سَلَامَةِ النِّهَايَةِ بِإِذْنِ اللَّهِ.

 

فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ جَعَلَ فِي طُفُولَةِ رَسُولِ اللَّهِ قُدْوَةً لِأَوْلَادِهِ، وَرَبَّاهُمْ عَلَى هَدْيِهِ وَإِرْشَادِهِ.

 

(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الْفُرْقَانِ: 74].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

طفولة خير البشر.doc

طفولة خير البشر.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات