طفلة الرياض وذكريات الرحمة

عادل العضيب

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ حادثة طفلة الرياض هزت المجتمع 2/ وجوب الرحمة بالأطفال 3/ رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأطفال 4/ مفاسد كون الأطفال ضحية للخلافات 5/ كثرة مآسي أطفال المسلمين في كل مكان

اقتباس

لماذا يصبح الطفل ضحيةً، لماذا يصفِّي الأب خلافه مع الأم، وينتقم منها بحرمان الطفل من أمه، أنت تنتقم من طفل لا ذنب له. كم تشتكي الأم من أن الزوج طردها، وسحب الأولاد ولم تراهم من أشهر، بل قال بعضهم لما نُصح: سأحرق قلبها. أمَا تَخشى أن يسلّط الله عليك من يحرق قلبك. ارحموا الأطفال! أخرجوهم من دائرة الخلافات، لماذا يصبحون ضحية والد فاجر أو أم قاسية، وأنتم يا من طلقتم زوجاتكم وبينكم أولاد ..

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله..

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]،  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70- 71].

 

أما بعد: فيا عباد الله: حادثة حدثت في الأسبوع الماضي هزت المجتمع السعودي، وأشعلت مواقع التواصل الاجتماعي حادثة طفلة الرياض.

 

طفلة لم تتجاوز الثالثة من عمرها تغيب عن أهلها عن والدتها ما يزيد على عشر أيام، لن أتكلم عن مستوى الإجرام والفجور الذي وصل له الخاطف، ولا عن انعدام الرحمة من قلبه، ولكني أتفكر في مشاعر الأم حتى ندرك كم عانت أمهاتنا.

 

الأم صرحت بأنها لا تهنأ بطعام ولا شراب، قتلتها الأفكار؛ لا تدري أحية أو ميتة؟ وإن كانت حية هل تأكل؟ هل تشرب؟ هل تنام؟ هل تعذب؟ هل يُقسَى عليها؟

 

أيام من الألم والهم والغم، والشقاء لا تُنسَى ..

 

أتذكر أم موسى -عليه السلام- وضعَت وفرعون يقتل الأولاد، الموت ينتظره لا محالة، أوحى الله لها أن تلقيه في اليم.. وضعته في صندوق وألقته في اليم، لكنَّ القلب خائف، قالت لأخته: قُصِّيه فذهبت تمشي على الشاطئ حتى أخذه جنود فرعون.

 

الأم تعلم بمكانه، لكن حبَّها لابنها كاد أن يقتلها، يا الله ما أحلى تعبير القرآن (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [القصص:10].

 

لا زالت الحسرة تمزِّق قلبها على موسى وهي تدري بمكانه -فكيف بتلك الأم التي فقدت ابنتها- كاد القلب أن ينفطر فرده الله لها (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ) لماذا؟ (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، لا إله إلا الله؛ أي حب ورحمة تسكن في قلب الأم.

 

أتذكر المرأة التي كانت في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت في السبي تبحث عن ولدها؛ كأنها فقدت عقلها كلما أخذت طفلاً وجدته ليست ولدًا لها ألقته، فلما وجدت ولدها ضمته إلى صدرها ضمة رحمة وحنان، وألقمته ثديها أمام الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: "أترون هذه تلقي بولدها في النار؟"، قالوا: لا والله يا رسول الله وهي تقدر، فقال عليه الصلاة والسلام: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها"!!

 

أتذكر المرأة التي دخلت على عائشة -رضي الله عنها- ومعها صبيان فأعطتها عائشة ثلاث تمرات فأعطت كل صبي تمرة، وأمسكت ببيدها تمرة، فأكل الصبيان التمرتين، ثم نظرا إلى أمهما فشقَّت التمرة بين ولديها وظلت جائعة، ضحَّت لأجلهما تحملت الجوع لأجل صبييها.

 

فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته عائشة الخبر فقال لها عليه الصلاة والسلام: "وما يعجبك من ذلك، لقد رحمها الله برحمتها صبييها"، أيّ رحمة تسكن قلوب الأمهات! أيّ تضحية ضحَّتها تلك القلوب الطاهرة!

 

أتذكر كم مرَّ على أمهاتنا من لحظات الألم نتأخر في لهو ولعب، وهي تعد الدقائق وليس لها ملاذ إلا نثر الدموع وذرف العبرات.

 

إذا مرض أحدنا لم تكتحل بنوم، إذا سافر عاش في قلبها حتى يرجع، كم بكت من أم بسبب ابنها؟! بالله عليكم لا تنسوا تلك اللحظات، ولو شاب الرأس، فأنتم صغار في أعين أمهاتكم، لا تنسوا ذاك المعروف، ولو وُسِّدت أمهاتكم الثرى.

 

تذكروا دائما الكفَّ الحاني، والحضن الدافئ، تذكروا كم بذلت! وكم صبرت! وكم ضحت! اللهم ارحم من ربونا صغارًا.

 

أنظر للخاطف وما وصل له من فجور، امتد إلى طفلة بريئة لا ذنب لها، ولا خطيئة، ثم أتذكر رسولنا -عليه الصلاة والسلام- ورحمته بالأطفال. خرج بأمامة ابنة ابنته وصلى بالناس وهو حامل لها يرحمها، لقد ماتت أمها وتركتها، ما أرحمك يا رسول الله!!

 

أتذكر رحمته بالأطفال لما قبل -عليه الصلاة والسلام- الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس فقال: إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلت منهم أحداً فقال -عليه الصلاة والسلام-: "من لا يرحم لا يُرحم".

 

أتذكر رحمته -عليه الصلاة والسلام- بالأطفال يوم أرسلت له إحدى بناته تطلب منه أن يحضر ولده الذي حضره الموت، فجاء -عليه الصلاة والسلام- فرُفع له الصبي ونفسه تقعقع في صدره، فبكى -عليه الصلاة والسلام- وفي القوم سعد بن عبادة فقال له: ما هذا يا رسول الله؟ قال: "هذه رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".

 

أتذكر ذا القلب الرحيم ، ثم أتذكر بعض الآباء الذين مزقوا أجساد أولادهم بلا رحمة ولا شفقة يعاقبونهم بطريقة لا تتحملها البهائم.

 

وأتذكر ما يعانيه بعض الأطفال من زوجة الأب! ما ذنب هذا الطفل المسكين لماذا يصبح ضحية لماذا ينتقم منه؟ لماذا يذوق آلام البؤس والشقاء، والكارثة أن زوجة الأب تتولى التحريش والذي ينفذ الأب. ولكن سيذوقون عاقبة ما فعلوا وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون.

 

وأتذكر الأطفال الذين صاروا ضحية خلافات بين الأب والأم، بين الأسرة والأسرة لأجل الحضانة فصار يسلم ويستلم في مركز الشرطة؛ كأنه مجرم. قاتل الله الفجور.

 

كم أتمنى أن تلغى هذه الطريقة، ويبحث عن بديل؛ فلماذا يصبح الطفل ضحية؟! لماذا يصفِّي الأب خلافه مع الأم وينتقم منها بحرمان الطفل من أمه؟! أنت تنتقم من طفل لا ذنب له.

 

كم تشتكي الأم من أن الزوج طردها، وسحب الأولاد ولم تراهم من أشهر، بل قال بعضهم لما نُصح: سأحرق قلبها. أمَا تَخشى أن يسلّط الله عليك من يحرق قلبك؟!

 

ارحموا الأطفال! أخرجوهم من دائرة الخلافات. لماذا يصبحون ضحية والد فاجر أو أم قاسية؟! وأنتم يا من طلقتم زوجاتكم وبينكم أولاد أعيدوا المياه لمجراها إن كان هناك سبيل، لا تجعلوا الأولاد يعيشون حياة اليتم وأنتم أحياء، لا تجعلوهم يعيشون مشردين بين أعمام وأخوال، بفعلكم هذا ستحرمونهم من والد أو والدة.

 

انتصروا على أنفسكم والشيطان، اتركوا الماضي خلفكم وابدءوا صفحة جديدة (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).

 

ومن الأطفال من أصبحت لديه عقدة نفسية؛ إما رعبًا أو خوفًا، أو عزلة أو انطوائية، أو غيرة بسبب ما يراه من خصام دائم بين الأبوين، أو كبر كارهًا لأبيه لما يراه من ضرب وإهانة لأمه.

 

عباد الله. أيها الآباء. أيتها الأمهات. أيها المربون: ارحموا الأطفال، ارحموا قلوبًا لا تعرف الغل ولا الحقد ولا الحسد، لا تُدخلوهم في خلافات أسرية أو بين الجيران، لا تنتقموا منهم لأجل فلان أو فلان، ولا تصفُّوا حسابكم مع أحد عن طريقهم، وتعلموا منهم الصفح والعفو وسلامة الصدر؛ فالطفل لو ضربته أتاك بعد دقائق يقبل كفّك الذي ضربه.

 

عباد الله: أقولها بكل صراحة: يا ليتني قلب طفل.

 

أعوذ بالله من الشيطان (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 87- 89].

 

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وكفى وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى.

 

أما بعد: فيا معاشر المسلمين: طفلة الرياض تذكّرني بأطفال المسلمين في بلاد الله الواسعة وما يلقونه، تذكرني بأطفال سوريا وفلسطين والعراق وبورما وغيرها، والذين يصارعون الموت في كل لحظة إن سلموا من القذف لم يسلموا من الخطف، وإن سلموا من الخطف لم يسلموا من الجوع، وإن سلموا من الجوع لم يسلموا من المرض.

 

لا يجدون الكساء ولا الغذاء، ولا الدواء، قد مزَّق البرد جلودهم الغضة وعظامهم الطرية، تراهم وهم ينتفضون من البرد أو يبحثون عن كسرة الخبز فترى البؤس والألم والشقاء. يا ربي رحماك بهم يا الله!!

 

كم قُتل من أطفال المسلمين في العراق؟! وكم قُتل في سوريا؟! كم قُتل في فلسطين؟! كم قتل في بورما؟! كم قُتل في أفغانستان؟!  كم قُتل من أطفال المسلمين؟!

 

كم قتل الغرب المجرم من أطفال المسلمين؟! ثم يتغنى بحقوق الإنسان وهم قتلة الإنسان، لم يرحموا طفلاً صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا.

 

أطفال يموتون تحت الآلة العسكرية، وأطفال يموتون من الجوع، وأطفال يموتون من المرض بلا ذنب ولا خطيئة إلا الإسلام (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج: 8- 9].

 

أطفالنا يعيشون في قمة الترف، وأطفال المسلمين يعيشون في قمة البؤس والشقاء، تخيل نفسك في تلك البلاد وأنت ترى طفلك يسارع الجوع أو المرض وأنت لا تملك له شيئا؛ بأي قلب ستعيش؟!

 

كم انفطر من قلب أمة مسلمة ليس على فراق ولد، بل على فراق زوج وأولاد وإخوة، على فراق أسرة بكاملها.

 

عباد الله: تذكروا دائمًا أطفال المسلمين، تذكروا دائما نساء المسلمين، تذكروا دائما ديار المسلمين، وإن عشتم في النعيم فليعيشوا في قلوبكم، اذكروهم ولو بدعوة، اذكروهم مع إقبال البرد بصدقة تطعم جائعهم، وتكسوا عاريهم وتواسي مريضهم.

 

اللهم كن للمستضعفين من المسلمين، اللهم كن لإخواننا في سوريا، اللهم كن للمستضعفين في بورما، اللهم كن للمستضعفين في العراق، اللهم كن للمستضعفين فلسطين، اللهم كن للمستضعفين في الأحواز، اللهم كن للمستضعفين في أفغانستان، اللهم كن للمستضعفين في مالي، اللهم كن للمستضعفين من المسلمين في كل مكان.

 

اللهم إن أمورهم ترجع إليك وأحوالهم لا تخفى عليك، اللهم إن ليلهم قد طال، اللهم عجل لهم بالفرج يا ذا الأفراج يا قوي يا قادر.

 

اللهم احقن دمائهم، اللهم احفظ أعراضهم، اللهم أطعم جائعهم، اللهم اكسُ عاريهم، اللهم فك أسيرهم، اللهم اشف مريضهم، اللهم عافِ مبتلاهم.

 

اللهم عجل لهم بالنصر والتمكين يا قوي يا قادر، اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم إنهم لا قوة ولا ناصر، اللهم مللنا مما نرى من مآسي المسلمين، اللهم فرجك، اللهم نصرك الذي وعدت يا ناصر المستضعفين، يا ناصر المستضعفين.

 

اللهم أرنا عز الإسلام قبل الممات، اللهم أرنا عز الإسلام قبل الممات، اللهم أرنا عز الإسلام قبل الممات، اللهم أرنا عز الإسلام قبل الممات.

 

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.

 

اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، اللهم أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 

سبحانك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

 

المرفقات

الرياض وذكريات الرحمة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات