عناصر الخطبة
1/ مفهوم السعادة 2/ السبيل لها 3/ أسباب عدم التلذذ بالأعمال الصالحة 4/ اغتنام العشر وترقّب ليلة القدراقتباس
إنّ السعادة الحقّة ليس لها إلا طريقٌ واحد, وهو طريق الإيمان والهداية, قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُسْتَوْجِبِ لِصِفَاتِ الْمَدْحِ وَالْكَمَالِ, الْمُسْتَحِقِّ لِلْحَمْدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي هَدَى بِهِ مِنْ الضَّلَالِ, وَأَحَلَّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ, وَوَضَعَ عَنْهُمْ الْآصَارَ وَالْأَغْلَالَ, فَصَلواتُ اللَّه وسلامُه عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ خَيْرِ آلٍ, وَعَلَى أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا نُصْرَةً لِلدِّينِ, حَتَّى ظَهَرَ الْحَقُّ وَانْطَمَسَتْ أَعْلَامُ الضَّلَالِ.
أما بعد: معاشر المسلمين، إنّ الناسَ كلَّهم يبحثون عمّا يُسعدهم ويُؤنّسهم, فالتاجر إنما يبحث عن المال لظنه أنه سببُ سعادته, والبَطَّال إنما خلد إلى الراحة والكسلِ لظنه أنه السبيلُ لسعادته, والمسؤول إنما سعى إلى منصبه لظنه أنَّ المنصب هو السرّ في سعادته؛ فهل في الوجود أحدٌ إلا وهو يبحث عن سعادته وراحتِه؟ حتى الحيواناتُ والطيورُ تبحث عمَّا يُسعدها.
ويبقى السؤال الأهم: هل كلّ مَن بحث عن السعادة وجدها؟ لا, ولو كان كذلك, لكان أسعدُ الناس أهلَ الغنى والانحلال, وقد تواتر أنّ كثيرًا منهم يعيش في بُؤْسٍ وشقاء, وهَمٍّ وبلاء, ومِنْ شدةِ شقائهم أنهم لم يطيقوا الحياة فأنهوها بأيديهم, وعجّلوا بفنائهم.
فأين هي السعادةُ لنشتريَها؟ وأين نجد الأنس واللذة والطمأنينة؟ نجدها هنا: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور:36-38].
إنّ السعادة الحقّة ليس لها إلا طريقٌ واحد, وهو طريق الإيمان والهداية, قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
إنّ أَعْظَمّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ: لَذَّةُ مَعْرِفَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَلَذَّةُ مَحَبَّتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ جَنَّةُ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا الْعَالِي، وَنِسْبَةُ لَذَّاتِهَا الْفَانِيَةِ إِلَيْهِ كَقطرةٍ فِي بَحْرٍ، فَإِنَّ الرُّوحَ وَالْقَلْبَ وَالْبَدَنَ إِنَّمَا خُلِقَ لِذَلِكَ، فَأَطْيَبُ مَا فِي الدُّنْيَا مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ, وَأَلَذُّ مَا فِي الْجَنَّةِ رُؤْيَتُهُ وَمُشَاهَدَتُهُ، فَمَحَبَّتُهُ وَمَعْرِفَتُهُ قُرَّةُ الْعُيُونِ، وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ، وَبَهْجَةُ الْقُلُوبِ، وَنَعِيمُ الدُّنْيَا وَسُرُورُهَا، فَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ إِلَّا بِاللَّهِ.
فمَحَبَّة الله -تعالى- هِيَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ، وَغِذَاءُ الْأَرْوَاحِ، وَلَيْسَ لِلْقَلْبِ لَذَّةٌ وَلَا نَعِيمٌ, وَلَا فَلَاحٌ وَلَا حَيَاةٌ إِلَّا بِهَا، وَإِذَا فَقَدَهَا الْقَلْبُ كَانَ أَلَمُهُ أَعْظَمَ مِنْ أَلَمِ الْعَيْنِ إِذَا فَقَدَتْ نُورَهَا، وَالْأُذُنِ إِذَا فَقَدَتْ سَمْعَهَا، وَالْأَنْفِ إِذَا فَقَدَ شَمَّهُ، وَاللِّسَانِ إِذَا فَقَدَ نُطْقَهُ.
فَقَدْ كَانَ بَعْضُ مَنْ ذَاقَ هَذِهِ اللَّذَّةَ يَقُولُ: "لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ". وَقَالَ آخَرُ: "إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِالْقَلْبِ أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا، إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ" وقال آخر: "مساكين أهل الدنيا! خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها"، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: "محبة الله -تعالى- ومعرفته وذكره"، وقال آخر: "إنه لَتَمُرّ بالقلب أوقاتٌ يرقص فيها طربًا".
قال ابن القيم -رحمه الله- في محبة الله -جلَّ وعلا-: "هِيَ الْمَنْزِلَةُ الَّتِي فِيهَا تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ, وَإِلَيْهَا شَخَصَ الْعَامِلُونَ, وَإِلَى عِلْمِهَا شَمَّرَ السَّابِقُونَ, فَهِيَ قُوتُ الْقُلُوبِ، وَغِذَاءُ الْأَرْوَاحِ، وَقُرَّةُ الْعُيُونِ, وَهِيَ الْحَيَاةُ الَّتِي مَنْ حُرِمَهَا فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ, وَالنُّورُ الَّذِي مَنْ فَقَدَهُ فَهُوَ فِي بِحَارِ الظُّلُمَاتِ, وَالشِّفَاءُ الَّذِي مَنْ عَدِمَهُ حَلَّتْ بِقَلْبِهِ جَمِيعُ الْأَسْقَامِ, وَاللَّذَّةُ الَّتِي مَنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهَا فَعَيْشُهُ كُلُّهُ هُمُومٌ وَآلَامٌ".
فَيَا مَنْ بَاعَ حَظَّهُ الْغَالِي بِأَبْخَسِ الثَّمَنِ، وَغُبِنَ كُلَّ الْغبْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ غُبِنَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَكَ خِبْرَةٌ بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ فَسَلِ الْمُقَوِّمِينَ، وإذا لم تَذُقْ طَعْمَ السَّعَادَةِ فَسَلِ الْمُجَرِّبِين.
واعلموا -معاشر المسلمين-: أنّ مِنْ أعظمِ الأسباب التي تحول بين العبد وبين التلذذ بالأعمال الصالحة أنْ تتَحَوَّل العبادات إلى عادات, فالصلاة التي هي قرةُ عيون المؤمنين، وراحةُ المتقين، أصبحت عند كثيرٍ من المصلين, عبارة عن حركاتٍ اعْتاد عليها, وتَفْتَقِدُ إلى الخشوعِ والطمأنينة. وأنَّى لصلاةٍ كهذه أنْ تنهى عن الفحشاء والمنكر، فتؤدي وظيفتَها في حياة الناس وسلوكِهم؟.
وشهر رمضان، الذي هو مدرسةُ التقوى والصبر, أصبح شهرَ طعامٍ وشراب، وتلذذٍ وسمر, يفهمه كثيرٌ من الصائمين امتناعًا عن الطعام والشراب في النهار، واسترسالا فيه بالليل، وأنَّى لمثل هذا الصيام أن يطهر النفوس, ويربيها على فضائل الصيام؟.
والقرآن الذي هو عمارةُ القلوب ونورُها, أصبح عند الكثير من الناس يُقرأ ولا يُفهم, ويُسرَدُ بعجلةٍ بلا تدبّر وتمعّن! وقل مثل هذا في كل شعيرة من الشعائر التعبدية.
نسأل الله أنْ يرزقنا حلاوة الإيمان, وأنْ يملأ قلوبَنَا بالأمن والاطمئنان, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، ها نحن على مشارف ليالٍ مُعظّمة, نطق بتعظيمها وتشريفها رب العالمين, فقال وهو أصدق القائلين: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [سورة القدر].
فليلة القدر من خصائص هذه العشر الأواخر, والعبادةُ في هذه الليلة خيرٌ من العبادة في ألف شهر، فالعبادة فيها خير وأفضل من العبادة في ثلاثٍ وثمانين سنة, وما يقرب من أربعة أشهر، وهذا فضل عظيم لمن وفقه الله -تعالى-.
ولأجلها كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجتهدُ في قيامها اجتهاداً عظيماً، بل ولا يفارق المسجد ترقّبًا لها, فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ وشدَّ المئزر". ومعنى شد المئزر: أي شمر واجتهد في العبادات، وقيل: كناية عن اعتزال النساء.
وعنها -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره". وهذا الإحياء شاملٌ لجميع أنواع العباداتِ من صلاةٍ وقرآنٍ وذكرٍ ودعاء، وصدقةٍ وغيرها.
ومن الحرمان العظيم: أنْ ترى كثيراً من الناس يُضيِّعون الأوقات في الأسواق والاستراحات وغيرها، فإذا جاء وقت القيام ناموا، وهذه خسارةٌ عظيمة!.
فعلى العاقل أنْ يجتهد في هذه العشر المباركة, فلعله تصيبُه نفحةٌ من نفحات الله -تعالى-, فيسعد بها سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا.
اللهم إننا نسألك بأننا نشهد ألا إله إلا أنت, الواحد الأحد, الفرد الصمد, أنْ تُبلغنا ليلة القدر, وأنْ تتقبلها منا.
اللهم مَن اجتهد منا في هذا الشهر فارزقه القبول والثبات, ومَن قصَّر منا فارزقه التوبة والهداية قبل الممات, إنك على كل شيء قدير.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم