عناصر الخطبة
1/قصص قوم عرفوا معنى العفة والعفاف 2/ ثمرة العفة والعبادة 3/ قصة عجيبة في العفة وعاقبة أجمل 4/ زمن عجيب وتطلع إلى المحرماتاقتباس
إن المرء يقف حائراً أمام قوم يبكون خشية الوقوع في الحرام، ويقابلهم قوم يبكون إن فاتهم الحرام، قوم يبحثون بكل جهدهم وبمختلف وسائل المكر الشيطانية والبشرية عن الحرام، يقف حائراً أمام قوم تأتي إلى أحدهم المرأة عارضة نفسها جاهزة بلا تعب ولا نصب فيرفضونها بكل ما أوتوا من قوة، وقوم تجد أحدهم هائماً على وجهه كالثور الهائج يجوب الأسواق، ويتنقل عبر أسلاك الهاتف لا همّ له إلا شريفة أو عفيفة يسعى للإيقاع بها، والفتك بعرضها وشرفها وعفافها, وكأنه ما خُلق إلا لشهوته تلك...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحليم الكريم المنان، الرحيم العظيم الرحمان، خالق الإنس والجان، لا يحد من قدرته واطلاعه على عباده زمان ولا مكان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وعد من أطاعه واتقاه بحبوحة الجنان، وتوعد من أعرض عن شريعته وعصاه ضيق وضنك النيران.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إلى الثقلين الإنس والجان وخيرة الخلق على مدى الأزمان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين له بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله يعظم الله لكم الأجر من جعل جزاء الإحسان الإحسان؛ حيث قال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق: 5].
من يتق الله يجعل عسره يسراً *** ويُعْظِمُ الله بالتقوى له أجراً
تقوى القلوبِ تزيدُ العبدَ تبصرةً *** بدينه وتنيرُ العقلَ والفِكرا
لا يعرف العبد للإيمانِ لِذَتهُ *** حتى يصير تقياً شارحاً صدراً
العدلُ أقرب للتقوى وأكرمهم *** عند الإلهِ هو الأتقى الذي برا
يُجنبُ الله أتقاهم جهنمه *** فلا يحس لها شَوباً ولا قرًّا
أيها الأحبة في الله: تعرضت في الخطبة الماضية للعفة وثمارها في الدنيا والآخرة، واليوم أقف وإياكم على قصص قوم عرفوا معنى العفة والعفاف، فضربوا للأجيال على مدى الأزمان أروع الأمثلة على ذلك، فمن كتاب الله قصة يوسف -عليه السلام- وقد سبق التعرض لها.
ومن الحديث سبق ذكر قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، وسدّت عليهم ذلك الغار صخرةٌ فأنقذهم الله، وكان من بين أسباب إنقاذهم أن بينهم رجلاً مخلصاً عفيفاً.
ومن الحديث أيضاً ما أخرجه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر لهم الثلاثة الذين تكلموا في المهد وذكر منهم جريجاً العابد وجاء فيه: ".. فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتْ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ. قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ. فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ فَجَاءُوا بِهِ؟ فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي. قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ فَفَعَلُوا.. "(صحيح مسلم، البر والصلة والآداب، ح 4626).
أرأيتم أحبتي ثمرة العفة والعبادة! أنطق الله الطفل الصغير ليشهد ببراءة ذلك العفيف، وإن أحفاد الذين أرسلوا على جريج تلك المومسة الجميلة الفاتنة هم الذين يرسلون على أبناء الإسلام وأبناء مكة اليوم صور المومسات عن طريق القنوات أو صفحات الإنترنت ليفتنوهم عن دينهم.
وما علموا أن شباب مكة الذين ينظرون إلى الكعبة المشرفة؛ بيت الله بأعينهم، يستحون أن ينظروا بتلك العيون الطاهرة إلى الحرام، ما علموا أن الذين ينظرون بأعينهم إلى آيات الله في المصحف يستحون أن ينظروا بتلك العيون إلى الحرام، وأن الذين يسمعون الآذان في كل يوم خمس مرات ينطلق من بيت الله الحرام تعفّ آذانهم عن السمع الحرام.
ما عرفوا أن عباد الله المؤمنين أيقنوا بأن رحمة نعمة البصر من الله، وأنهم يخشون إن خالفوا أمره فيها أن يسلبهم الله إياها، وأيقنوا أن نعمة السمع من الله فيخشون إن خالفوا أمره فيها أن يسلبهم إياها، وكذا بقية النعم؛ فيحجبهم ذلك عن الحرام.
ذكر أهل السير أن شابّاً كان يبيع البز (القماش) ويضعه على ظهره ويطوف بالبيوت، وكان شاباً قد أوتي من الجمال قدراً كبيراً، وفي يوم من الأيام وبينما هو يمارس تجارته على حاله إذ أبصرته امرأة فنادته، فجاء إليها على ظنّ أنها تريد الشراء منه، وأمرته بالدخول إلى داخل المنزل ثم بعد أن دخل قالت له: إنني لم أدعُك لأشتري منك.. وإنما دعوتك لمحبتي لك، ولا يوجد في الدار أحد، ودعته إلى نفسها، فذكَّرها بالله وخوَّفها من أليم عقابه.
ولكن هيهات فإن الرجل أو المرأة إذا سيطرت عليه الشهوة تحول إلى عبد لها يغلق بصره وسمعه عن كل شيء إلا نداء الشهوة، ويتعطل عقله وفكره فيصبح كالبهيمة -أعزكم الله- لا همّ له إلا تحصيل تلك الشهوة مهما فعل في سبيل ذلك.
فلما رأته ممتنعاً من الحرام شريفاً عفيفاً، قالت: إذا لم تفعل ما آمرك به صِحْت في الناس وقلت لهم: دخل داري، ويريد أن ينال من عفتي وسوف يصدِّق الناس كلامي لأنك داخل بيتي، فلما رأى إصرارها على الإثم والعدوان قال: دعيني أدخل إلى الحمام للنظافة، ففرحت بذلك فرحاً شديداً، ودخل إلى الحمام وهو حائر في الأمر لا يدري ما يعمل ولما علم منه علام الغيوب صدقه وعفته عن الحرام، هداه لفكرة حيث أخذ أعزكم الله من قاذورات ذلك الحمام ولطخ بها جسده كله ثم بكى، وقال: رباه إلهي وسيدي خوفك جعلني أعمل هذا العمل فأخلِفْ عليَّ خيراً.
وخرج إليها من الحمام، فلما رأت حاله صاحت به أخرج أيها المجنون! فأخذ متاعه وخرج والناس يضحكون عليه ويتعجبون من حاله، وما علموا أن الله من فوق سبع سموات قد أكبر صنيعه ذاك، فرجع لبيته واغتسل وتنظف.
فبماذا كافأه من لا يُضيع أجر من أحسن عملاً؟! أعطاه الله رائحة مسك فواحة تفوح من جسده يشمها الناس على بعد عدة مترات، وأصبح بعد تلك الحادثة يلقب بالمسكي، أبدله قيوم السموات والأرض بدل رائحة تلك القاذورات التي وضعها على جسده لفترة محدودة رائحةً طيبة دامت معه طوال عمره، وذِكْر طيِّب على مرِّ الزمن حتى أننا نذكر قصته في زماننا هذا !
من كل شيء إذا ضيعته عوض *** وما من الله إن ضيعته عوض
(إبراهيم بن عبدالله الحازمي، زاد المتقين، ط1، الرياض: دار الشريف، 1414هـ/ 1993م، ص110).
وروي أن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجهاً فخرج حاجّاً ومعه رفيق له حتى نزلا بالأبواء فقام رفيقه وأخذ السفرة وانطلق إلى السوق ليبتاع شيئاً، وجلس سليمان في الخيمة فبصرت به أعرابية من قمة الجبل، فانحدرت إليه حتى وقفت بين يديه – وعليها البرقع والقفازان – فأسفرت عن وجه لها كأنه فلقة قمر وقالت أهنئني؛ فظن أنها تريد طعاماً فقام إلى فضلة السفرة ليعطيها فقالت: لست أريد هذا، إنما أريد ما يكون من الرجل إلى أهله؟
فقال: جهزك إليَّ إبليس؟ ثم وضع رأسه بين ركبتيه وأخذ في النحيب فلم يزل يبكي .. يبكي مما يعتبره بعض الناس غنيمة باردة لكنها تقوى الله، لكنها الخوف من الله – فلما رأت ذلك منه سدلت برقعها على وجهها، وانصرفت راجعة حتى بلغت أهلها.
وجاء رفيقه فرآه وقد انتفخت عيناه من البكاء وانقطع حلقه –يبكي كل هذا البكاء لا لأن المرأة فاتته، لكن لأن المرأة تعرضت له- فقال: ما يبكيك؟ قال: خيرًا، ذكرتُ صبيتي –انظروا أحبتي إلى الإخلاص لا يريد أن يعلم أحد بطاعته وخشيته، واليوم من الناس من يجاهر بمعصيته، وكأنه يريد أن يعلم بها كل الناس- قال له رفيقه: لا والله، إن لك قصة إنما عهدك بصبيتك منذ ثلاث أو نحوها، فلم يزل به حتى أخبره خبر الأعرابية، فوضع رفيقه السفرة وبكى، وجعل يبكي بكاء شديداً، فقال سليمان: وأنت ما يبكيك؟ قال: أنا أحق منك بالبكاء؛ لأني أخشى لو كنت مكانك لما صبرت عنها. (الإمام أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ط، القاهرة: دار الحديث، 1412هـ/1992م، ص168).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف: 201].
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن المرء يقف حائراً أمام قوم يبكون خشية الوقوع في الحرام، ويقابلهم قوم يبكون إن فاتهم الحرام، قوم يبحثون بكل جهدهم وبمختلف وسائل المكر الشيطانية والبشرية عن الحرام، يقف حائراً أمام قوم تأتي إلى أحدهم المرأة عارضة نفسها جاهزة بلا تعب ولا نصب فيرفضونها بكل ما أوتوا من قوة، وقوم تجد أحدهم هائماً على وجهه كالثور الهائج يجوب الأسواق، ويتنقل عبر أسلاك الهاتف لا همّ له إلا شريفة أو عفيفة يسعى للإيقاع بها، والفتك بعرضها وشرفها وعفافها, وكأنه ما خُلق إلا لشهوته تلك، والسبب في ذلك أنه أحاط نفسه وبيته بكل ما يثير تلك الغريزة والشهوة، ففارت فيه فما عاد يملكها، ولكن كانت هي التي تملكه، وأصبح عياذاً بالله عبداً لها.
أيها الأحباب: إن من سبق ذكر قصصهم و غيرهم ممن لم نذكرهم من الذين عفوا عن ارتكاب الحرام إنما هم بشر من البشر وليسوا من الملائكة؛ رُكبت فيهم الشهوة كما رُكبت في غيرهم، لكن الفارق إنما هو في مدى صلاح القلب وما يعمره من إيمان؛ أولئك آمنوا برقابة الله عليهم فلاحظوها بعيون قلوبهم فاستحوا أن يراهم العظيم على ما نهاهم عنه، أولئك قوم عرفوا أن الموت قد يأتي بغتة، وأن المرء يبعث على ما مات عليه فخشوا أن تفجأهم سكرة الموت وهم على حرام.
أولئك قوم أيقنوا بالقبر وظلمته ووحشته وما فيه، فخشوا أن يكون ذاك الذنب سبب شقائهم في تلك الحفرة المظلمة، أولئك قوم أيقنوا بلقاء الله، وأنهم سوف يسألون فاستحوا أن يلاقوا الله بذنب عظيم، أولئك قوم أيقنوا بالنار وجحيمها وسمومها وزقومها وما فيها فشغلهم الخوف منها وأذهلهم عن كل كبيرة وجريمة، أولئك قوم أيقنوا بالجنة ونعيمها وطيورها وأنهارها وحورها، فزهدوا في الدنيا رجاء أن يكونوا من أهلها، ولم يحبوا أن يشتروا متعة زائلة بمتعة ونعيم أبدي.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40، 41]، فهلموا أحبتي لنسير على نهج أولئك الأفذاذ ونقتدي بهم، هلموا لنغرس تلك المعاني في أنفسنا وفي أزواجنا وأولادنا وفي جميع فئات المجتمع، هلموا لنسقي شجرة العفة في المجتمع من جهدنا في سبيل النصح والإرشاد والتوجيه لتغطّي شجرة العفة بظلالها الوارفة جميع أفراد المجتمع.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم