صور من التاريخ الإسلامي عن رحمته بالخلق

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-07-28 - 1445/01/10 2023-08-05 - 1445/01/18
عناصر الخطبة
1/الإسلام دين الرحمة 2/من مظاهر الرحمة في الإسلام 3/آثار رحمة الإسلام على العالمين 4/شبهة انتشار الإسلام بالسيف والرد عليها.

اقتباس

لَقَدْ تَمَثَّلَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلنَّاسِ جَمِيعًا رَحْمَةَ الْإِسْلَامِ, وَتَرْجَمُوهَا وَاقِعًا فِي سِلْمِهِمْ وَحَرْبِهِمْ, مَا فَتَحَ لَهُمْ قُلُوبَ الْعِبَادِ قَبْلَ الْبِلَادِ, فَأَقْبَلَ أَهْلُهَا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا, فَفِي مَعْرَكَةِ الْيَرْمُوكِ يُسْلِمُ أَحَدُ...

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هُوَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ, نَادَى النَّاسَ بِقَوْلِهِ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ"[رواه الدارمي والبيهقي], وَرِسَالَتُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- رِسَالَةُ رَحْمَةٍ لِلنَّاسِ كَافَّةً, قَالَ تَعَالَى عَنْ رِسَالَتِهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107], قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- هُدًى وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَرْسَلَهُ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ, فَإِنَّهُ أَرْسَلَهُ بِالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ"[مجموع الفتاوى].

  

وَاعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ رَحْمَةَ دِينِ الْإِسْلَامِ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ؛ فِي تَشْرِيعَاتِهِ, وَأَحْكَامِهِ, وَعِبَادَاتِهِ, وَمُعَامَلَاتِهِ, هُوَ دِينُ رَحْمَةٍ لِأَتْبَاعِهِ وَلِأَعْدَائِهِ؛ فَالدِّينُ كُلُّه رَحْمَةٌ, وَمَظَاهِرُ الرَّحْمَةِ فِي الْإِسْلَامِ كَثِيرَةٌ؛ مِنَهَا:

رَحْمَةُ النَّفْسِ؛ فَلَا يُحَمِّلُهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا, وَلَوْ كَانَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْقُرَبِ, قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "يا أيُّها النَّاسُ! خُذُوا مِنَ الأعْمَالِ ما تُطِيقُونَ"[متفق عليه].

 

وَمِنْهَا: الرَّحْمَةُ بِالْوَالِدَيْنِ؛ فَقَدْ أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ الرَّحْمَةَ بِهِمْ؛ (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 24].

 

وَمِنْهَا: الرَّحْمَةُ بِالصِّغَارِ؛ سَأَلَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "نَعَمْ", قَالُوا: لَكِنَّا -وَاللهِ- مَا نُقَبِّلُ, فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَوَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللهُ نَزَعَ مِنْ قُلُوبِكُمُ الرَّحْمَةَ!"[متفق عليه].

 

وَمِنْ مَظَاهِرِ رَحْمَةِ الْإِسْلَامِ: الرَّحْمَةُ بِالنِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ عُمُومًا؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَينِ: اليَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ"[رواه النسائي وابن ماجه، وحسنه الألباني].

 

وَمِنْهَا: رَحْمَةُ الرَّجُلِ لِمَنْ هُمْ تَحْتَ سُلْطَانِهِ؛ مِنَ الْعَبِيدِ، وَالْخَدَمِ، وَالْعُمَّاِل؛ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ؛ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْهِ"[متفق عليه].

 

وَمِنْهَا: الرَّحْمَةُ بِالنَّاسِ كَافَّةً؛ قَالَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَضَعُ اللَّهُ رَحْمَتَهُ إِلَّا عَلَى رَحِيمٍ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كُلُّنَا يَرْحَمُ، قَالَ: "لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ، يُرْحَمُ النَّاسُ كَافَّةً"[رواه أبو يعلى وحسنه الألباني].

 

وَمِنْهَا: الرَّحْمَةُ بِالْحَيَوَانِ؛ أَخْبَرَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ اللهَ غَفَرَ لِامْرَأَةٍ بَغِيٍّ؛ لِأَنَّهَا سَقَتْ كَلْبًا مَاءً, وَ"أَخَذَ رَجُلٌ بَيْضَ حُمَّرَةٍ؛ فَجَاءَتْ تَرِفُّ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَيُّكُمْ فَجَعَ هَذِهِ بِبَيْضَتِهَا؟", فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا أَخَذْتُ بَيْضَتَهَا، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْدُدْ؛ رَحْمَةً لَهَا"[صحيح الأدب المفرد].

 

وَمِنْهَا: رَحْمَةُ الْجَمَادَاتِ؛ "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ، وَكَانَ عَلَيْهِ، فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا ، فَسَكَنَتْ"[رواه البخاري].

 

إِنَّ مَظَاهِرَ الرَّحْمَةِ فِي الْإِسْلَامِ شَامِلَةٌ لِلْكَوْنِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ كُلَّهُ قَائِمٌ عَلَى الرَّحْمَةِ, قَالَ الرَّازِيُّ: "الطَّاعَاتُ مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللهِ، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللهِ"[تفسير الرازي].

 

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: إِنَّ الرَّحْمَةَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ تَتَعَدَّى الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُعْرِضِينَ وَالْكَافِرِينَ, بَلْ حَتَّى أَشَدُّ الْأَعْدَاءِ إِيذَاءً لِلْإِسْلَامِ تَطَالُهُمْ رَحْمَةُ هَذَا الدِّينِ؛ فَالنَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَاقَى مِنْ ثَقِيفٍ أَذًى شَدِيدًا, وَبَيْنَمَا لَا زَالَتْ آثَارُ الْأَذَى عَلَى رَسُولِ اللهِ, يَأْتِيهِ مَلَكُ الْجِبَالِ فَيَقُولُ: "يَا مُحَمَّدُ! إنَّ اللهَ قَدْ سَمِع قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبِّي إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ؛ إِنْ شِئْتَ أَطْبَقْتُ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ", فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"[رواه البخاري].

 

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حَرِيصًا عَلَى الْكُفَّارِ أَلَّا يَبْقُوا عَلَى كُفْرِهِمْ, وَيَوَدُّ مِنْهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا هَذَا الدِّينَ؛ لِتُظِلَّهُمْ رَحْمَةُ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْ رَحْمَةِ هَذَا الدِّينِ لِجَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَيْهِ طَائِعَةً مُخْتَارَةً, لَمَّا قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ دَوْسًا قَدْ كَفَرَتْ وَأَبَتْ؛ فَادْعُ اللهَ عَلَيْهَا"، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ, فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ"[رواه مسلم]. وَجَاءَ الْأَنْصَارُ إِلَيْهِ فَقَالُوا: "يَا رَسُولَ اللهِ! ادْعُ اللهَ عَلَى ثَقِيفٍ"، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا"[رواه الترمذي], وَقِيلَ لَهُ: "يَا رَسُولَ اللهِ! ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ"، فَقَالَ: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا؛ إِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً"[رواه مسلم].

 

اللهُ أَكْبَرُ! هَلْ تَجِدُونَ فِي غَيْرِ الْإِسْلَامِ مِثْلَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ!, فَالْإِسْلَامُ رَحِيمٌ بِأَعْدَائِهِ سِلْمًا وَحَرْبًا!, وَقَدْ قَرَّرَ الشَّرْعُ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَكُونُ مُبَرِّرًا لِظُلْمِ الْكُفَّارِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ, أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ, أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ؛ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[رواه أبو داود], وَمِنْ وَصَايَاهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِقَادَةِ جَيْشِهِ عِنْدَ الْغَزْوِ: "اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا, وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا"[رواه مسلم].

 

وَأَوْصَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِأَهْلِ الذِّمَّةِ قَائِلًا: "وَلَا يَرْزَأُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا شَيْءٌ؛ فَإِنَّ لَهُمْ حُرْمَةً وَذِمَّةً، ابْتُلِيتُمْ بِالْوَفَاءِ بِهَا؛ كَمَا ابْتُلُوا بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا", وَحِينَ طَعَنَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ الْمَجُوسِيُّ قَالَ وَهُوَ فِي النَّزْعِ الْأَخِيرِ: "أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِأَهْلِ الذِّمَّةِ خَيْرًا؛ أَنْ يُوفِيَ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتِلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَلَّا يُكَلِّفَهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ", بَلْ أَمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُقْعَدِينَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ!.

 

أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَبَعْدُ:

 

عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ تَمَثَّلَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلنَّاسِ جَمِيعًا رَحْمَةَ الْإِسْلَامِ, وَتَرْجَمُوهَا وَاقِعًا فِي سِلْمِهِمْ وَحَرْبِهِمْ, مَا فَتَحَ لَهُمْ قُلُوبَ الْعِبَادِ قَبْلَ الْبِلَادِ, فَأَقْبَلَ أَهْلُهَا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا, فَفِي مَعْرَكَةِ الْيَرْمُوكِ يُسْلِمُ أَحَدُ قَادَةِ الْجَيْشِ الِبيزَنْطِيِّ أَثْنَاءَ الْمُبَارَزَةِ, وَيَعُودُ مَعَ خَالِدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مُقَاتِلاً فِي صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ, فَمَا الَّذِي جَعَلَ هَذَا الْقَائِدَ الرُّومَانِيَّ يُسْلِمُ, وَيُضَحِّي بِالْمَكَانَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا عِنْدَ قَوْمِهِ, وَيُغَامِرُ بِكُلِّ امْتِيَازَاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ؟!.

 

وَفِي عَهْدِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يُسْلِمُ مَلِكُ الْحَبَشَةِ النَّجَاشِيُّ عَلَى يَدِ مَجْمُوعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الضُّعَفَاءِ الْفَارِّينَ مِنْ مَكَّةَ؛ مُسْتَجِيرِينَ بِهِ يَطْلُبُونَ الْحِمَايَةَ مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ!, فَهَذَانِ مِثَالَانِ وَاضِحَانِ لِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَيَّامِ الْمِحَنِ وَالضَّعْفِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ!.  

 

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: حِينَ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْعِرَاقَ وَالشَّامَ وَبِلَادَ فَارِسَ وَمِصْرَ وَبِلَادَ الْمَغْرِبِ وَأُورُوبَّا؛ أَلْغَوُا الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ الَّتِي كَانَتْ تُفْرَضُ عَلَى النَّاسِ, وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَمَنْ أَبَى فُرِضَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ فَقَطْ, وَالْجِزْيَةُ كَانَتْ يَسِيرَةً وَتُؤْخَذُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ, وَهِيَ فِي مُقَابِلِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ, وَتُجْبَى مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلنَّاسِ, وَإِعْمَارًا لِلْأَرْضِ, وَهِيَ فِي مُقَابِلِ الْحِمَايَةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَالدِّفَاعِ عَنْهُمْ, مُرَاعِينَ قُدْرَةَ النَّاسِ فِي دَفْعِهَا.

 

وَمَنْ عَجَزَ عَنْ دَفْعِهَا تَسْقُطُ عَنْهُ, وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ مَرِيضٍ وَلَا عَاجِزٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا طِفْلٍ, كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي صُلْحِهِ لِأَهْلِ الْحِيرَةِ: "فَإِنْ مَنَعْنَاكُمْ فَلَنَا الْجِزْيَةُ، وَإِلَّا فَلَا"[تاريخ الطبري], قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي (الأُمِّ): "عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا كَانُوا مَعَنَا فِي الدَّارِ وَأَمْوَالَهُمْ الَّتِي يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَتَمَوَّلُوهَا مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَمْوَالَنَا مِنْ عَدُوِّهِمْ إِنْ أَرَادَهُمْ، أَوْ ظُلْمِ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَأَنْ نَسْتَنْقِذَهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ لَوْ أَصَابَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ", فَالْجِزْيَةُ مِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَالرِّفْقِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ!, وَرَحِمَ اللهُ الْخَلِيفَةَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ حِينَ قَالَ: "فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا دَاعِيًا, وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا"[الطبقات الكبرى].  

 

أَيُّهَا الْمُوَحِّدُونَ: لَقَدْ خَلَّصَ الْفَاتِحُونَ الْمُسْلِمُونَ النَّاسَ مِنَ الِاضْطِهَادِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ, مُعْلِنِينَ مَبْدَأَ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)[البقرة: 256], وَلَمْ يَكُونُوا يُعَامِلُونَ أَهْلَ الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ بِاضْطِهَادٍ وَجَبَرُوتٍ كَقُوَّةٍ مَهْزُومَةٍ؛ كَحَالِ كُلِّ الْقُوَى الَّتِي كَانَتْ تُسَيْطِرُ عَلَى أَيِّ بَلَدٍ عَلَى مَدَارِ التَّارِيخِ.

 

وَلَقَدْ حَاوَلَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ إِلْصَاقَ التُّهَمِ بِهَذِهِ الْفُتُوحَاتِ، إِلَّا أَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ إِثْبَاتِ أَيِّ إِبَادَةٍ جَمَاعِيَّةٍ, أَوْ تَطْهِيرٍ دِينِيٍّ أَوْ عِرْقِيٍّ, أَوْ حَرْقٍ وَتَخْرِيبٍ قَامَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ الْفَاتِحُونَ عَبْرَ تَارِيخِهِمْ, مِثْلَمَا يَحْصُلُ مِنَ الْجُيُوشِ الْمُنْتَصِرَةِ فِي حُرُوبِهِمْ ضِدَّ الشُّعُوبِ الْمَغْلُوبَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ تُخَالِفُ مَبَادِئَ الرَّحْمَةِ الَّتِي تَرَبَّى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ.

 

وَتَأَمَّلُوا كَيْفَ وَصَفَ الْمُؤَرِّخُ رَنْسِيمَانُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ لِلْمَسِيحِيِّينَ بِالْإِنْسَانِيَّةِ قَالَ: "بَيْنَمَا كَانَ الْفِرِنْجُ وَمُنْذُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً يَخُوضُونَ فِي دِمَاءِ ضَحَايَاهُمْ, لَمْ تَتَعَرَّضِ الْآنَ دَارٌ مِنَ الدُّورِ لِلنَّهْبِ، وَلَمْ يَحِلَّ بِأَحَدٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ مَكْرُوهُ؛ إِذْ صَارَ رِجَالُ الشُّرْطَةِ بِنَاءً عَلَى أَوَامِرِ صَلَاحِ الدِّينِ يَطُوفُونَ بِالشَّوَارِعِ وَالْأَبْوَابِ؛ يَمْنَعُونَ كُلَّ اعْتِدَاءٍ يَقَعُ عَلَى الْمَسِيحِيِّينَ"[صلاح الدين الأيوبي: بطل الشرق وأسطورة الغرب], فَمَا أَعْظَمَهَا مِنْ مُعَامَلَةٍ! وَمَا أَعْظَمَهُ مِنْ دِين!

 

وَفِي كِتَابِه (تَارِيخُ الْحْرَبِ) يُفَسِّرُ الْقَاَئِدُ الْبِرِيطَانِيُّ مُوْنَتْغومْرِي أَسْبَابَ اعْتِنَاقِ غَيْرِ الْمُسْلِمِيَن لِلْإِسْلَامِ؛ "لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسْتَقْبَلُونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَصِلُونَ إِلَيْهِ كَمُحَرِّرِينَ لِلشُّعُوبِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ؛ وَذَلِكَ لِمَا اتَّسَمُوا بِهِ مِنْ تَسَامُحٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ وَحَضَارَةٍ".

 

وَاعْلَمُوا أَنَّ "الْأُمَمَ لَمْ تَعْرِفْ فَاتِحِينَ رَاحِمِينَ مُتَسَامِحِينَ مِثْلَ الْعَرَبِ, وَلَا دِينًا سَمْحًا مِثْلَ دِينِهِمْ, وَمَا جَهِلَهُ الْمُؤَرِّخُونَ مِنْ رَحْمَةِ الْعَرَبِ الْفَاتِحِينَ وَتَسَامُحِهِمْ, كَانَ مِنَ الْأَسْبَابِ السَّرِيعَةِ فِي اتِّسَاعِ فُتُوحِهِمْ, وَفِي سُهُولَةِ اعْتِنَاقِ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ لِدِينِهِمْ". 

 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: لَقَدْ تَعَرَّضَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى انْتِكَاسَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي تَارِيخِهِمْ, وَتَمَّ غَزْوُ بِلَادِهِمْ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً, لِفَتَرَاتٍ طَوِيلَةٍ, وَرَغْمَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنَ الْعَجَمِ إِلَى أَدْيَانِهِمُ السَّابِقَةِ, وَقَدْ أَصْبَحَتِ الْفُرْصَةُ مُوَاتِيَةً لَهُمْ إِنْ أَرَادُوا, بَلْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعَاجِمِ حَمَلَةٌ لِلْإِسْلَامِ, وَقَادَةٌ لِجُيُوشِهِ, وَعُلَمَاءٌ كِبَارٌ, خَلَّفُوا لَنَا مَوْسُوعَاتٍ عِلْمِيَّةً فِي شَتَّى عُلُومِ الدِّينِ, بَلْ سَبَقَ بَعْضُهُمُ الْعَرَبَ فِي التَّصْنِيفِ وَالتَّأْلِيفِ!.

 

وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَدْحَضُ دَعَاوَى الْحَاقِدِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ الزَّاعِمِينَ انْتِشَارَهُ بِالسَّيْفِ؛ أَنَّ التَّتَارَ الَّذِينَ غَزَوْ بِلَادَ الْإِسْلَامِ قَاطِبَةً, وَفَعَلُوا بِالْمُسْلِمِينَ الْأَفَاعِيلَ الَّتِي لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ؛ دَخَلُوا الْإِسْلَامَ أَفْوَاجًا, وَأَقَامُوا دُوَلًا إِسْلَامِيَّةً فِي بُلْدَانِهِمْ!, فَمَا الَّذِي أَجْبَرَهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ الْقُوَّةِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى اعْتِنَاقِ دِينِ الْبِلَادِ الَّتِي غَزَوْهَا؟! وَهَلْ سُمِعَ بِمِثْلِ هَذَا فِي التَّارِيخِ كُلِّهِ؟!.

 

وَالْمُتَتَبِّعُ لِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ يَرَى عَجَبًا مِنْ قَبُولِ الْمَلَايِينِ فِي شَرْقِ آسْيَا وَاعْتِنَاقِهِمْ لِلْإِسْلَامِ؛ بِسَبَبِ مُعَامَلَةِ الْعَرَبِ الْحَسَنَةِ لَهُمْ, فَأَكْبَرُ دُوَلِ الْمُسْلِمِينَ (إِنْدُونِيسْيَا) وَمَا جَاوَرَهَا مِنَ الدُّوَلِ دَخَلَتْهَا رَحْمَةُ هَذَا الدِّينِ دُونَ خَيْلٍ وَلَا سَيْفٍ, وَهِيَ نَمُوذَجٌ لِاخْتِرَاقِ هَذَا الدِّينِ قُلُوبَ الْعِبَادِ؛ بِسَمَاحَتِهِ, وَرَحْمَتِهِ, وَعَظَمَةِ تَعَالِيمِهِ.   

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

المرفقات

صور من التاريخ الإسلامي عن رحمته بالخلق.doc

صور من التاريخ الإسلامي عن رحمته بالخلق.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات