عناصر الخطبة
1/ مفهوم الصبر القرآني 2/ ارتباط سلامة المجتمع بالتواصي بالصبر 3/ وجوب التواصي بالحق والصبر والمرحمة 4/ النمل كنموذج للترابط والتواصي عند المخلوقات الأخرى 5/ دعوة المرجفين للكف عن تمزيق المجتمع والوطناقتباس
لقد انطلق نور الإسلام ليعلن توثيق علاقة الفرد المؤمن بالفرد المؤمن، والمجتمع المؤمن بالمجتمع المؤمن، على أكرم أساس، وأشرف نبراس، وقد أحاط ذلكم التوثيق بسياج الفضيلة والإيثار والرحمة والنصرة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) [التوبة:71]، " المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يشُدُّ بعضُهُ بعْضا"رواه البخاري ومسلم، "انصرْ أخاكَ ظالماً أو مظلُوماً " رواه البخاري.
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: "لو لم ينزل من القرآن غيرها لكفتنا"، قولٌ صرح به الإمام الشافعي -رحمه الله-، يشير إلى سورة العصر التي تحدثت عن ملامح الربح بين ركام الخسارة، وعن صفات الصدق في زمن التدليس، وعن معاني الايجابية في زمن السلبية: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر].
(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ): ما أروع هؤلاء حين تتزاحم الأزمات، وتشتد الأحداث، ويضيق الخناق، ويسبح الناس بين بحر من الهموم والظلمات، والمصائب والملمات! فيشعل هؤلاء شمع التواصي بالصبر، والصمود على الحق! وليس أي صبر يعنونه سوى الصبر الإيجابي المثمر، به يدفعون الأزمات، وبه يواجهون الأحداث، وكلهم أمل في الله، وثقة بالله، وتوكل على الله.
لقد كان مفهوم الصبر القرآني مفهوما آخر غير ذلك الصبر الذي يعرفه الكثير منا، صبر الرقود والسلبية، صبر العجز والكسل، صبر الشكوى والتذمر، ليس ذلك الصبر الذي يرضى به العاجز لتسكين الألم مع التشكي والضجر، ليس صبر المفعول بهم، بل صبر الفاعلين الذين غيروا العالم.
ليس الصبر التخدير الذي يجتر به الناس حياتهم بكل آلامها ومعاناتها ومظاهر سلبياتها، فيتعايشون به مع واقعهم المرير الذي لا يملكون تغييره، ليس الصبر المرادف للانتظار الفارغ من أي أمل، ومن أي رغبة أو عمل.
كلا! الصبر القرآني هو الذي دعانا الله إليه بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]، فهو قرين المرابطة، وأمرنا حال الشدائد بالاستعانة به على الصمود: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:153].
إنه صبر الهداية والإبصار عند حلوك الظلمات، واشتداد الأزمات، وأصحابه هم المبشرون ببلوغ الغايات، وعليهم تتنزل الرحمات: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].
إنه صبر الانتصار على المؤامرات، ودفع الكيد والمشكلات: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) [آل عمران:120].
الصبر بمفهوم القرآن هو نبتة التحدي الإيجابي الفاعل في وسط صحراء القحط السلبية.
وهكذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- ومن معه يفهمون الصبر، فقد كان الصبر وسيلةً مهمة وعنصرا أساسيا في التفاعل بين الإنسان والمجتمع.
كان الصبر هو صبر المواجهة، صبر التحدي، صبر التغيير، صبر أولي العزم من الرسل الذين غيروا وكافحوا وجاهدوا، وتركوا آثارا لا تنسى على وجه الحضارة الإنسانية.
إنه صبر الفعل والمفاعلة والتفعيل، الصبر على ذلك كله، وفي أثناء ذلك كله، وبعد ذلك كله، إنه صبر البناء.
فالإسلام يلقن أبناءه يوما بعد يوم روح الثبات على الدين، وآداب المغالبة والمدافعة، والصبر على الشدائد، ومقابلة الفتن والبلايا بروح الراضي بقضاء ربه، الواثق بإنجاز وعده؛ محتملا مع ذلك كل نَصَب، مستسيغا في سبيل الله كل تعب.
إن هذا التواصي في زمن الأزمات وعند مواجهة التحديات تحتاجه البلد اليوم برمتها وكامل أفرادها، وإنها بهذا التواصي على الصبر والحق، لتؤكد حاجة بعضها لبعض في المنشط والمكره، والعسر واليسر، والحزن والفرح، وكذا تؤكد حاجتها إلى تقارب النفوس مهما تباعدت الديار، وإلى التراحم مهما كثرت المظالم، وإلى التفاهم مهما كثر الخلاف.
بل إنها في حاجة ماسة إلى إحساس بعضها ببعض من خلال أسمى معاني الشعور الإيجابي الذي حض عليه ديننا الحنيف، إذ: ما المانع أن تسمو معاني الألفة والترابط بين أبناء البلد الواحد إلى حد ما لو عطس أحدهم في مغربه شمته أخوه في مشرقه؟ وإذا شكا من في شمالها توجع له من في جنوبها؟.
إنه، متى شوهد مثل ذلكم الواقع الإيجابي بين أبناء البلد الواحد، فلن تقع البلد حينها فريسة لما يسوؤها، بل كلما لاح في وجهها عارض البلاء وكشرت أمامها أنياب التمزق والتفرق والأزمات لم تمت في نفسها روح المصابرة المستنيرة بهدي الولي القدير، مهما ظلت كوابيس الظلم والتسلط جاثمة على صدرها.
إننا نستلهم من آيات الصبر التي تجاوزت أكثر من ثمانين موضعا في كتاب الله أن الصبر أكرم عطاء للأمة وأغلى منحة لها، ولم يكن الصبر أكرم عطاء للأمة في قمة شدائدها ومحنها إلا لشموله مراقي التوفيق، وأنوار الحكمة، وقمة الدهاء؛ من خلال حسن استقبال البلايا والمحن، وقوة الاحتمال لها، وبراعة التصرف معها، وحملها بقوة واقتدار؛ لطردها بعيدا عن الطريق المرسوم.
إن حسن تعاطفنا وتواصينا بالصبر والمرحمة مع بعضنا لهو طريق لنيل أحسن الجزاء وخير العطاء: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].
ولم يكن هذا الأجر الممدود بغير حد إلا لأن أولئك الصابرين أوفوا بعهد الله من بعد ميثاقه، وأوفوا للثبات والمدافعة، وأوفوا لبعضهم البعض مهما امتد النفَس واشتدت الأزمات.
أيها الإخوة: لقد انطلق نور الإسلام ليعلن توثيق علاقة الفرد المؤمن بالفرد المؤمن، والمجتمع المؤمن بالمجتمع المؤمن، على أكرم أساس، وأشرف نبراس، وقد أحاط ذلكم التوثيق بسياج الفضيلة والإيثار والرحمة والنصرة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) [التوبة:71]، " المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يشُدُّ بعضُهُ بعْضا"رواه البخاري ومسلم، "انصرْ أخاكَ ظالماً أو مظلُوماً " رواه البخاري.
كل هذه النصوص دالة بوضوح على حض الإسلام على التعاون والألفة والتناصح، واتحاد الآمال والآلام بين المسلمين؛ لأن الرب واحد، والدين واحد، والنبي -صلى الله عليه وسلم- واحد.
إن هذه لحقيقة شامخة البناء، أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ لذا كان لزاماً على علينا أن تتوهج في نفوسنا المعاني الكريمة للتماسك والتراحم والتناصر والتواصي، وأن يتوهج السمو الروحي في الأخوة والتضامن والمساواة، "وكونُوا عبادَ اللهِ إخوانَا" رواه البخاري ومسلم.
لقد أوجب الله علينا التراحم والترابط والاجتماع والنصرة والتواصي ما يحرم من خلاله كل معنى من معاني الفرقة والاختلاف والأثرة، وحب الذات والخذلان، والنكاية ببعضنا، والتشفي بما يصيب بعضنا البعض، والتحريض على بعضنا.
ومن لاحظ المخلوقات الأخرى أدرك جيداً معاني الترابط والاجتماع والعيش جماعات جماعات؛ لأجل البقاء والسيادة والوقوف في وجه الظالم المعتدي.
فالنمل يتعاون في دأب وصبر على الأعمال المتعددة والمحاولات المتكررة، ولديه من المحاولات ما نعجز عنه نحن ونملّ، حتى إذا أدركها الهلاك وأصابها الغرق لم يكن لها أن تنجو بنفسها وتفر بجلدها؛ بل نادت في جماعتها: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل:18].
إنه الحس الجماعي والخوف على بعضها البعض، والتواصي هو الذي دفعها لهذا الهتاف الحي.
وإذا عرض لها عارض خطر تكتلت واجتمعت؛ لإدراكها بالغريزة أنها إذا انقسمت هانت وذلت وتمزقت.
فإذا كان ذلك هو الشعور الجلي في المخلوقات، فكيف بالإنسان المسلم الذي علمه نبيه -عليه الصلاة والسلام- أن "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِن الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ" رواه البخاري وغيره.
في حين ندعو اليوم إلى التواصي بالصبر والتعاون على البر والتقوى ونشر ثقافة التراحم، يتجه آخرون إلى الدعوة إلى تمزيق البلد وإحياء النعرات الطائفية والمناطقية، وبث روح الفرقة والإرجاف، فسارعت بعض الصحف الصفراء إلى الإعلان عن تمزيق حضرموت، وأنها اليوم تودع اليمن. تلك هي أحلامهم وما خططوا له! وذاك سعيهم وما يحلمون!.
فيا أيها الإخوة جميعا في الشمال والجنوب: ادفنوا هذه العصبيات، ودعوات التمزيق تحت أقدامكم، فأنتم تعلمون جيداً من هم أصحابها ودعاتها، ومن يقف وراءها وينفخ في نيرانها. أنتم تعلمون جيدا من هم أولئك الذين يدعون إلى صدعها وشق صفها وإعلانها حربا أهلية.
واستجيبوا لندائه -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول لخير القرون كلها من مهاجرين وأنصار: "دعوها فإنها منتنة"... نعم، يريدون اليوم إشعالها نارا بين جنوب وشمال ليجهزوا على البلد ويمزقوا أهله.
ألم يتداخل الشمال والجنوب عبر السنين الماضية فذابت هذه النعرات وأصبحوا نسبا وصهرا؟ وتوطدت العلاقات، وأمن الناس بعضهم بعضا؟.
ليس من الإسلام -أيها الإخوة- في شيء هكذا، أعلنها -صلى الله عليه وسلم- مدوية في حقب التأريخ: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم