صلوا أرحامكم

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-16 - 1436/03/25
عناصر الخطبة
1/أهمية البر والصلة 2/أهمية وفضل صلة الرحم 3/سُبُل صلة الرحم 4/شؤم قطيعة الرحم وسوء عاقبتها 5/ليس من البر في صلة الأرحام المناصرة على الباطل 6/ضابط الأرحام الذين تجب صلتهم 7/بعض ثمرات وفوائد صلة الرحم 8/أشنع صور قطيعة الرحم

اقتباس

أيها المسلمون: إن أسرع الخير ثواباً البر، وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم، ومع هذا ترى في بعض من قل نصيبهم من الخير يسارع في قطع صلاته بأقاربه لأدنى سبب، إما لكلمة سمعها، أو شيئاً صغيراً رآه، وما درى أنه بهذا قد يجر إلى نفسه وأهله العداوة والجفاء، فـ..

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

انتهت أيام العيد الجميلة، وإن أجمل ما كان في العيد هو التزاور بين الأرحام، وصلة ذات القرابات، ممن ربما مر على الواحد منا أشهر بل ربما سنة وهو لم يره أو يسمع حديثه، فجاء العيد بنفحاته وبركاته، ومن تلكم النفحات زيارة ذوي القرابات.

 

أيها المسلمون: ما أمر الله بتوحيده، وما نهى عن الإشراك به إلا وقرن ذلك بالإحسان إلى الوالدين والأقربين؛ اقرءوا إن شئتم: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)[النساء: 36].

 

(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الإسراء: 23].

 

ثم قال سبحانه: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)[الإسراء: 26].

 

إن أساس التواصل والرباط الموثق هو التواد والتراحم، وإذا فقد ذلك تقطعت الأوصال، واستشرى الفساد، وحقت لعنة الله -عياذاً بالله-: (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[الرعد: 25].

 

إن صلة الرحم، بركة في الأرزاق، وتوفيق في الحياة، ويكتب الله بها العزة والمنعة، وتمتلئ القلوب بها إجلالا وهيبة؛ أخرج الإمام أحمد وابن ماجة عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً: "وصلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمران الديار، ويزيدان الأعمار".

 

وروى البزار بإسناد جيد والحاكم عن علي -رضي الله عنه- قال: "من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء؛ فليتق الله، وليصل رحمه".

 

وفي صحيح البخاري مرفوعاً: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أجله؛ فليصل رحمه".

 

وفي الخبر: "صلة الرحم؛ محبة في الأهل، ومثراة في المال، ومنسأة في الأثر".

 

أي زيادة في المال والعمر وبركة فيهما.

 

بصلة الأرحام، تقوى المودة، وتزيد المحبة، وتتوثق عرى القرابة، وتزول العداوة والشحناء، ويحن ذو الرحم إلى أهله.

 

اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن صلة الرحم والإحسان إلى الأقربين ذات مجالات واسعة ودروب شتى؛ فمن بشاشة عند اللقاء، ولين في المعاملة، إلى طيب في القول، وطلاقة في الوجه.

 

إنها زيارات وصلات، وتفقد واستفسارات، مكالمة ومراسلة، إحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا.

 

ينضم إلى ذلك غض عن الهفوات، وعفو عن الزلات، وإقالة للعثرات.

 

عدل وإنصاف، واجتهاد في الدعاء بالتوفيق والصلاح.

 

وأصدق من ذلك وأعظم مداومة الصلة، ولو قطعوا، والمبادرة بالمغفرة إذا أخطؤوا، والإحسان إليهم ولو أساؤوا.

 

إن مقابلة الإحسان بالإحسان مكافأة ومجازاة، ولكن الصلة الواصلة بُينت في قول نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها".

 

وجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عليهم ويجهلون علي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "لئن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل -أي تطعمهم الرماد الحار في أفواههم- ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك".

 

ومع كل ذلك -أيها المؤمنون- ومع هذه الآيات والأحاديث، فإن في الناس من تموت عواطفه، ويزيغ عن الرشد فؤاده، فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب.

 

إن العار والشنار، فيمن منحه الله جاهاً، وأحسن له رزقاً، ثم يتنكر لأقاربه، أو يتعالى عليهم، بل قد يترفع أن ينتسب إليهم فضلا عن أن يشملهم بمعروفه، ويمد لهم يد إحسانه.

 

إن قطيعة الرحم شؤم وخراب، وسبب للعنة وعمى البصر والبصيرة: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)[محمد: 22- 23].

 

إن تقطيع الأرحام من أعظم كبائر الذنوب، وعقوبتها معجلة في الدنيا قبل الآخرة؛ أخرج أبو داود والترمذي وصححه الحاكم عن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم".

 

وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم".

 

فأسرة الإنسان وقرابته -يا عباد الله- هم عدته وسنده، وهم أصله وقوته، يقول علي -رضي الله عنه-: "أولئك هم عشيرتك، بهم تصول وتطول، وهم العدة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعد سقيمهم، ويسر على معسرهم، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك".

 

أيها المؤمنون: إن صلة الأرحام حق لكل من يمت إليك بصلة نسب أو قرابة، وكلما كان أقرب كان حقه ألزم وأوجب: "أمك وأباك ثم أدناك أدناك".

 

وطريق القيام بحق الأقارب والأرحام، فشو المودة، واتساع الصدور، وسلامة القلوب.

 

وإن أعظم ما امتن الله به على الزوجين اللذين هما أصل الأسرة ونواتها، أن جعل المودة والرحمة بينهما: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)[الروم: 21].

 

أيها المسلمون: إن أسرع الخير ثواباً البر، وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم، ومع هذا ترى في بعض من قل نصيبهم من الخير يسارع في قطع صلاته بأقاربه لأدنى سبب، إما لكلمة سمعها، أو شيئاً صغيراً رآه، وما درى أنه بهذا قد يجر إلى نفسه وأهله العداوة والجفاء، فيستحقون اللعنة، وزوال النعمة، وسوء العاقبة: (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[الرعد: 25].

 

ولقد أوصى زين العابدين علي بن الحسين ابنه -رضي الله عنهم- أجمعين، فقال: "لا تصاحب قاطع رحم، فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع".

 

فاتقوا الله، وصلوا أرحامكم، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض.

 

قدموا لهم الخير ولو جفوا، وصلوهم وإن قطعوا، يُدِم الله عليكم بركاته، ويبسط لكم في الأرزاق، ويبارك في الأعمار، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90].

 

أيها المسلمون: اعلموا أن حق القريب رحم موصولة، وحسنات مبذولة، وهفوات محمولة، وأعذار مقبولة. ولئن كانت صلة الرحم تعني الإحسان إلى المحتاج، ورفع الظلم عن المظلوم، والمساعدة على وصول الحق، فليس من صلة الرحم المناصرة على الباطل، والعون على الظلم والبغي والعدوان، فما هذا إلا الحمية الجاهلية الممقوتة، تفشو بها العداوة، وينشر بها الفساد، وتتقطع بها الأرحام.

 

ولن يكون البغي والعدوان طريقاً إلى الحق، أو سبيلا إلى العدل والخير؛ فاعرفوا الحق، وميزوه عن الباطل، ولا تأخذكم العزة بالإثم، واستقيموا على أمر ربكم.

 

أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام.

 

لقد شاء المولى -تعالى وتبارك- بلطفه وتدبيره وحكمته وتقديره أن يكون بناء الإنسانية على وشيجة الرحم، وقاعدة الأسرة من ذكر وأنثى، من نفس واحدة، وطبيعة واحدة.

 

رحم وقربى تتوثق عراها، ويتجدر نباتها ليقوم على سوقه بإذن ربه، فيحمي من المؤثرات ويحفظ من العاديات.

 

يقول بعض أهل العلم: ما بعث أنبياء الله في أواسط البيوت من أقوامهم إلا لما يقدر الناس من أمر الرحم، ويعرفون من شأن القرابة: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[الشورى: 23].

 

وحينما قلت عشيرة نبي الله لوط -عليه السلام- وضعف ركن قرابته أعذر نفسه، بقوله: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)[هود: 80].

 

ومن ثم قال نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: "يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد ولكنه عنى عشيرته، فما بعث الله نبيا بعده إلا في ثروة من قومه".

 

ومن بعد لوط، قال قوم شعيب لشعيب -عليه السلام-: (وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ)[هود: 91].

 

وامتن الله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)[الضحى: 6].

 

أيها المسلمون: إذا كتب الله لعبده التوفيق، فكان ألفا مألوفا، محبا لأهله، رفيقا بأقربائه، حفياً بعشيرته، انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع بالإحسان من حاسديه، فسلمت له نعمته، وصفت له معيشته، فيجتمع عليه الشمل، ويمتنع عنه الذل، وخير الناس أنفعهم للناس.

 

ولقد علم العقلاء والحكماء وأصحاب المروءات أن تعاطف ذوي الأرحام، وتواد أهل القربى، يبعث على التناصر والألفة، ويجنب التخاذل والفرقة.

 

النفس الرحيمة الواصلة، الكريمة الباذلة، يورث الله لها ذكراً حسناً في الحياة وبعد الممات، الألسن تلهج بالثناء، والأيدي تمتد بالدعاء.

 

تعيش بين الناس بذكرها وذكراها أمداً طويلاً، يبارك لها في الحياة فتكون حافلة بجليل الأعمال، وجميل الفعال، وعظيم المنجزات، وكثرة الآثار.

 

من وصل أقاربه أحبه الله وأحبه الناس، ووضع له الذكر والقبول، وجبلت النفوس على حب من أحسن إليها، ألم تقل الرحمُ وهي متعلقة بعرش الرحمنِ: "من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله".

 

وقال لها رب العزة في الحديث القدسي: "من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته".

 

وإنكم لتعلمون أن من وصله الله، فلن ينقطع أبدا، ومن قطعه الله فلن ينفعه أحد من الخلق كائناً من كان.

 

إن من صلة الرحم أن تغفر الهفوة، وتستر الزلة، فأي صارم لا ينبو؟ وأي جواد لا يكبوا؟

 

وما العقل والفضل والنبل إلا إن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتحلم على من جهل عليك.

 

ويزداد النبل، ويعظم الفضل، وتسمو النفس، حين تحسن الظن بهم، وتحمل أخطاءهم على المحمل الحسن، وتنظر في عثراتهم نظر العاذر الكريم.

 

اسمع -رعاك الله- إلى هذه القصة التي تنضح نبلاً وشرفاً: "حُكي عن بنت عبد الله بن مطيع أنها قالت لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف، وكان أجود قريش في زمانه، قالت: يا طلحة ما رأيت قوماً ألأمَ من إخوانك؟ قال: ولم ذاك؟ قالت: أراهم إذا أيسرتَ وكثر مالك زاروك ولزموك، وإذا أعسرت تركوك؟ قال: هذا والله من كرمهم، يأتوننا في حال القوة بنا عليهم، ويتركوننا في حال الضعف بنا عنهم"

 

فانظروا كيف تأوَّل بكرمه هذا التأويل، وفسر بنبيل أخلاقه هذا التفسير، حتى جعل قبيح فعلهم حسناً، وظاهر غدرهم وفاءاً.

 

وهذا محض الكرم، ولباب الفضل، وبمثل هذا يلزم ذوي الفضل أن يتأولوا الهفوات، ويمحوا الزلات من إخوانهم، وأرحامهم وأصهارهم، إنه تغافل مع فطنة، وتآلف صادر عن وفاء.

 

وعلاقات الرحم، ووشائج القربى لا تستقيم ولا تتوثق إلا بالتغافل، فمن شدد نفَّر، ومن تغاضى تآلف، والشرف في التغافل، وسيد قومه المتغابي.

 

أين طلحة بن عبد الرحمن في هذه القصة من أناس ماتت عواطفهم، وغلب عليهم لؤمهم؟ فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب، ولا يود عشيرة، إن قرُبوا أقصاهم، وإن بعدوا تناساهم، بل يبلغ به اللؤم أن يقرب أصحابه وزملاءه، ويجفوا أهله وأقرباءه، يحسن للأبعدين، ويتنكر للأقربين، بطون ذوي رحمه جائعة، وأمواله في الأصدقاء والصِحاب ضائعة.

 

تراه يحاسب لهفوة صغيرة، ويقطع رحمه لزلة عابرة، إما بسبب كلمة سمعها، أو وشاية صدقها، أو حركة أساء تفسيرها.

 

معاذ الله -عباد الله- ربما كان بين الإخوة والأقارب من القطيعة ما يستحقون به لعنة الله من فوق سماواته، اقرؤوا إن شئتم: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)[محمد: 23].

 

نعم، يستحقون اللعنة، وتحل بهم النقمة، وتزول عنهم النعمة.

 

والجنة تبلغ ريحها خمسمائة عام، ولا يجد ريحها عاق، ولا قاطع رحمٍ.

 

من لم يصل رحمه، ويتعاهد بخيره أقاربه، فلا خير فيه، ولا نفع منه.

 

من ذا الذي قد فاض ماله يأكل ويشرب، ويكتسي ويتمتع، وأقاربه الضعفاء، عراة جائعون، ورحمه البؤساء مهملون ضائعون؟.

 

ألم تعرفوا أن شريف خصال نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وخصاله كلها شريفه؟ ألم تقرؤوا نعت خديجة لحبيبها محمد -صلى الله عليه وسلم-؟: "كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتحمل الكل، وتصل الرحم، وتقري الضعيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق".

 

صلة كريمة تحوطها السماحة، ويظللها الحلم، ويحيط بها العفو، ويحكمها ضبط النفس.

 

حسن معاملة تعلو بها المراتب، ويكثر بها الأحباب، وتستجلب بها المودات، وتحسن بها العواقب.

 

فحذار حذار -رحمكم الله- من التساهل مع أحق الناس بحسن صحبتكم.

 

وإياكم إياكم أن تتظارفوا وتتكايسوا مع الأبعدين، وتنسوا الأقربين، فإنكم إن فعلتم غَبنتم أنفسكم، وظلمتم الحق الذي عليكم.

 

وقد علمتم أن تقطيع الأرحام يهدم كيان الأسرة، ويزلزل أركان العشيرة، ويجعل أفرادها مرتعاً للفتن، ونهباً للأحقاد، وفريسة للتمزق.

 

بارك الله لي ولكم ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى-، وصلوا ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه وحقوق عباده.

 

صلوا أرحامكم، والأرحام والأنساب هم الأقارب، وليسوا كما يفهم بعض الناس أقارب الزوج أو الزوجة، فإن أقارب الزوج أو الزوجة هم الأصهار، فأقارب زوج المرأة أصهار لها، وليسوا أنسابا لها ولا أرحاما، وأقارب زوجة المرء أصهار له، وليسوا أرحاماً له، ولا أنساباً.

 

إنما الأرحام والأنساب، هم أقارب الإنسان نفسه كأمه وأبيه، وابنه وبنته، وكل من كان من بينه وبينه صلة من قِبَل أبيه، أو من قبل أمه، أو قبل ابنه، أو من قبل ابنته.

 

صلوا أرحامكم، بالزيارات والهدايا والنفقات، صلوهم بالعطف والحنان، ولين الجانب، وبشاشة الوجه، والإكرام والاحترام، وكل ما يتعارف الناس من صلة.

 

إن صلة الرحم، ذِكْرى حسنة، وأجر كبير، إنها سبب لدخول الجنة، وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم قول الله -تعالى-: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرعد: 19- 24].

 

وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-: أن رجلا قال: يا رسول الله أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ فقال: النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد وُفق أو قال لقد هُدي، كيف قلت؟ فأعاد الرجل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك، فلما أدبر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة".

 

وأعظم القطيعة، قطيعة الوالدين، ثم من كان أقرب فأقرب من القرابة، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" -ثلاث مرات- قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين".

 

إن من الناس من لا ينظر إلى أقاربه نظرة قريب لقريبه، ولا يعاملهم معاملة تليق بهم، يخاصمهم في أقل الأمور، ويعاديهم في أتفه الأشياء، ولا يقوم بواجب الصلة، لا في الكلام، ولا في الفعال، ولا في بذل المال، تجده ثريا وأقاربه محاويج، فلا يقوم بصلتهم، بل قد يكونون ممن تجب نفقتهم عليه لعجزهم عن التكسب، وقدرته على الإنفاق عليهم، فلا ينفق.

 

وقد قال أهل العلم كل من يرث شخصاً من أقاربه، فإنه يجب عليه نفقته إذا كان محتاجاً عاجزاً عن التكسب، وكان الوارث قادراً على الإنفاق؛ لأن الله -تعالى- يقول: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)[البقرة: 233].

 

أي مثل ما على الوالد من الإنفاق، فمن بخل بما يجب عليه من هذا الإنفاق فهو آثم محاسب عليه يوم القيامة، سواء طلبه المستحق منه أم استحيا وسكت.

 

فيا عباد الله، يا من آمنوا بالله ورسوله: انظروا في حالكم، انظروا في أقاربكم هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة؟ هل ألنتم لهم الجانب؟ هل أطلقتم الوجوه لهم؟ وهل شرحتم الصدور عند لقائهم؟ هل قمتم بما يجب لهم من محبة وتكريم واحترام؟ هل زرتموهم في صحتهم؟ وهل عدتموهم في مرضهم؟ هل بذلتم ما يجب بذله لهم من نفقة وسداد حاجة؟.

 

هذا، وصلوا وسلموا على خير البرية، وهادي البشرية، كما قال ربنا: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90].

 

 

 

 

المرفقات

أرحامكم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات