عناصر الخطبة
1/غاية أمل الأبرار والأخيار صلاح الدين والدنيا 2/وقفات مع حديث نبوي يجمع خيري الدنيا والآخرة 3/بعض عوامل صلاح الدين 4/بعض عوامل صلاح الدنيا 5/الأدعية النبوية جامعة للخيرات دافعة للشرور والآفاتاقتباس
وهذا -يا عباد الله- شأنُ جميعِ الأدعيةِ النبويةِ الشريفةِ، الثابتةِ عنه -صلوات الله وسلامه عليه- في شتى الأوقات ومختلف المناسَبات، فإنها جامعة لكل ما يُجلَب به الخيرُ، ويُدفَع الشرُّ، ويُبلَغ به المرادُ؛ فاحرصوا -رحمكم الله- على الأخذ بها، والاستزادة منها، والاستدامة عليها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنار بصائر أولي النهى بهدي كتابه المبين، أحمده -سبحانه-، أضاء جنبات نفوسهم بسُنَّة خاتم النبيينَ، وأشهد ألَّا إلهَ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، أرسَلَه الله بصلاح الدِّين، وأوضَح به معالم الطريق للسالكينَ، اللهم صلِّ وسلِّم، على عبدِكَ ورسولِكَ محمد، وعلى آله الطاهرين وصحبه الطيبين، والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فتقوى الله خير ما تزوَّد به العبد في سيره إلى الله، وأفضل ما اعتدَّ به المرء في قطع أشواط الحياة، بمنأى عن العثار، ومنجاة من الأوضار والأوزار.
عبادَ اللهِ: إن منتهى أمل الأبرار، ومطمح أنفس الأخيار، ومحطَّ رجائهم، وغاية دعائهم صلاح الدين والدنيا والآخرة؛ إذ به تستكمل للعبد أسباب السعادة، وتستجمع عوامل الفلاح؛ ولذا جمَع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك في دعاء واحد له؛ ففي صحيح مسلم -رحمه الله-، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أصلح لي دِيني الذي هو عصمة أمري، وأصلِحْ لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلِحْ لي آخِرتي التي فيها معادي، واجعل الحياةَ زيادةً لي في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لي من كل شرٍّ".
وهو من جوامع الدعاء النبوي، الذي اشتمل على كل خير يرجوه المرء في حياته الدنيا وفي الآخرة؛ فصلاح الدِّين الذي يَستعصِم به من الزلل، ويَسلَم به من الزيغ، وينجو به من الضلال، مداره على صلاح المعتقَد؛ بإخلاصِ التوحيدِ لله -تعالى-، وقوةِ الإقبالِ عليه -سبحانه- والإعراض عمَّا سواه، وتحقيق العبودية له؛ بصرفِ جميعِ أنواعِ العبادةِ له -عزَّ شأنُه- والنأي عن الإشراك به؛ حذرًا أن يضلَّ سعيُه، ويَحبَط عملُه، ثم التحلي بالفضائل، والتجافي عن الرذائل، فقد أفلَح مَنْ زكَّى نفسَه، بإصلاحِ دِينِهِ وطاعةِ ربِّه، وقد خاب وخَسِرَ مَنْ أخمَل نفسَه، ووضَع منها، وخذَلَها باجتراح السيئات واقتراف الآثام، كما قال تعالى ذكره: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشَّمْسِ: 9-10].
ومن عوامل صلاح الدين يا عباد الله: انتهاج الاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالعمل بسُنَّته، واقتفاء أثره وسيرته، وتَرْك الابتداع في دِينه، والحذر مِنْ مخالفة هديه وشريعته؛ عَمَلًا بالأمر الرباني الوارد في قوله -سبحانه-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الْحَشْرِ: 7]، وفي قوله -تعالى-: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)[النِّسَاءِ: 80]، وفي قوله -عزَّ اسمُه-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النُّورِ: 63].
وأمَّا صلاحُ الدنيا فعمادُه البَسْطَةُ في الرزق، ومنه: نعمة الأهل والولد، ورفعة القَدْر، وانشراح الصدر، والبركة في العمر، والصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان.
كما جاء في الحديث، الذي أخرجه الترمذي في جامعه، وابن ماجه في سننه، بإسناد حسن عن عبيد الله بن محصن الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أصبحَ مِنكُم آمِنًا في سِرْبِه، مُعافًى في جسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكأنَّمَا حِيزَتْ له الدُّنْيَا".
وفي صحيح مسلم -رحمه الله-، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتَاهُ"، ومعنى كَفافًا؛ أي: رُزِقَ الكفايةَ التي تكفُّه عن الحاجة إلى غيره، وهو الحلال من الرزق، والطَّيِّب من الكسب؛ إذ لا فَلاحَ مع الكسبِ الخبيثِ، والحرامِ من الأموال المكتسَبة من الغشِّ والتدليسِ والرشوةِ، والربا وأكل مال اليتيم، وغيرها من ألوان أكل أموال الناس بالباطل.
وأمَّا صلاح الآخرة؛ فبأَنْ يَمُنَّ اللهُ على المرء فيحشُرَه في زمرة السعداء، ومنازل الأتقياء، ويُحاسَب حسابًا يسيرًا، ويمضي على الصراط إلى جنَّات عدن فيها نعيمٌ مقيمٌ؛ (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)[هُودٍ: 108]، وهم الذين أُوتُوا كتبَهم بأيمانهم، وقال الله في وصف حالهم: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)[الْحَاقَّةِ: 20-24].
ولَمَّا كانت هذه الحياة الدنيا مُؤذِنةً بزوال، محدودةً بآجالٍ، لا يستأخر أصحابُها عنها ساعةً ولا يَستقدِمُونَ، فقد جاء ختامُ هذا الدعاء النبويّ العظيم، بسؤال الله -تعالى- أن يجعل هذه الحياة مضمارًا لاستباق الخيرات، ومَيدانًا للتنافس في الباقيات الصالحات، وهو دليلٌ على أن الأخيار من عباد الله إنما يزدادون من الخير كُلَّما طال بهم العمرُ، وامتدَّت بهم الحياةُ، ومصداقُ ذلك قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَتَمَنَّى أحَدُكُمُ المَوْتَ، ولا يَدْعُ به مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّه إِذَا مَاتَ أحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وإنَّهُ لَا يَزِيدُ المُؤْمِنَ عُمْرُهُ إلَّا خَيْرًا"(أخرجه مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-).
وإِذَنْ: فالحياةُ التي يقطع المؤمنُ أشواطَها في الاستزادة من صالح القول والعمل، خيرٌ يُرغَب فيه، ويُحرَص عليه، والموتُ راحةٌ له من الفتن والشرور والآثام، بالسلامة من غوائلها، والتردِّي في وَهْدَتِها، ولاسيما مع استحكام العلة، وغلبة الضَّعْف، وندرة الْمُعِين؛ ولهذا جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا: "وإذا أردتَ في قومٍ فتنةً فاقْبِضْنِي إليكَ غيرَ مفتونٍ..." الحديثَ.
فاتقوا الله -عباد الله-، وليكن لكم في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حسن التأسِّي والاتباع، وكمال الاقتداء به، في دوام التطلُّع إلى الله -تعالى- بصلاح الدين والدنيا والآخرة، فهو منتهى الأمل، وغاية الرجاء، لكل مَنْ عاش على الغبراء من عباد الله البررة الأتقياء.
نفعني الله وإيَّاكم بهدي كتابه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولكافَّة المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، واسع العطاء والجود، أحمده -سبحانه-، وأشهد أن لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وهو الربُّ الإلهُ المعبودُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا، عبدُ اللهِ ورسولُه، صاحبُ الحوضِ المورودِ، والمقامِ المحمودِ، اللهم صلِّ وسلِّم، على عبدِكَ ورسولِكَ محمد، وعلى آله وصحبه.
أمَّا بعدُ، فيا عبادَ الله: لقد جاء في بيان عِظَم مقام هذا الدعاء النبوي، وعُلُوّ قَدرِه، وشرفِ منزلتِه، وبالغِ أثَرِه، قولُ أبي العباس القرطبي -رحمه الله-: "ومعنى هذا -أي معنى الدعاء بصلاح الدين- أن الدين إن فسَد لم يَصلُح للإنسان دنيا ولا آخرةٌ، وهذا دعاءٌ عظيمٌ جمَع خيرَي الدنيا والآخرة، فحقٌّ على كلِّ سامعٍ له أن يحفظَه ويدعوَ به، آناءَ الليل وآناءَ النهار، لعلَّ الإنسانَ أن يُوافِق ساعةَ إجابةٍ، فيحصل على خير الدنيا والآخرة" انتهى.
وهذا -يا عباد الله- شأنُ جميعِ الأدعيةِ النبويةِ الشريفةِ، الثابتةِ عنه -صلوات الله وسلامه عليه- في شتى الأوقات ومختلف المناسَبات، فإنها جامعة لكل ما يُجلَب به الخيرُ، ويُدفَع الشرُّ، ويُبلَغ به المرادُ؛ فاحرصوا -رحمكم الله- على الأخذ بها، والاستزادة منها، والاستدامة عليها؛ إذ هي وسيلة صالحة، وسببٌ مُوصِلٌ إلى كلِّ خيرٍ عاجلٍ أو آجلٍ.
واذكروا على الدوام أن الله -تعالى- قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائر الطغاة والمفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتهم، واجمَعْ كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسُنَّةَ نبيكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعبادكَ المؤمنينَ المجاهدينَ الصادقين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا مَنْ إليه المرجع يوم التناد.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم اكفنا أعداءك وأعداءنا بما شئت يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام، وسيئ الأسقام.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم