صلاة خلف أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه-

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-22 - 1436/04/02
عناصر الخطبة
1/ إطلالة النبي الأخيرة على أصحابه في صلاة الفجر 2/ عظم أثر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وأمته 3/ كيف ننال صحبة نبينا في الجنة؟ 4/ فضل محبة النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل تلك المحبة 5/ من أهم الأسباب التي تُدخل العبد الجنة 6/ محبة الله ورسوله قوت القلوب، وغذاء الأرواح.

اقتباس

محبة الله ورسوله قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، هي الحياة التي من فقدها فهو يمشي بين الأحياء وهو من جملة الأموات. من أحب الله ورسوله، شُفِي قلبه من جميع الأسقام، ومن فقد ذلك الحب، امتلأت حياته بالهموم والآلام.. فعجبٌ قولهم نحب النبيّ، وهم عن أخباره غفلوا! وعجباً قولهم نريد مرافقته في الجنة، وشربة من حوضه، ودخولا في شفاعته، وهم بعيدون عن سُنته، كارهون لبعض أحكام شريعته، مبغضون لأتباعه، محاربون لمن أظهر سنته وأحياها ونشرها ودعا إليها، فهم عند القوم متخلفون، أو رجعيون، أو ظلاميون، وظنوا أن التخلي عن السنة حُرية، وأن نبذ الشريعة حضارة، وأن التنكر للدين تقدم وازدهار...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: جموع الصحابة الكرام -رضي عنهم وأرضاهم- يصفّون خلف أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فجراً، في آخر يوم من حياة حبيبهم ونبيهم وقرة أعينهم -صلى الله عليه وسلم-، وهم لا يعلمون أنها آخر العهد به -عليه الصلاة والسلام-.

 

وبينا هم في صلاتهم خاشعون، لم يفجؤهم إلا وستر حجرة عائشة -رضي الله عنها- يُكشف، ويُطلّ عليهم وجه البدر من وراء الستر، نظر إليهم، ثم تبسم وضحك، كأن وجهه ورقة مصحف.

 

أيّ شعور يا ترى قد أحس به أولئك الصفوة، وهم يرون تلك الابتسامة تعلو محيّاه، فهل تَعجب إذا فتنوا؟! هل تعجب إذ كادت قلوبهم أن تطير من أقفاصها لتعانقه! وكادت أرواحهم أن تَخرج لتَفتدي ذلك المبسم!

 

نعم، لقد همّ الناس أن يُفتتنوا في صلاتهم، فقد ظنوا أنه سيخرج إليهم سيؤمهم، سيسمعون صوته الشجيّ، وينظرون إلى وجهه البهيّ، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصفّ، وفرح الناس فرحاً  كادت تطير معه قلوبهم، ولكنها كانت نظرة الوداع الأخيرة، فما كان يستطيع أن يخرج إليهم أو أن يصلي بهم، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ودخل حجرته، وأرخى الستر إلى الأبد، فلن يخرج منه أبدا، ولن يقول لهم استووا أبدا، ولن يدرك وقت صلاة أخرى أبدا.

 

أيها المسلمون: كانت تلك النظرة، نظرة الاطمئنان أن الصحب على المنهج سيسيرون، وبما جاءهم به من الوحي سيستمسكون، وخلف إمامهم سيصلون، وصفاً مرصوصاً سيكونون. وجسداً واحداً وقلباً واحداً ويداً واحدة، وعلى صراط مستقيم سيمضون، ليكملوا الرسالة، ويوصلوا الأمانة إلى الناس أجمعين، ليعلموا أنه لا إله إلا الله العزيز الحكيم.

 

كانت نظرة الوداع، وابتسامة الاستبشار بأن المنهج باق ثابت، وأن ما زرعه قد آتى ثماره، وأن من بعده سيتبعون آثاره، ويسيرون مساره.

 

وبعد: ألست تتمنى أن ترى وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو في المنام؟ أليس من رآه مناماً حاز من الشرف والفخر ما يحسده عليه من علم؟ ألست حريصاً على أن ترى ذلك المبسم؟ ألست حريصاً على أن تسمع ذلك الصوت الشجيّ؟ أليس قد أحكم حبه الحصار على قلبك؟ وكنت تذكر خلفاءه وأصحابه فتتحسر، وتسأل الله أن يجمعك بهم في جنته.

 

أما علمت أنك إن تحدثت عن تصديق أبي بكر، فهو إحدى حسناته؟ وإن تحدثت عن عدل عمر، فهو من شَيّد لبناتِه؟ وإن تعجبت من جود عثمان، فهو جزءٌ من أعطياته؟ وإن أثار حماسك إقدامُ عليّ، فإنما هو حربة من حرباته؟ وإن سمعت ببأس حمزة، أو غيرة سعد، أو صبر بلال، أو رقة عمار، أو أمانة أبي عبيدة، أو فقه معاذ، أو تلاوة سالم، أو مزمار أبي موسى، أو شجاعة أم عَمَارَة، أو علم عائشة، وغير ذلك مما لا مجال لحصره، ذلك كله ثمرة جهاده، وأثر رحمة الله التي أنبتت على يديه قلوباً حية من غيث وحيه إليه، فأحيا به الله الأرض بعد موتها، وشق أخاديد القلوب فأنبتت من كل فن بهيج، حضارةً وعدلاً وجهاداً وتضحيةً عجزت أن تجاريها كل الحضارات، ووقفت أمامها وقوف المقعد الحيران، لا يستطيع مجاراة نهر الهدى الذي سلك طريقه إلى القلوب، فارتوى منه من أراد الله له الهداية، واكتفى البعض منهم فاغترف غرفة بيده، وأعرض عنه أكثر الناس، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 187].

 

أيها المسلمون: إني بكلامي هذا لا أرمي إلى أن أُشعل الشوق في قلبك لتلك الابتسامة، ولصاحب تلك الابتسامة، ولكني أريد أن تثمر هذه الكلمات شرارة تتوقد منها عاطفتك، فتُحفّزك لتشمّر كي تراه، وما لرؤيته من سبيل إلا بالسير على نفس المنهج، والاستمساك بالهدي النبوي، في العبادات والمعاملات، والثبات على الحق، حتى يدركك الحق وأنت على ذلك. يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مِن أشدّ أمتي حباً لي، ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله". (أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-).

 

ومجرد تمني الرؤية لا تحققها الأماني، إذ إن المرء المحب يسعى لحبيبه بكل ما يقدر عليه من وسيلة، فإن أردت أن تنال حظاً من رؤيته وابتسامته -صلى الله عليه وسلم-، لا بد لك من عمل صالح، وذكر وتسبيح واستغفار، وصلاة وصيام وحج، وصدقة وبر وصلة، وصبر وشكر، ونية صالحة، وعزم أكيد، وصدق وسعي حثيث.

 

لا بد لكي تنال حظك من تلك الابتسامة أن تجيب منادي الحبيب إذا ناداك حي على الصلاة، حي على الفلاح، وأن تواصل السير في طاعة مولاك، على سنة نبيك بالمساء والصباح، لا بد أن تترك الحقير لتنال العظيم، وأن تؤثر الآخرة على الأولى، وأن تعمل طويلا لتستريح طويلا.

فما هي إلا ساعة ثم تنقضي *** ويذهب هذا كله ويزول

 

وليكن بين ناظريك ونصب عينيك أن متاع الحياة الدنيا قليل، وأن الآخرة خير لمن اتقى ولا يظلمون فتيلاً. ولا يمكن لمحب أن يكون أهله أو ماله حجر عثرة في طريق الوصال، أو أن يأذن لهم أن يقطعوا بينه وبين محبوبه الحبال.

 

فاصبر نفسك في هذه الفانية لتكون من الفائزين في الآخرة، ومن ظفر بما يؤمله نسي كل عناء أصابه في سبيله، وهانت عنده كل نفقة أنفقها لنيله، كما كان عمر -رضي الله عنه- يتمثل هذا البيت:

كأنك لم تُوتَر من الدهر مرة *** إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه

 

وقد قال الله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)[الأحزاب: 6]، فلا يتم لهم حقيقة الإيمان إلا إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحب إليهم من أنفسهم، فضلاً عن أبنائهم وآبائهم وأزواجهم. وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"(متفق عليه).

 

وقال له عمر -رضي الله عنه- يوماً: "والله يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال: فوالله لأنت الآن أحب إلي من نفسي. فقال: الآن يا عمر".

 

وتصديق دعوى المحبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- هي اتباعه، وعدم الابتداع في دينه الذي بعثه الله به. وأن يقف المحب حيث أمر -صلى الله عليه وسلم-، ولا يُقدّم بين يدي الله ورسوله. وإذا قضى الله ورسوله أمراً لم يكن له الخيرة من أمره. قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31]، فدعوى المحبة باطلة، ما لم يثبتها الاتباع.

 

أيها المسلمون: إذا عدنا إلى ابتسامة الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، فإننا لم نرها، ولن نراها إلا في الجنة، ولن ندخل الجنة إلا بعمل يُصدّق تلك المحبةَ ويدل عليها. حتى إن أحدهم لا يصبر على قراءة صفحة من سيرة الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، بينا هو يمضي ساعات طويلة في قراءة الصحف والمجلات ويتابع أخبار من لا خَلاق لهم!!

 

 وقارن ذلك بما يقرأه أحدهم مما أُنزل على الحبيب من الآيات! فعجبٌ قولهم نحب النبيّ، وهم عن أخباره غفلوا! وعجباً قولهم نريد مرافقته في الجنة، وشربة من حوضه، ودخولا في شفاعته، وهم بعيدون عن سُنته، كارهون لبعض أحكام شريعته، مبغضون لأتباعه، محاربون لمن أظهر سنته وأحياها ونشرها ودعا إليها، فهم عند القوم متخلفون، أو رجعيون، أو ظلاميون، وظنوا أن التخلي عن السنة حُرية، وأن نبذ الشريعة حضارة، وأن التنكر للدين تقدم وازدهار. والصحيح أنهم يُخشى أن يكونوا ممن وصفهم الله تعالى بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج: 11].

 

تَبَسّمَ بأبي هو وأمي حين رأى أمته تصلي الجماعة في المسجد، متراصّة، متابعة للإمام، لا تسبقه، ولا تتخلف عنه، بل تتبعه، وبه تقتدي.

 

فما دامت الأمة تصلي في المساجد، فثق بخيريتها، وتفاءل بمستقبلها، ولتكن ابتسامة الحبيب علامة الاطمئنان على أن جذوة الحق لا تخبو، طالما ارتفع صوت المؤذن يصدح عبر المآذن يردد: الله أكبر، حبذا الترديد. فالعهد العهد، تمسكاً بما تبسم الحبيب -صلى الله عليه وسلم- رضاً عنه، وسعادةً به، وسروراً من أجله، فلا تغب عنه أبداً ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإنها من أهم الأسباب التي سوف تُدخلك إلى الجنة، وفيها ترى وجه الحبيب، وابتسامة الحبيب، وتسمع صوت الحبيب، وتنال رضا الحبيب، حبيب من البشر، محمد بن عبدالله، بأبي هو وأمي، صلوات ربي وسلامه عليه، وحبيب هو رب البشر، حين يكشف الحجاب، ويحل على أهل الجنة رضوانه، فلا يسخط عليهم بعده أبدا.

 

لا حرمني الله وإياكم ووالدينا هاتين الرؤيتين، وأحلّ عليّ وعليكم الرضوان، مع من قال فيهم: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة: 72].

 

بارك الله ..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: إن الأحوال تُصدّقُ الأقوال أو تكذبها، وكل قول فلصدقه وكذبه شاهد من حال قائله، فكما أحببت النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمقال، فلتشهد حالك صدق محبتك بالفعال. وليكن فخرك كل فخرك في دخولك في عبودية مولاك، واتباع حبيبك -صلى الله عليه وسلم-، كما قال القائل:

شرف النفوس دخولها في رِقّهم *** والعبد يحوي الفخر بالتمليك

 

ومحبة الله ورسوله قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، هي الحياة التي من فقدها فهو يمشي بين الأحياء وهو من جملة الأموات. من أحب الله ورسوله، شُفِي قلبه من جميع الأسقام، ومن فقد ذلك الحب، امتلأت حياته بالهموم والآلام.

 

بالمحبة: تصل النفس إلى الجنة التي لا يصلها المرء إلا بشق الأنفس. وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله لثوبان -رضي الله عنه- حين سأله عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم. قال: "المرء مع من أحب يوم القيامة".

 

فيا لها من نعمة سابغة على المحبين.

فحيهلا، إن كنت ذا همة فقد حدا *** بك حادي الشوق فاطوِ المراحلا

وقل لمنادي حبهم ورضاهمُ *** إذا ما دعا لبيك، ألفاً كواملا

وخذ منهمُ زاداً إليهم وسر على*** طريق الهدى والفقر تصبح واصلا

وأحي بذكراهم سُراك إذا ونت*** ركابك فالذكرى تعيدك عاملا

وإما تخافن الكلال فقل لها *** أمامك ورد الوصل فابغ المناهلا

وخذ قبساً من نورهم ثم سر به *** فنورهمُ يهديك ليس المشاعلا

وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة*** فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا

فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ***ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا

 

هذه الأبيات للعلامة شمس الدين ابن القيم -رحمه الله تعالى-، وقال قدس الله روحه: "إذا غُرست شجرة المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب، أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى". اهـ

 

هذا وصلوا على الحبيب، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

 

اللهم ..

 

 

المرفقات

خلف أبي بكر الصديق رضي الله عنه

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات