عناصر الخطبة
1/ دار المتقين العالية وعظمتها 2/صفات الجنة 3/تفاوت درجات أهل الجنة 4/نعيم أهل الجنة 5/العمل الصالح من أسباب دخول الجنة.اقتباس
فالفرق كبير جدًّا بين من يشرب الماء اللذيذ النافع في دار كرامة قد غفر ذنبه ورضي عنه، ومن يشرب الماء الحميم فيقطع أمعاءه في دار إهانة وسخط ونتن وعذاب مؤلم ومستمر، فالفرق كبير بين فريق الجنة وفريق السعير، فهل من مدكر ومعتبر؟!
الخطبةُ الأولَى:
الحمد لله واسع الرحمة كثير العطاء والغفران، أحمده -سبحانه- وأشكره وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فلا ربّ لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون: فلا يخفى أهمية التعرُّف على دار المتقين العالية وعظمتها وما فيها من قصور وخيام وأنهار، وجنات نعيم، ولا نحتاج في ذلك إلى ارتفاع بصاروخ وجهاز فضاء وعناء وكرب وبلاء، وإنما بالنظر في كتاب ربنا وهدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتأمل جادّ، وتصديق بما فيهما.
فهي جنة عالية في السماء تحت العرش، عرضها السماوات والأرض، بناؤها: لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، وخيامها اللؤلؤ المجوف، فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى.
ثمارها: ملائمة لأصحابها، فهي كالدّلاء، ألين من الزبد وأحلى من العسل، فيها النخل والرمان، والعنب، والسدر المخضود، والطلح المنضود، والظل الممدود، والماء المسكوب، والأزواج الحور، والأبكار العُرْب الأتراب، والقصور العالية التي يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها.
ومن صفات الجنة: أنها نور يتلألأ، وريحانة تهتز، رائحتها المسك، تُدْرَك من مسيرة مائة عام، وهي درجات كثيرة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، وجنات متنوعة ومتفاوتة، فجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان خضراوتان، وجنة عدن التي غرسها الرب بيده الشريفة، وقال لها: تكلمي، فقالت: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)[المؤمنون: 1].
فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فأهل هذه الجنان يتفاوتون في منازلهم، لتفاوت أعمالهم الصالحة، فيتراءون الغرف كما تتراءون الكوب الدري الغابر من المشرق أو المغرب، ويتفاوتون في حسن ملابسهم ومجالسهم وخدمهم وعدد أزواجهم وأبهة ملكهم.
أيها المسلمون: ومع ما في الجنات من الرفعة والسعة والمتع والهناء والنعيم المقيم، فلأهلها مزيد من التفضل والإكرام، هو مغفرته -تعالى- لهم ورضوانه عنهم، والنظر إلى وجهه الكريم، فما أعظمها من سعادة، وما أعلاه من شرف، وما أعظمها من خسارة على من فرَّط في تلك الجنان، ونال السخط والغضب من الجبار، وصار في جملة حطب النار.
وإذا كان الأمر كذلك -يا عباد الله-، بل وأعظم منه، ونؤمن به حقًّا، وجزمًا، ولا نشك فيه، فهل منا مِن مبادر ومسارع لهذه الجنات والعلالي والقصور؛ امتثالاً لقوله -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[سورة آل عمران:133]، ثم ذكر صفتهم فقال: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[سورة آل عمران:135].
عباد الله: ألا هل من مشتاق للجنة التي قال الله عنها: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)[سورة محمد:15]، فالفرق كبير جدًّا بين من يشرب الماء اللذيذ النافع في دار كرامة قد غفر ذنبه ورضي عنه، ومن يشرب الماء الحميم فيقطع أمعاءه في دار إهانة وسخط ونتن وعذاب مؤلم ومستمر، فالفرق كبير بين فريق الجنة وفريق السعير، فهل من مدكر ومعتبر؟!
أيها المسلمون: ومما ورد في السُّنة من صفات الجنة ونعيمها: ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قلنا يا رسول الله حَدِّثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: "لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، مَن يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه".
وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم"، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلًا، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضًا"(متفق عليه).
وعن كريب أنه سمع أسامة بن زيد -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ألا من مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا حظر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقامٌ في أبدٍ، في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحَبْرَةٌ ونعمة في محلة عالية بهية"، قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها، قال: "قولوا إن شاء الله"، فقالوا: إن شاء الله".
عباد الله: وإذا كانت هذه سلعة الله معروضة علينا ونحن مازلنا على قيد الحياة والأمر متيسر لنا وبطرق كثيرة وسهلة، فهل من عزيمة صادقة وهمة عالية وعمل جادّ وإن قلّ، فالكَيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها وتَمنَّى على الله الأماني.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[سورة التوبة:72].
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مُكْرِم أولياءه المتقين بمغفرته ورضوانه وبالسكنى في دار كرامته، أحمده -تعالى- وأشكره، وأستغفره وأتوب إليه، وأسأله المزيد من فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحكم العدل فلا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويُؤتِ من لدنه أجرًا عظيمًا.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبي قام في طاعة ربه حتى تورّمت قدماه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون: فأوصيكم ونفسي بطاعة الله وطاعة رسوله مع الاستقامة على ذلك والصبر والاحتساب وحُسْن الاتباع حتى نلقاه وهو راضٍ عنا، ونفوز بدار النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فقد وعدنا -تعالى- بذلك بقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا)[سورة النساء:70].
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها: "أي: من عمل بما أمره الله ورسوله وترك ما نهاه الله عنه ورسوله، فإن الله -عز وجل- يُسكنه دار كرامته ويجعله مرافقًا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة وهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين، وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم، ثم أثنى عليهم فقال: (وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)".
أيها المسلمون: ومن كرمه -تعالى- للمؤمنين في الجنة أن يُلْحِق الأبناء بالآباء في المنزلة وإن لم يبلغوها إذا كانوا متَّبعين لهم في الإيمان، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)[سورة الطور:21].
ومن كرمه -تعالى- لأهل الجنة إحلال الرضوان، لما روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تُعطِ أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أُعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا"(متفق عليه).
فما أعظمه من عطاء! وما أشرفه من كرم! وما أهنأها من سعادة.
اللهم وفِّقنا لطاعتك وطاعة رسولك وجَنِّبنا ما نهيتنا عنه وما نهانا عنه رسولك، وارزقنا الاستقامة على ذلك حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم