صراع الأفكار

ناصر بن محمد الأحمد

2015-03-10 - 1436/05/19
عناصر الخطبة
1/سنة الصراع بين الحق والباطل 2/الصراع بين الحق والباطل في مجال الأفكار وقيمة ذلك 3/حرص أعداء الإسلام على تخريب الفكر الإسلامي وبعض وسائلهم في ذلك 4/أسرار تقدم الدول الغربية وقوتها 5/حاجة المسلمين إلى صناعة الأفكار وبعض الأسباب المعيقة لذلك 6/بعض الأمراض التي تواجه التفكير لدى المسلمين وكيفية التخلص منها 7/بعض العوامل المؤثرة على طريقة التفكير 8/حاجة الصحوة الإسلامية إلى العقول المفكرة ودور المربين في ذلك 9/حرص الغرب على تشويه الصحوة الإسلامية والإيقاع بينها وبين الأنظمة

اقتباس

أيها المسلمون: إن للأفكار قيمة كبيرة كأداة من أدوات الصراع بين الحق والباطل قديماً وحديثاً، وما سلوك الإنسان وتصرفاته إلا نتيجة لأفكاره، فإذا تغيرت أفكاره بجهده هو، أو عن طريق جهد غيره، فإن سلوكه يتغير، وهذا التغيير قد يصل إلى النقيض، فهناك فكرة قد تجعل إنساناً ينحني ويسجد لصنم من الحجر، وفكرة أخرى تجعل إنساناً آخر يحمل الفأس ليكسر...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: إن من سنن الله الجارية: سنة التدافع، أو ما يسمى بالصراع بين الحق والباطل، قال تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) [البقرة: 251].

 

فالله -عز وجل- يدفع بأهل الحقِ أهل الباطل، وهكذا يستمر الصراع بين الأنبياء وأتباعهم من العلماء والدعاة وطلاب العلم، وأتباع الشيطان، يستمر الصراع بين الأنبياء، وأتباع الأنبياء من جهة، والجماعات الضالة الذين يرفضون حكم الله وشريعته، ويتمسكون بحكم الجاهلية من جهة أخرى، ولن ينتهي هذا الصراع حتى تنتهي الدنيا.

 

ومجالات الصراع -أيها الأحبة- بين الحق والباطل كثيرة، وسيكون الحديث اليوم منصباً على مجال واحد من هذه المجالات ألا وهو: "صراع الأفكار".

 

أيها المسلمون: إن للأفكار قيمة كبيرة كأداة من أدوات الصراع بين الحق والباطل قديماً وحديثاً، وما سلوك الإنسان وتصرفاته إلا نتيجة لأفكاره، فإذا تغيرت أفكاره بجهده هو، أو عن طريق جهد غيره، فإن سلوكه يتغير، وهذا التغيير قد يصل إلى النقيض، فهناك فكرة قد تجعل إنساناً ينحني ويسجد لصنم من الحجر، وفكرة أخرى تجعل إنساناً آخر يحمل الفأس ليكسر ذلك الصنم!.

 

ولأن الأفكار بهذا القدر من الأهمية في الصراع والتدافع، فإنه ومنذ أن تقرر في أوكار الصهيونية تدمير الخلافة الإسلامية، وأعداء الإسلام يحرصون على تخريب الفكر الإسلامي، وتشويه العقل المسلم من ناحية، ومن ناحية أخرى يقومون برصد الأفكار الفعالة التي تحاول إيقاظ الأمة من سباتها، لكي يقضوا عليها في مهدها أو يحتووها قبل أن تصل إلى جماهير الأمة، فتصحح وجهتها، أو تعدل انحرافات أفرادها، ولتبقى الجماهير إذا اجتمعت تجتمع على أساس العاطفة، وتحت سلطانها، وليس على أساس الفكرة والمبدأ.

 

أيها الأحبة: إن أعداء هذه الأمة يستخدمون في حلبة صراع الأفكار مراصد دقيقة تتلقى أي إشارة خطر عن فكرة، أو توجيه، أو تجديد من قبل عالم، أو داعية مبرز، أو حتى كتاب؛ ربما قبل أن تصل الفكرة إلى جماهير الأمة! فماذا يفعل الأعداء عندما تعطيهم مراصدهم تلك الإشارة ؟ كيف يتصرفون ليحُولوا بينها وبين المجتمع الذي يحاول صاحبها نشر الفكرة فيه ؟

 

إنهم في البداية يتعرفون على الفكرة بدراستها دراسة دقيقة، ثم يبدؤون فيما يمكن أن نسميه مرحلة المواجهة، وفي هذه المرحلة يبذلون جهداً ضخماً، ويستخدمون مواهبهم الشيطانية كلها، حتى لا يكون لتلك الفكرة أي عائد أو نتيجة، ووسائلهم في ذلك كثيرة، وهم يغيرون منها دائماً ويعدّلون فيها تمشياً مع القاعدة التي تقول: "إن كل فخ عُرف مكانه يصبح دون جدوى".

 

فوسائلهم تتنوع حسب الظروف، مع المحافظة على المبدأ الأساسي، وهو تحطيم الفكرة، أو شلّها.

 

فتارة يصوبون ضرباتهم على اسم صاحب الفكرة وشخصه، وتارة يستخدمون طريقة التشويش عن طريق إضافة مجموعة من الأفكار الثانوية إلى الفكرة الأصلية، بحيث تُضعف هذه الأفكار الثانوية سلطان الفكرة الأصلية على العقول، وتارة أخرى يستخدمون أسلوب إثارة الشبهات، وفي أحيان أخرى يستخدمون طريقة الاستبدال فيطلقون هم أنفسهم فكرة جديدة تكون أقل ضرراً على مصالحهم من الفكرة الأصلية.

 

وهكذا، يبقى الصراع مع الأفكار.

 

ونحن إذ اكتشفنا بعض التفاصيل عن طبيعة هذا الصراع فبقية التفاصيل الكثيرة للصراع تبقى في الظلام، ويصعب وصفها كما يصعب وصف بيت العنكبوت، وخاصة إذا كانت خيوطه تأتي من بعيد، ولا يحيط بها بوضوح إلا من وفقه الله -عز وجل- وأضاء بصيرته.

 

ولكننا إذا أردنا الإجمال قلنا: إن الأعداء يحاولون أن يجعلوا من الداعية للحق خائناً لأمته ومجتمعه الذي يعيش فيه، فإن لم يستطيعوا ذلك، فإنهم يحاولون أن يحققوا خيانة المجتمع للداعية على يد بعض المجرمين الذين يسيرون في ركب الأعداء على مرأى العيون في صورة رجال مرفوعين على منابر الزعامة، رجال وُضعوا في أوطانهم مواضع الأبطال ليقوموا بدورهم المرسوم حين تفشل خطط الأعداء في تحطيم الأفكار الطيبة.

 

أيها المسلمون: ولكن الأمر ليس بيد الأعداء، إنه بيد مَن يقدر الأشياء، فتسير الذرة، ويسير الجبل، حسب تقديره، وقوة الأعداء مهما بلغت، وكيدهم مهما قوي فهو ضعيف؛ لأنه من كيد شيطان، وقد قال الله -جل جلاله-: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء: 76].

 

ودفْعه منوط بما في أنفسنا نحن، قال تعالى: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) [آل عمران: 120].

 

وسُنة الله في التغيير: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].

 

فسنة الله التي لا تتخلف، فلتغيِّرْ الأمة نفسها يتغيّر واقعها.

 

وإذا كان الغرب ينتقل إلى الهمّ الاقتصادي والثورة التقنية، فإننا في بلاد المسلمين لا زلنا بحاجة إلى التخطيط الفكري، فإن هذه البضاعة لا تزال عزيزة.

 

وفي دول الغرب الآن نجد أن السر -والله أعلم- في قوتها، هو تكامل الفكر والسياسة، واعتماد رجال التخطيط والتنفيذ في دوائر السياسة والإدارة على ما يقدمه رجال الفكر العاملون في مراكز البحوث والدراسات، خلال اللقاءات الدورية التي تجمع بين الفريقين لمناقشة وتقويم القضايا الداخلية والخارجية.

 

ففي بلد كالولايات المتحدة هناك حوالي تسعة آلاف مركز بحوث ودراسات متخصصة في بحث شؤون السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والتربية.

 

لا شك أنهم في الغرب يمارسون هذه الصناعة ويشجعونها، بل عندهم ما يسمى ب"بنوك الأفكار" فالذي يقدم فكرة جديدة، تخزّن حتى تأخذ طريقها للتنفيذ، ونحن لم نمارس هذه الصناعة إلا في القليل، وقد يكون من الأسباب الداعية لذلك ما تعودنا عليه من حب للسهولة، فلا نريد أن نتعب أنفسنا بالتفكير العميق في مشكلة من المشاكل، وكيف تحل؟ وإنما نكتفي بكلام عام، وصحيح في نفس الوقت، كالطبيب الذي يصف لكل مريض أقراص الأسبرين، فلا هي تضره ولا هي تنفعه النفع المطلوب، فأنت تسمع من يقول لك: حل المشكلة الفلانية في الرجوع إلى الله، وهذا كلام صحيح، ولكن كيف يكون الرجوع إلى الله؟ كيف تحل العقد الاجتماعية المتشابكة ؟ كيف نقضي أو نخفف من الظاهرة الفلانية ؟ كيف نستفيد من الطاقات ونجمعها ونضعها في موضعها الصحيح ؟ وعشرات من الأسئلة، بل مئات عن مشاكل عميقة في جذور الأمة تبدأ بكيف، لا جواب عليه!.

 

إننا بحاجة ماسة -أيها الأحبة- إلى صناعة الأفكار، فكما أننا بحاجة إلى من يعمل للإسلام، فإننا بحاجة أشد إلى من يفكر للإسلام.

 

فالعامل كثيراً -ومع كثرة الأعباء- لا يجد وقتاً للتخطيط الفكري، تجده يعمل بشكل آلي روتيني، وهذا خلل ينبغي للعاملين للإسلام أن يتنبهوا له، فإما أن تترك له مجالاً واسعاً للتفكير بمقدار ما تطالبه من عمل، أو تخصص مؤسسات، أو جهات مهمتها التفكير، وإلا سنخسر كثيراً من المواقع والفرص في حلبة الصراع.

 

سبب آخر قد يكون عائقاً عن وجود صنّاع الفكر الذين يقدمون الحلول الصحيحة، ألا وهو: التأثر ببعض المنهج الظاهري بين صفوف طلبة العلم.

 

إننا مطالبون بالتفكير، كما جاء في القرآن الكريم: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44].

 

إننا مطالبون بالتفكير في آيات الأنفس والآفاق، مطالبون بالتفكير في أسرار التشريع، مطالبون بالتفكير في سنن التغيير الذي يريده الله -سبحانه وتعالى-، مطالبون بالتفكير في منهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- في فقه التغيير.

 

وهذا التفكير يأتي بالتأمل والتعمق في فهم الأمور، ولا يأتي بالسطحية أو بمجرد تفكير بسيط؛ لأن العقل هبة الله لكل حي، ولكن أساليب تفكيره كسب يكتسبه من معالجة النظر، ومن التربية، ومن التعليم، ومن الثقافة، ومن آلاف التجارب التي يحياها المرء في هذه الحياة.

 

أيها المسلمون: إن أمراض التفكير كثيرة، ولقد أصيب كثير من المسلمين بمرض خطير يجعلهم في حيرة أمام كثير من أمور الواقع، لا يقدرون على فهمها، إنه مرض الجزئية في التفكير، وهو: مرض يمنع صاحبه من أن يربط بين الأحداث والوقائع، فالمصابون بهذا المرض ينظرون إلى الوقائع والأحداث حولهم، وكأنها ذرات متناثرة لا يربطها أي رباط عضوي، أو يجمعها سياق واحد، وبالتالي لا يستطيع هؤلاء أن يستنتجوا قانوناً عاماً يمكن تطبيقه على كل حالة خاصة، فتكون قراراتهم في مواجهة الأحداث قرارات عاطفية لا ترتكز على مبادئ محددة، أو أصول واضحة، فلا يكفي النظر في الأدلة الجزئية دون النظر إلى كليات الشريعة، وإلا تضاربت الجزئيات وعارض بعضها بعضاً في ظاهر الأمر؛ ولقد عالج شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا المرض في التفكير بما سطره في كتابه القيم: "اقتضاء الصراط المستقيم" فروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال بعضهم: "ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما ضلت الأمم من قبلكم بمثل هذا، إنكم لستم مما هاهنا في شيء، انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا، والذي نهيتكم عنه فانتهوا".

 

يقول شيخ الإسلام: "وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه، وجمع حواشيه وأطرافه".

 

فالجمع بين أطراف الأدلة، وعدم النظر إليها نظرة جزئية، هو طريقة أهل السنة والجماعة، وكم من ساعات تمر بسبب نقاش بين طرفين من الناس ؟

 

لو كان عندهم وضوح في فهم المسألة المتنازع فيها، وجمعوا أطرافها وجزئياتها، فربما لم يكن للنقاش مبرر.

 

أيها المسلمون: إن أي أمة من الأمم إنما تنطلق في دربها الحضاري من مجموعة الأفكار التي على أساسها تشيّد الأمة صرح حضارتها، ويقدم الواقع شواهد عديدة على أن سلوك الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة العملية لما يؤمنون به من أفكار، ولهذا نجد أن المجتمعات تتقدم أو تتخلف تبعاً لنوعية الأفكار التي يعتنقها أفرادها، فصحة المجتمعات أو مرضها أساسهما صحة الفكر أو مرضه، والمجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الصحيحة، تتفوق على تلك التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، كما كانت حال الأمة المسلمة الأولى في صدر الإسلام، وتفوقها على مجتمعات الرومان والفرس، وغيرها.

 

ومعلوم أن جزيرة العرب لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي، يعيش في صحراء مجدبة، حتى إذا جاء وحي الرسالة، تحول الرجال الذين لا يزالون في بداوتهم، والقبائل ذات الحياة الراكدة، تحول هؤلاء إلى رجال يحملون للعالم الحضارة، ويقودون فيه التقدم والرقي.

 

فماذا دخل حياة المجتمع العربي يومئذ ؟

 

لم يدخل حياته عامل جديد ينقله تلك النقلة الهائلة في كل جانب من جوانب الحياة، إلا ذلك التصور الاعتقادي الجديد، ذلك التصور الذي جاء إلى عالم الإنسان بقدر من الله، والذي انبثق منه ميلاد للإنسان جديد.

 

إذن، فالمعركة بين الأمة الإسلامية وأعدائها ليست معركة واحدة في ميدان الحرب، بل هي معركة في ميدانين: ميدان الحرب، وميدان الفكر، والأعداء حريصون في ميدان الفكر على احتلال عالم الأفكار في أمتنا، وحريصون في نفس الوقت على توزيع نفاياتهم الفكرية من أفكار اللغو كأشعار الغزل، والقصص الجنسي، والأدب العاري، وما إلى ذلك؛ حريصون على توزيع هذه النفايات إلى أمتنا؛ لأنهم يعلمون أن الأمة التي تنتشر فيها هذه الأفكار الفاسدة تصبح غثاء تدور به الدوامات السياسية العالمية، ولا يملك نفسه عن الدوران، ولا يختار حتى المكان الذي يدور فيه، وهذا ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحذر منه: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: إنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل".

 

إن إحاطة عدونا بنا، ووصولنا إلى مرحلة الشتات والفرقة، ودخول الأمة مرحلة القصعة، كل ذلك دليل على وجود خلل في البنية الفكرية، والأطروحات العقدية التي أثمرته، مهما كانت دعاوانا عريضة، وأصواتنا مرتفعة بالادعاء أننا على النهج السليم.

 

ولذلك، فإن العاملين في ميدان إحياء الأمة لا بد لهم من التمييز بين أسباب مرض الأمة، وأعراض هذا المرض، فالأسباب في الحقيقة فكرية أساسها المعتقدات والقيم والأفكار، أما الأعراض فهي سياسية واقتصادية واجتماعية، ومن هنا فإن بداية أي تغيير لا بد أن تحدث في الأفكار، وبقدر ما تملك الأفكار رصيداً قوياً من الاستجابة لدى الأمة، وتغييراً ملحوظاً في مجال سلوكيات أفرادها، وعلاقاتهم الاجتماعية، ستتحول هذه الأفكار ثقافة معطاءة يمكن أن نقول إنها تشكل نقطة البدء في التغيير المنشود.

 

مرض آخر من أمراض التفكير، ويعد من أخطر العوامل المؤثرة سلباً على طريقة التفكير والتحليل، ألا وهو: بناء المعارف العلمية على العادات والأعراف التي ينشأ عليها الإنسان، فهو يعتقد صحة المسألة لكثرة تكرارها وتداولها في بيئته التي نشأ فيها، فهي معارف مبنية على التقليد والاقتباس وليس على التفكير والتدبر، فهو لا يستطيع أن يتجاوز الموروث الاجتماعي أو الفكري.

 

وبعض الموروثات الاجتماعية أو الفكرية أو الدعوية قد تكون صحيحة لا غبار عليها، لكنها تكتسب صحتها عند قوم؛ لأن الدليل الشرعي قد دل عليها وعند آخرين؛ لأنها موروثات ألفوها، وأخذوها عن آبائهم وأشياخهم، وشتان بين المنهجين!.

 

إن التفكير الصحيح وسيلة من وسائل الانعتاق من آسار العادة، والاتكال على تفكير الآخرين، وكسر لطوق الرتابة الذي يتربى عليه الناس كابراً عن كابر، ولهذا تضمنت دعوات الأنبياء جميعاً -عليهم الصلاة والسلام- دعوة للتفكر والنظر والتخلص من إرث الآباء والأجداد، قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) [سبأ: 46].

 

ومن العوامل المؤثرة أيضاً على طريقة التفكير: أن معرفتنا للحق تتأثر بأقوال الرجال وشهرتهم، فنحن نحاكي الرجال في أقوالهم واعتقاداتهم لمجرد إمامتهم وشهرتهم، حتى إن عقل الإنسان ينغلق ويصبح وقفاً على ذلك الشيخ، حتى لا يرى حقاً إلا ما جاء عن إمامه الذي آمن بقدراته وإمكاناته، فهو يقبل ويرفض ويصدق ويكذب، ويأخذ ويعطي، بناءً على قول الشيخ وتوجيهه بدون النظر إلى الحجة أو البرهان، وبدون أن يكون له حظ من التعقل أو التفكير، وما مَثل هذا الإنسان إلا كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب، وفيها أفعى قد تلدغه وهو لا يدري.

 

وشدة إعجابنا بإمام من الأئمة تجعلنا في بعض الأحيان نتحرج من سؤاله عن الحجة والدليل، هذا إذا فكرنا في السؤال! ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها هو من فعل المكذبين للرسل، بل هو جماع كل كفر" انتهى.

 

بارك الله لي ولكم ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

إن الصحوة الإسلامية بحاجة ماسة إلى العقول الناضجة المستنيرة القادرة على التفكير والإبداع.

 

وعلى المربي أن يستشعر أهمية ذلك، فيُحيي هذه الملكة في نفوس أتباعه، فلئن يقود أسوداً متوثبة يقظة، خير له وأنفع من أن يقود قطيعاً لا تعي ولا تدرك، ولن يقوى المربي على ذلك إلا إذا كان أسداً، وتأمل حال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما يقول على المنبر: "إذا أصبتُ فأعينوني، وإذا أخطأت فقوموني" فقال له رجل من بين الناس: إذا أخطأت قومناك بسيوفنا!.

 

فعمر بن الخطاب لا يرضى بتعبيد الناس للناس، ومصادرة عقولهم، وتغييبهم عن الساحة، بل يطالبهم بالمشاركة والناس لا يرضون بالتبعية والعجز، وهكذا تبنى الأمم.

 

وما يدريك أن من الأسباب الرئيسة للتخلف الفكري والمنهجي الذي تمر به الصحوة الإسلامية، هو أننا جعلنا التفكير، ورسم الخطط مهمة آحاد من الناس، أما البقية فهم متفرجون، لا يتجاوز دورهم تكثير السواد!.

 

إن تحرير العقول من العبودية لفلان أو فلان، وعدم الذوبان في أقواله مطلب رئيس للنهوض بالعمل الإسلامي من الرتابة والدوران حول الذات.

 

ولعل من أبرز مقومات نجاح العمل الإسلامي: أن تستحث تلك الطاقات الكامنة الخاملة، إلى النظر والتأمل، وفق الأسس والموازين الشرعية، فلأن تفكر الأمة بمائة عقل خير لها وأنفع من أن تفكر بعقل واحد.

 

أيها المسلمون: إن الجهود الكبيرة التي يبذلها الغرب لتشويه الصحوة الإسلامية، والتحريض والضغط الذي تمارسه على الأنظمة للإيقاع بينها وبينه هو امتداد للغزو الفكري الذي كانت تمارسه فلول المستشرقين والمبشرين قبل الاستعمار؛ والهدف واحد، هو: تنحية الإسلام عن قيادة المجتمع، وعزله عن النخبة والجمهور، وتكريس التبعية للنموذج الغربي وكأنه قدر لازم، وقوة لا تغلب.

 

عباد الله: ثمة فيروسات خطيرة متناثرة في بيئتنا الثقافية، بمنظوماتها المختلفة، أصابت تفكيرنا بفقر الدم، وأذهاننا بالشلل، وعقولنا بالكساح، مما يظهر أهمية إجراء عملية جراحة ذهنية، نتمكن بها من إزالة تلك الفيروسات وإزهاقها.

 

إن كثيراً من الناس لم يعرف حتى الآن قدرات عقله، ولم يستفد منها كما يجب، وذلك ربما يعود لجهل هؤلاء الناس بخصائص ومزايا هذا الجهاز العظيم الذي يسمى: المخ.

 

ولقناعتهم بالحد الأدنى من الاستفادة منه، وهو ما ليس من صفات العظماء والعباقرة على الإطلاق.

 

إن على المصلحين: أن يعرفوا أن بداية الرقي في سلم الكمال، وبداية السير في الطريق الصحيح، هو: الشعور بأننا مهما حسن حالنا، وتعدل تفكيرنا أنا لسنا في آخر مراقيه.

 

وعلينا أن ندرك: أن التفكير الذي هو للتغيير ليس درساً نحفظه، ولا نصائح نسمعها من هذا وذاك، بل إن هناك من العقبات في أنفسنا وواقعنا الكثير الذي يحتاج إلى التفكير للتغيير والحل.

 

إن الأمة الإسلامية تحتاج إلى تفكير، وإلى أناس يفكرون، وإن ما وصل إليه الأعداء من أعمال وابتكارات ما هي إلا المرحلة الثانية بعد التفكير، فتجدهم يفكرون طويلاً ليخرجوا لنا بابتكارات وأعمال تخدم دنياهم، وهم على ضلال يفكرون.

 

أما نحن مع أننا على الحق إلا أن كثيراً منا لا يفكر.

 

أضرب لك مثالاً: في المؤتمر الذي عقد عام 1897م، وضع اليهود مخططات لقيام دولة إسرائيل بعد 50 سنة، وفعلاً تحقق لهم بعد ذلك.

 

أتعلم من الذي يفكر ؟

 

إنهم اليهود الجبناء الذين: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ) [الحشر: 14] كما قال الله عنهم.

 

ومع كل هذا الجبن والخور المتأصل فيهم، إلا أنهم يفكرون! ولو أن شباب الإسلام في مدينة واحدة بدأوا يفكرون بعد تأمل وتألم في واقعنا وفي مستقبلنا، فكم سيكون لدينا من المشاريع الخيرة الناجحة ؟ مع أنهم في مدينة واحدة، فكيف لو أن كل مسلم فكر ؟

 

حينئذ؛ نعيد ماضينا ومجدنا السليب بالتفكير، ثم بعد ذلك بالعمل.

 

اللهم إنا نسألك رحمة تهد بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترد بها الفتن عنا.

 

 

المرفقات

الأفكار

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات