صدقك وهو كذوب

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ نظرات في حديث حراسة أبي هريرة للصدقة 2/ وجوب مراعاة الصدق في الأقوال والأفعال 3/ أهمية الإنصاف مع الآخرين 4/ نكران المعروف جحود 5/ ميزان التعامل مع الناس.

اقتباس

علينا أن ننظرَ بالعينينِ.. ونَزِنَ بالكَّفتينِ.. ولا نكون كالمنافقِ الذي إذا خاصمَ فجرَ.. وجحدَ ما كانَ من المعروفِ وأنكرَ.. بل علينا أن نَمتثلَ قولَه تعالى: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).. فلا تنسَ أيُّها الزَّوجُ فضلَ زوجتِكَ وصبرَها معك.. ولا تُنكرْ أيُّها الصَّديقُ صديقاً بذلَ الكثيرَ لك.. ولا تجعلْ غضبةً تُنسينا إحسانَ أهلِ الإحسانِ.. ولا زلةً تمحي فضلَ أهلِ الخيرِ والإيمانِ.. يقولُ سعيدُ بنُ المُسيَّبِ -رحمَه اللهُ-: "ليسَ من شريفٍ ولا عالِمٍ ولا ذي سُلطانٍ إلا وفيه عيبٌ، ولكن من النَّاسِ من لا ينبغي أن تُذكرَ عيوبُه؛ فمن كان فضلُه أكثرَ من نقصِه وُهِبَ نقصُه لفضلِه"..

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ الذي لا يحيطُ بحمدِه حامدٌ، ولا تُوفي قدرَه بليغُ المحامدِ، سبحانَه فلا يعبدُه حقَّ عبادتِه عابدٌ، ولو قضى عمرَه قانتًا للهِ وهو راكعٌ أو ساجِد، الحمدُ لله عظيمِ الشَّانِ واسعِ السُّلطانِ مدبِّرِ الأكوانِ، في مُلكِه تُسبِّحُ الأفلاكُ، وحولَ عرشِه تَسبحُ الأملاكُ، (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ)، لوجهِه سُبُحاتُ الجلالِ، وهو الجميلُ الذي له كلُّ الجمالِ.

 

 واللهِ لو كانَ البحرُ محابِرَ والسَّمواتُ السَّبعُ والأرَضونَ دفاترَ فلن تفِيَ في تَدوينَ فضلِه وأفضالِه، ولن تبلغَ في بيانِ عظَمَتِه وبديعِ فِعالِه، اللهُ كريمُ الاسمِ عَليُّ الوصفِ، سبَّحتْ له السَّمواتُ والأرضُ ومن فيهنَّ، والطَّيرُ قابضاتٌ وصفٌّ.

 

 أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أصدَقُ كلمةٍ فاهتْ بها الشِّفاهُ، وخيرُ جملةٍ نَطَقتْ بها الأفواهُ، وأشهدُ أنَّ محمّدًا عبدُه ورسولُه، العارفُ بالله حقًّا، والمتوكِّلُ عليه صِدقًا، المتذلِّلُ له تعبّدًا ورِّقًّا، صلّى اللهُ عليه وعَلَى آلِه الأطهارِ وصحابتِه الأخيارِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا..

 

أما بعد: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: "وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ, وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ.

 

 قَالَ: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ"، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، لاَ أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ.

 

 قَالَ: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ"، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، أَنَّكَ تَزْعُمُ لاَ تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ، قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُوَ؟، قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.. حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ)، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ.

 

 فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟".

 قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: "مَا هِيَ؟"، قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ -وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الخَيْرِ-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟"، قَالَ: لاَ، قَالَ: "ذَاكَ شَيْطَانٌ".

 

تأملوا في قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ".. خرجتْ من فمِ خيرِ إنسانٍ.. في العدوِ اللَّدودِ الشَّيطانِ.. فأخبرَ أنه صدقَ في خبرِه ذلك مع أن طبعَه الكذبُ.. وذلك لأنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانَ خلُقُه القرآنَ.. وقد قالَ اللهُ -تعالى-: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا) [المائدة: 8].. أَيْ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ بَلْ اِسْتَعْمِلُوا الْعَدْلَ فِي كُلِّ أَحَدٍ صَدِيقًا كَانَ أَوْ عَدُوًّا.. فما أجملَ العدلَ والإنصافَ.. مهما كانتْ العداوةُ والخِلافُ.

 

عبادَ اللهِ..

عندما نحكمُ على النَّاسِ.. ينبغي لنا أن نراعيَ الصِّدقَ والعدلَ.. كما قالَ تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا).. ولا يليقُ بالمسلمِ أن يكتمَ المحاسنَ ويُظهرَ السَّيئاتِ.. ويتناسى الجميلَ ويَذكرَ القَبيحاتِ.. وهذا منهجٌ ربَّانيٌّ عظيمٌ.. اسمع إلى قولِ اللهِ تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ) وهو المالُ الكثيرُ (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) [آل عمران: 75].. مع أن هذه الآيةَ جاءت في سياقِ آياتِ الذَّمِّ لأهلِ الكتابِ.. ولكنَّ اللهَ -سبحانَه وتعالى- ذكرَ ما في بعضِهم من الأمانةِ.. لنتعلَّمَ الصِّدقَ والعدلَ والأمانةَ.

 

وكانَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا ينتقصُ ما عندَ النَّاسِ من جميلِ الأخلاقِ.. ولو كانوا كفَّاراً ليسَ لهم في الآخرةِ من خَلاقٍ.. فها هو يقولُ لأصحابِه عن النَّجاشي قبل إسلامِه: "لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجَا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ".. فلم يمنعه كفرُ النَّجاشي عن ذكرِ ما فيه من العدلِ والإحسانِ.. بل يبعثُ إليه الصَّحابةَ ليتخلَّصوا من أذى أهلِ الأوثانِ.

 

ولم يكن ينسى لأهلِ الفضلِ فضلَهم.. فلمَّا كاتبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ أَهْلَ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بأمر فتحِ مكةَ، فسألَه رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأخبرَه عُذرَه، وقالَ له: وَمَا فَعَلْته كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لَقَدْ صَدَقَكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، قَالَ مُذَّكراً له بمحاسنِه السَّابقةِ: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ".

وَإِذا الحبيبُ أَتَى بذنبٍ واحدٍ *** جَاءَتْ محاسنُه بِأَلفِ شَفِيعٍ

 

وهكذا كانَ أصحابُه رضيَ اللهُ عنهم.. قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- في قِصَّةِ غِيرةِ زوجاتِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها.. فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيْ تُعَادِلُنِي فِي الْحَظْوَةِ وَالْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ-..

 

واسمع ماذا قالتْ عن ضَرَّتِها.. وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ، وَأَتْقَى لِلَّهِ، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً، وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.. ولما ذكرتْ عيباً فيها في قولِها: مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا –أيْ: سِرْعَةُ الثَّوَرَانِ وَعَجَلَةُ الْغَضَبِ-.. اعتذرتْ لها وقالتْ: تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ – أَيْ: إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهَا رَجَعَتْ عَنْهُ سَرِيعًا، وَلَا تُصِرُّ عَلَيْهِ-.

وتَحَلَّ بالإنصافِ أفخرِ حُلَّةٍ *** زِينَتْ بها الأعطافُ والكَتفانِ

 

ولمَّا قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ"، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: "أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا، إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ".

 

وهكذا إذا حكموا على أحدٍ.. فإنهم يضعونَ الحسناتِ في كِفَّةٍ والسيِّئاتِ في كفَّةٍ.. ولا يُبخسونَ النَّاسَ أشياءَهم.. ولو كانَ بينهم أشدَّ العدواةِ..

 

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ؟، فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، فَقَالَتْ: كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ؟ -تسألُ عن والي مَصرَ في ذلكَ الزَّمانِ وكانَ قد قتلَ أخاها-، فَقَالَ: مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا، إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ، وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ، فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: "اللهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ".. سبحانَ اللهِ.. هكذا هيَ أخلاقُ الكِبارِ.

 

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعَني اللهُ وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المُسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفِروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ جعلَ المؤمنينَ إخوةً، المُلْكُ ملكُه، والخلقُ خلقُه، يحكمُ ما يشاءُ، ويفعلُ ما يريدُ.. أحمدُه سبحانَه وأشكرُه وأتوبُ إليه وأستغفرُه، وأسألُه من فضلِه المزيدِ.. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وهو على كلِّ شيءٍ شهيدٌ.

 

وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه، ذو الأخلاقِ العاليَّةِ والفَضائلِ الزَّاكيَّةِ.. صلى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آلِه وأصحابِه، أصحابِ الصُّدورِ السَّليمةِ، والقُلوبِ الرَّحيبةِ، وعلى من تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ القيامةِ..

 

أما بعد: فيا أيُّها الأحبَّةُ..

ما هو حالُنا في الحكمِ على الغيرِ.. سواءً كانَ عدوَّاً أو صديقاً.. وسواءً كان بعيداً أو قريباً.. هل وازَّنا في أقوالِنا؟.. أم ظلمنا في أَحكامِنا؟.. هل كَتمنا المحاسنَ لعداوةٍ من العداواتِ؟.. أو نسينا من موقفٍ واحدٍ سالفَ المعروفِ والحسناتِ؟.. فالجحيمُ لجاحدِ المعروفِ وناكرِ الجميلِ جزاءٌ..

 

واسمع لماذا كانَ أكثرُ أهلِ النَّارِ هم النِّساءُ.. فعَنْ عَبْد ِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أُرِيتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ" قَالُوا:  بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: "بِكُفْرِهِنَّ"، قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟، قَالَ: "يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ".

 

فعلينا أن ننظرَ بالعينينِ.. ونَزِنَ بالكَّفتينِ.. ولا نكون كالمنافقِ الذي إذا خاصمَ فجرَ.. وجحدَ ما كانَ من المعروفِ وأنكرَ.. بل علينا أن نَمتثلَ قولَه تعالى: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).. فلا تنسَ أيُّها الزَّوجُ فضلَ زوجتِكَ وصبرَها معك.. ولا تُنكرْ أيُّها الصَّديقُ صديقاً بذلَ الكثيرَ لك.. ولا تجعلْ غضبةً تُنسينا إحسانَ أهلِ الإحسانِ.. ولا زلةً تمحي فضلَ أهلِ الخيرِ والإيمانِ..

 

يقولُ سعيدُ بنُ المُسيَّبِ -رحمَه اللهُ-: "ليسَ من شريفٍ ولا عالِمٍ ولا ذي سُلطانٍ إلا وفيه عيبٌ، ولكن من النَّاسِ من لا ينبغي أن تُذكرَ عيوبُه؛ فمن كان فضلُه أكثرَ من نقصِه وُهِبَ نقصُه لفضلِه"، وصدقَ القائلُ:

سامِحْ أخاكَ إذا خلَـطْ *** منهُ الإصابَةَ بالغلَـطْ

منْ ذا الذي مـا سـاءَ قـَـطُّ *** ومنْ لهُ الحُسْنى فقـطْ

 

اللهم نسألكَ العدلَ في الأقوالِ والأفعالِ.. ونسألُكَ أن تجنِّبنا الفِتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، وأن تَرزقَ المسلمينَ صلاحاً في أنفسِهم وفي ولاتِهم، وأن تدلَّهم على الرَّشادِ، وأن تباعدَ بينهم وبينَ أهلِ الزَّيغِ والفسادِ، يا ربَّ العالمينَ..

 

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكُروه على نعمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.

 

 

المرفقات

وهو كذوب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات