عناصر الخطبة
1/من صدق مع الله صدق الله معه 2/وصية والد جابر لابنه قبل استشهاده 3/السر في عدم مشاركة جابر بن عبد الله في بعض الغزوات 4/المعارك التي شهدها جابر بعد موت أبيه 5/استشهاد والد جابر في أحد وتمثيل الكفار به 6/السر في دفن والد جابر وعمرو بن الجموح في قبر واحد 7/بعض الكرامات التي أكرم الله بها والد جابر 8/الصداقة الأبوية الحميمة بين الآباء والأبناء \"والد جابر وابنه أنموذجا\" 9/تنفيذ جابر لوصية أبيه 10/بر جابر بأبيه بعد موته 11/قضاء جابر لدين أبيه 12/اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بجابر بن عبد الله 13/استغفار النبي -صلى الله عليه وسلم- لجابر 14/نصائح مفيدة في كيفية تعامل الآباء مع الأبناءاقتباس
أيها الإخوة: دعونا في كلمات مختصرة، نرى سيرة صحابي في أيامه الأخيرة، حيث تراءى له مصرعه، وأدرك بيقينه أنه لن يعود إلى أهله، ولن يلتقي بعد ببنياته. نعم ست، أو تسع بنيات، فقدن أمهن، وهاهن سوف يفقدن أباهن، فمن لهن بعد الله؟. لم ينشغل ذلك الأب الواثق بجزع على موته، ولا أسف على حال من بعده؛ لأنَّ الداعي الله، والحافظ هو الله، ومع هذا لا مانع من أخذ الأسباب، وهي جزء من التوكل على رب الأرباب، فالتوكل إذن الاعتماد على الله مع بذل ما...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أما بعد:
فالصادق مع الله ربما تكشفت له أمور قد تخفى على غيره، وقد تسمو به ظنونه وأحاسيسه، حتى يقع في قلبه قرب أجله، وأنه قريباً ملاق ربه، فصدقه مع الله أكسبه صدق الله معه: (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) [الزمر: 22].
أيها الإخوة: دعونا في كلمات مختصرة، نرى سيرة صحابي في أيامه الأخيرة، حيث تراءى له مصرعه، وأدرك بيقينه أنه لن يعود إلى أهله، ولن يلتقي بعد ببنياته.
نعم ست، أو تسع بنيات، فقدن أمهن، وهاهن سوف يفقدن أباهن، فمن لهن بعد الله؟.
لم ينشغل ذلك الأب الواثق بجزع على موته، ولا أسف على حال من بعده؛ لأنَّ الداعي الله، والحافظ هو الله، ومع هذا لا مانع من أخذ الأسباب، وهي جزء من التوكل على رب الأرباب، فالتوكل إذن الاعتماد على الله مع بذل ما يستطيعه العبد من الأسباب الصحيحة.
فما هي الأسباب التي قدمها ذلك الصحابي وقلبه يكاد يطير من الفرح؟!
دعا الصحابي محل الحديث ابنه جابر بن عبد الله، إذن حديثنا عن والد جابر بن عبد الله عبد الله بن عمرو بن حرام، دعا ابنه جابراً، وقال له: "يا بني، إني لا أراني إلا مقتولا في هذه الغزوة -يعني غزوة أحد-، بل لعلي سأكون أول شهدائها من المسلمين، وإني والله، لا أدع أحدا بعدي أحبّ إليّ منك بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن عليّ دبنا، فاقض عني ديني، واستوص بأخواتك خيرا".
حمل ثقيل في وصية مختصرة يحمِّله الوالدُ الذي يفارق الدنيا ابنه الشاب الوحيد، وهي غاية وسيلته، ومنتهي أسبابه.
إذن لن يحضر جابر غزوة أحد؛ لأنه مشغول بتكليف أبيه، بل لم يحضر الغزاة التي قبلها، وهي أفضل منها، قال جابر: "لم أشهد بدرا ولا أحدا؛ منعني أبي!".
فأين المتفلتون من بين أيدي آبائهم وأمهاتهم لقتال لا يحسنونه؟ وجبهات لا علم لهم بحقائقها؟!
بل أين من غابوا عن أعين آبائهم وأمهاتهم إلى متعة الدنيا، وأنس أجوف، ومجالس خرقاء تنقصهم ولا تزيدهم؟!
بقي جابر في المدينة متقرباً إلى الله بطاعة والده!.
منتظراً العوض من ربه، وما عند الله خير وأبقى!.
قال جابر: فلما قتل أبي شهيداً لم أتخلف بعد، فغزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع عشرة غزوة.
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
وما يترك لله قد يكون طاعة تترك رغبة في طاعة أخرى هي أحب إلى الله، وأكثر أجراً.
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122].
بدأت معركة أحد، ودارت لحظاتها سريعة رهيبة، أدرك المسلمون في بدايتها نصراً قريباً، كان يمكن أن يكون نصرا حاسما، لولا أن الرماة الذين أمرهم الرسول -عليه السلام- بالبقاء في مواقعهم، وعدم مغادرتها أبدا، أغراهم هذا النصر الخاطف، فتركوا مواقعهم فوق الجبل، وشغلوا بجمع غنائم الجيش المنهزم.
هذا الجيش الذي جمع فلوله سريعا حين رأى ظهر المسلمين قد انكشف تماما، ثم فاجأهم بهجوم خاطف من ورائهم، فتحوّل نصر المسلمين إلى هزيمة لحكمة أرادها الله!.
في هذا القتال المرير، قاتل عبد الله بن عمرو قتال مودّع، يرجو الشهادة، ولم يزل في القتال، حتى تمَّ الأجل، وانقضت ساعات الحياة، فها هو يقع صريعاً بسيوف الأعداء.
ولما ذهب المسلمون بعد نهاية القتال ينظرون شهداءهم الأبرار بعد فراغ القتال في أحد؛ ذهب جابر بن عبد الله يبحث عن أبيه، حتى ألفاه بين الشهداء، وقد مثّل به المشركون، كما مثلوا يغيره من الأبطال.
ووقف جابر وبعض أهله يبكون شهيد الإسلام عبد الله ابن عمرو بن جرام.
وفي صحيح مسلم يقول جابر بن عبد الله: "أصيب أبي يوم أحد، فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وجعلوا ينهونني ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينهاني، قال: وجعلت فاطمة بنت عمرو بن حرام -يعني عمته أخت والده عبد الله- تبكيه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تبكينه أو لا تبكينه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه".
ومعنى قوله: "ما زالت الملائكة تظله" أي: كرامة له واختفاء بمنزلته، فلا ينبغي البكاء على مثل هذا.
ثم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدفن الشهداء في مصارعهم.
ووقف النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- يشرف على دفن أصحابه الشهداء، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبذلوا أرواحهم الغالية قربانا متواضعا لله ولرسوله.
ولما جاء دور عبد الله بن حرام ليدفن، نادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ادفنوا عبد الله بن عمرو، وعمرو بن الجموح في قبر واحد، فإنهما كانا في الدنيا متحابين، متصافين".
لقد كان إيمان عبد الله بن حرام والد جابر إيماناً راسخاً، وكان حبّه للموت في سبيل الله منتهى أطماعه وأمانيه، ولقد أنبأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه فيما بعد نبأ عظيما، يصوّر شغفه بالشهادة، قال عليه السلام لولده جابر يوما: "يا جابر: ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، ولقد كلّم الله أباك كفاحا" أي: مواجهة من غير واسطة.
فقال له: يا عبدي، سلني أعطك.
فقال: يا رب، أسألك أن تردّني إلى الدنيا، لأقتل في سبيلك ثانية.
فقال الله له: إنه قد سبق القول مني: أنهم إليها لا يرجعون
قال: يا رب فأبلغ من ورائي بما أعطيتنا من نعمة.
فأنزل الله -تعالى-: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران: 169- 170].
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فأخبار جابر بن عبد الله مثال للصداقة بين الأب وابنه، نعم ابن صديق لأبيه!.
فالابن حصَّل ثقة كبيرة من أبيه، وثقة الأب بابنه لا تأتي عرضاً دون مقدمات، وتنبه -أيها الابن المبارك-: إن أردت صداقة أبيك وثقته، فعليك بحسن معاملته، واللطف في محادثته والمكاشفة له في دقيق أمره وجليله، فحينئذ تسمو العلاقة، وتصفو المودة، وتصدق اللهجة.
فأول ما نقف عليه من صداقة الوالد لابنه حينما يخبر الوالد ولده أنه أول مقتول، فيوصيه بالإحسان بأخواته، وقضاء دينه.
فكيف نفذ الوصية؟
أما وصيته بأخواته، فقد تزوج امرأة ثيباً، وهو الشاب المرغوب فيه، ولم؟!
يقول جابر: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا جابر تزوجت؟ قال: قلت نعم، قال: فبكرا أم ثيباً؟ قال قلت: بل ثيباً يا رسول الله، قال: فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ أو قال: تضاحكها وتضاحكك؟!
قال قلت له: إن أبي عبد الله هلك وترك ستاً أو تسع بنات، وإني كرهت أن آتيهن أو أجيئهن بمثلهن فأحببت أن أجيء بامرأة تقوم عليهن وتمشطهن وتصلحهن، قال: أصبت، بارك الله لك.
فهذا حرصه على رعاية أخواته تنفيذا لوصية أبيه.
وأما دين أبيه، فهو دين كثير، ولكن الله يعين، ومن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه.
يقول جابر: توفي أبي وعليه دين فعرضت على غرمائه أن يأخذوا ثمرة البستان كلها، فأبوا ولم يروا فيه وفاءً لقلة الثمرة، وكثرة الدين، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له، قال: إذا جددته ووضعته في المربد -مجمع التمر - فآذني فلما جددته ووضعته في المربد أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء ومعه أبو بكر وعمر، فجلس عليه ودعا بالبركة، ثم قال: أدع غرماءك فأوفهم.
قال: فما تركت أحدا له على أبي دين إلا قضيته، وفضل لي ولأخواتي ثلاثة عشر وسقا -أي: ما يزيد على سبعمائة صاع-، بركة من الله أجراها على يدي رسوله -صلى الله عليه وسلم- بسبب صدق الأب المدين، وبر الولد.
قال جابر: "فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فضحك"[رواه النسائي وغيره وصححه الألباني].
ثم لم يزل جابر محل حظوة عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو المقرب منه، المتعلم من هديه، ولا نغفل بيعة الملاطفة وصفقة السفر التي أراد منها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يلاطف رجلاً من أصحابه تعبيراً عن مودته ومؤانسة له في سفره، فما أخبار تلك القصة؟!
يقول جابر بن عبد الله قال: "خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزاة، فأبطأ بي جملي، فأتى علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خلفي، فقال لي: يا جابر؟ قلت: نعم، يا رسول الله، قال: ما شأنك؟ قلت: أبطأ بي جملي وأعيا، فتخلفت، فضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- الجمل، ثم قال: اركب فركبت، فلقد رأيتني أكفه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والجمل يسابق القوم!.
ثم قال: يا جابر أتبيع جملك؟ قلت: نعم فاشتراه مني بأوقية، قال جابر: فاستثنيت أن يحملني جملي إلى المدينة، فلما قدمنا المدينة غدوت على النبي -صلى الله عليه وسلم- لأعطيه جمله.
فوجدت النبي -صلى الله عليه وسلم- عند باب المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: "دع جملك وادخل فصل ركعتين".
قال: فدخلت فصليت ثم رجعت، فأمر بلالا أن يزن لي أوقية، فوزن لي بلال فأرجح في الميزان.
قال: فانطلقت فلما وليت إذا بلال يناديني، فقلت: في نفسي الآن يرد عليَّ الجمل، ولم يكن شيء أبغض إلي منه.
فقال: "خذ جملك، ولك ثمنه".
ما أطيب البيع مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، سماحة وحسن معاملة، وكرم في الثمن والمثمن!.
كيف؟ وهو القائل صلى الله عليه وسلم في حديث يرويه جابر نفسه: "رحم الله امرءا سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى"[رواه البخاري].
فقد وافق الفعل منه صلى الله عليه وسلم القول.
فلم تزل قصة جابر مع الجمل دروساً للأمة في المعاملات، وفيها من أصول البيع والمتاجرات الشيء الكثير.
وليلة الجمل ليلة مباركة على جابر، يقول رضي الله عنه- قال: "استغفر لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجمل خمسا وعشرين مرة".
ولم تنقض العلاقة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل لم يزل مواظباً على مجالسته، حتى توفي صلى الله عليه وسلم، ثم ها هو أحد المكثرين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- رواية للحديث.
وروى عنه جماعة من الصحابة، ويوصف بأنه فقيه المدينة في زمنه، وله حلقة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقد مدَّ الله في عمره حيث عاش أربعا وتسعين سنة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، فليصل رحمه".
فلعل بره بأبيه، وقيامه بشأن أخواته من هذا، والله أعلم.
أيها الآباء: بمثل هذه العلاقة الأبوية يكون الأبناء زينة الحياة الدنيا.
فلا تطل اللوم على تغير الزمن، ولا الندب على فساد الجيل، فالله هو الزارع، ولكن أطب الحرث، وأدم النصح، وواصل الإرشاد تلين مرة، وفي أخرى تلان.
تقرب إلى قلوب أبنائك وبناتك قبل أن تتقرب من أبدانهم بطعام وكسوة، وإذا علم الله صدق النية، سهَّل العمل.
مر أبناءك بالصلاة، ولا تتنازل عن ذلك، فإذا أصلحوها يصلح كل شيء -بإذن الله-: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم