صبيغ ولا عمر له!!

عاصم محمد الخضيري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ دعوى كشف الوجه 2/ مفاسد الجرأة على الفتوى في الخلافيات 3/ معركة الاقتحامات الشرعية على دين الإسلام 4/ سر بكاء ربيعة بن عبد الرحمن 5/ كيف عالج عمر وساوس صبيغ؟ 6/ خطورة تصدر الجهلاء 7/ نداءات إلى جماهير الأمة وعلمائها 8/ مفاسد تتبع الرخص 9/ سمات المفتي الصادق 10/ أخطر أنواع الفتوى 11/ وجوب الاحتساب على الفتاوى الباطلة.

اقتباس

أخطرُ أنواعِ الفُتيا، هو: إصدارُ أحكامٍ وأراءٍ تعسفية، يترتبُ عليها شقُّ الصفوف، وتمزيقُ الوحدة، وإضعافُ الدعوةِ، وتبديدُ الجُهد، وسوقُ الأمة إلى مزالقَ خطرة، دهماءَ تروع الديار، كشعلة نار، على قشة، أو المشي نحو انحدار! نعم، تستطيع أن تفتي بكشف الوجه، بل بجواز إضفاء الزينة، ثم ماذا؟ ستسرع عجلة التنمية؟, ستنتهي الفواحش؟, سينقرض الزناة والزواني؟, سنقود الأمم؟, ثم ماذا؟ ليت هؤلاء يعلمون، أن كل شرخ سيحدث، وكلَّ مومس تنفِّذ موعدًا غراميًّا، (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، إلهِ كل من ملك وخالقِ الخلق العظيم والفلك، الحمد له خالق الزمان والمكان والضياء والحلك، وباسط الأرض ورافع السما، تقدس القدوس عن شبه وعن ند، له الدوام والبقا، والأمر أمر الله ليس فيه مشترك !

 

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، من لو سجدنا بالجباه له، على شبا الشوك والمُحمى من الأبرِ، لم نبلغ العُشر من معشار نعمته، ولا العُشَير ولا عُشْرا من العُشُر، يخلق ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله، أجرى عليه الله من آله نعما بها أضحى شفيعَ سماء، ولواء حمد الله معقود له، وله المفاخر من سنا وسناء، هو أكرم الرسل الكرام جميعِهم، شهدت بذلك سورة الإسراء!, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

 

 أما بعد: اتقوا الله عباد الله يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم..

 

اكشفوا وجوه نساءكم، فقد خرجت فتاواهم تبيح،

اسكروا في الليل، وأتوا لصلاة الفجر والراح تفوح،

صيِّحوا في الناس: إن الخمر قد جاءت بها فتوى تبيح!!

طاب الغبوق بها، خندريس قرقفٌ، صاح بها، الديك: هلمُّوا للصبوح

ومروا الناس بأن يأتوا سكارى للصلاة، فهو لم يأتِ به نص صريح،

ما قبيحٌ فاجعلوه طيِّبا، واجعلوا الطيِّب في أعين الناس قبيح،

والحرام الصرف، قولوا، للجماهير، هنا قول صحيح، هنا قول صحيح،! فاسمعوه من نصيح!

 

اكشفوا وجوه نساءكم، واصبغوها بالأصابيغ، ورشُّوها بالمساحيق، وطوفوا في المجاميع وقولوا: إن دين الله يسرٌ، إن دين الله يسرٌ، وخلافات الدين كبرى، ودعوا الناس فحق البحث مكفولٌ، ليأخذ كل بحَّاث من القول المريح،!!

 

كل أمر فيه قولان، فالغنا ليس آثاما، والربا ليس حراما، والريالات بهذا العصر ليست بالتي في زمن التشريع، حتى يُقطعَ القولُ بمنع، فاستعينوا فيه، بالوجه المبيح،!!

 

اكشفوا وجوه نسائكم،!

هنئوا الكفار بالعيد السعيد، علموهم أننا لسنا غلاةَ الدين، جئناهم من العصر البعيد، يوم عاد وثمود، زفوا الورود مع الورود، فالرّبُّ رحمن ودود، يرضى المسيحيُّون عنا، في يوم أشرق في الدنا نور المسيح،!

 

اكشفوا وجوه نسائكم

وخذوها قبل أيام: نحن لا نريد للمرأة أن تلبس المايوه، وأن تشارك في السباحة، لكنني لا أفهم ما الذي يمنع المرأة أن تركب الخيل في المحافل العالمية، وأن ترميَ وهي محتشمة!

التوقيع: كاتب في إحدى الصحف!

 

خذوها قبل أيام:

كيف يُعلَّم الصغار مسائل عذاب القبر في مدارسنا، هل تريدون أن يخرج لنا جيل متطرف، جيل خائف، وكيف يُعلمون مسائل غسل الأموات, نحن إذن لا نصنع الحياة، نحن إذن نصنع الموت، التوقيع: كاتب في صحيفة أخرى!

 

خذوها قبل أيام:

لا تَحُدّوا شاربي الخمر وإذا أردتم إقامة الحد، فدعوا الجلد؟ فالجلد عقوبة وحشية! التوقيع: (كاتب ثالث)

 

أهذا دين الله، يُذبح بالسكاكين في ليلة خمر سكريَّة، وهو مأوى شهوةٍ يقذفها من شاءها، في حفلة سكر شرعية!!

 

أهو دين الله، وهو أهون في ضمائرهم، من ضحكات يتدافعونها، وسخرياتٍ يبعثونها مع كل حكم شرعي، يفتون به على مواقد خبث مشتعل!

 

أهو دين الله، وقد أصاروه مسخًا لشهواتهم، والشهوات تُفرَّغ مع كل مسألة فقهية،

والاختلافات العلمية، صارت حلائبا، يَلعب بها خريجو المواخير الفكرية!!

 

أودين رب العالمين شريعةٌ***بنيت على التضليل والنكران؟!

يبري النبال على شريعة أحمد*** رجل عري عن هدى القرآن!!

 

عَبْدُ الهوان، وجاهلٌ متمعلمٌ ضخم العمامة واسع الأردان متفيهق، متضلع بالجهل، ذو ضِلَعٍ، وذو صَلَع من العرفان مُزجى البضاعة في العلوم، وإنه زاج من الإيهام والهذيان من جاهـل متطبِّب يفتـي الورى ويحيل ذاك على قضاء الرحمـن، ما عنده علم سوى لعب على حبل الشريعة صنعةَ الكهّان!!

(إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [يونس: 69].

 

اكشفوا وجوه نساءكم..

 كل مسألة بها قولان، الربا ليس حراما، لم أجد في كتاب الله آيةً تدل على حرمة الخمر، الجلد عقوبة وحشية، هنئوا الكفار بأعيادهم، امنعوا زواج القاصرات! سجلوا النساء بالأولمبياد، ثقفوا الشباب والفتيات بالصحة الإنجابية، أكملوا تطبيع شريعة سيداو؟

 

وماذا بعد؟

هذه المسائل ما نُكبت المجتمعات الإسلامية أخلاقيا واجتماعيا، إلا حين صارت الفتوى، ركوبا لأهل السُّكْر بدلاً من أهل الذكر!!

 

ما مسألة أرادوها إلا وجعلوا ستار الفقه مرمى لأغراضهم، وسواد هؤلاء الضُلَّال، لو خُلِّي بينهم وبين أصول الإيمان، لكسروا معاولهم على صخراتها!

ثم يستطيلون على الفتوى وعلى دهاقنتها ويعتدون على كلمتها الواحدة!

 

وأسوأ الأزمنة لديهم، أن يروا أعضاء الأمة المتفرقة قد اجتمعت على أمر واحد، ومنهج واحد، ومورد واحد، لا اختلال ولا ضلال، ولا ترقأ العيونُ حتى يفرِّقوا ما اجتمع، ويشتتوا ما التئم، ويكسِّروا ما انشعب!

ضلال وخبث، واختلال، وخزية، ومركب دين الله أدنى المراكب!

 

نعم، إنهم سواء،

سواء علينا هذا الليبرالي الذي يتحدث وشقه مائل، ثمل الرأس من مدامة أمس, وبين جعظري جواظ خواض، قوّاض، لم يحفظ إلا مسألتين، فهو يلقيهما على الناس، ويفرِّق دين الله ولُحْمَته، بحجة اختلاف حَمَلته، ولقد ودَّ أن يعتلي عليه ليحظى بحظوات التصفيق والنداءات!! ولو كُتب بذلك عند المؤرخين في سجلات اللصوص!

ولو قيل: بُل في زمزمٍ تلق شهرة، لبال عليه، وهو ليس بآبه!

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا) [النساء: 50].

 

والله قد حرم التزوير واللعبا، في دينه وكذا التدليس والكذبا!!

(وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [يونس: 60].

 

مُفتون أم مفترون مفتونون؟ لم يسعهم إلا تفرقة الصفوف، وإشغال الأمة عن مهماتها الكبرى وصلاحها وإصلاحها.

 

إن أخطر معركة عُقدت ألويتها بعد زمن رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام-، هي معركة الاقتحامات الشرعية على دين الإسلام، تهون كل الغزوات على هذه الأمة، وتهون كل مصيبة جُلى تبيد العالم المسكين، يهون القتل والتجريح، يهون الموت والتذبيح يهون الطعن والتشبيح، وتصغرُ كلُّ مذبحة يموت بها الشعور وتولد الأيتام،

يهون كلُّ ذاك، ولكن دين الله لا هون!

 (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس: 69- 70].

 

الحرب على دين الله ليست كأية حرب، والحيلة عليه بئست الحيلة،

ولا ضير أن يردموا حصونه، بالحفر تحته، ليسهل الاقتحام!!

 

أيتها الأجيال المؤمنة:

روى ابن عبد البر بسنده إلى الصدفي عن عبد الله بن وهب، قال: حدثني مالك، قال: أخبرني من دخل على ربيعة بن عبد الرحمن، " أنه دخل على ربيعة بن عبد الرحمن، فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ أنازلة حلَّت بك، أخبرنا أجاءك ما تكرهه في أهلك؟ فقال: لا، ولكن استُفتي مَن لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، ثم قال ربيعة -رحمه الله-: والله لبعض مَن يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق".

 

 تصدر للتدريس كلُّ مهوِّس بليدٍ *** تسمى بالفقيه المدرس

فحقَّ لأهل العلم أن يتمثلوا *** ببيت قديم شاع في كل مجلس

لقد هزلت حتى بدا من هزالها*** كُلاها وحتى سامها كل مفلس

 

ولنتخيل لو نُصِّب مثل هؤلاء على الأمة: كيف نتخيل مجتمعًا نساؤه سافرات ورجاله سكارى؟!

وكيف لمجتمع وأمة أن تكون وأن ترتفع في أي مجال، وهي تُصدِّرُ السكر الخمري والفكري في أبنائها، وتجعل مثلَ هؤلاء لهم المُلكية المطلقة باقتحام كل شيء باسم شريعة الرحمن!

سكران، سكر هوىً وسكر *** مدامة، فمتى إفاقة من به سكرانِ؟!

 

روى الدارمي وغيره من طرق عدة، قال: قدم المدينة رجل يقال له: صبيغ بن عِسْل، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، سؤال تعنُّت، لا سؤال استعلام، فأرسل إليه عمر -رضي الله عنه- أن تعال إليّ!، قال: فجاءه صبيغ، وقد أعد له عمر -رضي الله عنه- عراجين النخل، فقال له: عمر: من أنت قال: أنا عبدالله صبيغ، فقال عمر بن الخطاب: وأنا عبدالله عمر بن الخطاب، يا صبيغ ادنه، ادن يا صبيغ، فدنا صبيغ، فضربه عمر على رأسه بعراجين النخل، حتى أدمى رأسه، فقال: حسبك الله يا أمير المؤمنين، حسبك الله، فخلى عنه عمر، فلما برئ، ضربه عمر على رأسه مرة أخرى حتى أدمى رأسه، فحلف صبيغ بالأيمان الغليظة أنه قد ذهب الذي كان يجده في رأسه..

هكذا داوِ أو فخلِّ التداوي!

 

وما هو إلا الوحي أو حدُّ مرهف*** تقيم ضباه أخدعي كل مائل!

فهذا دواء الداء من كل جاهل *** وذاك دواء الداء من كل عاقل!!

حتى متى، وصبيغٌ في هذا الزمن لا عمر له، وحتى متى هذه الرءوس، لا عراجين لها!

صبيغ ولا فاروق، ورأس ولا عرجون!

 

أغنت عن الصارم المصقول درته *** فكم أخافت غوي النفس عاتيها

كانت له كعصى موسى لصاحبها *** لا ينزل البَطْل مجتازا بواديها

قد فر شيطانها لما رأى عمرا *** إن الشياطين تخشى بأس مخزيها

 

(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33] .

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[يونس: 59 - 60]،

 

أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ولا عدوان إلا على الظالمين المفترين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد: يقول العلامة بكر أبو زيد -رحمه الله تعالى-: "فهذا القطيع حقاً هم غُوْلٌ العِلم, بل دودة لزجةٌ, متلبدَة أسْرَاُبها في سماء العلم، قاصرةٌ عن سمو أهله.."..

 

وكم رأينا نِزالاً في حلائب العلم، من رائمٍ للبروز قبل أن ينضِج، فرَاشَ قبل أن يَبْري، وتزبَّب قبل أن يتحصرم، وقد قيل: البداية مَزِلة، ومن البلية: تشيُّخ الصُحُفيَّة، ويؤثر عن علي بن أبى طالب - رضي الله عنه - قوله: "العلم نقطة كثرها الجاهلون". وبمعناها قولهم: "لو سكت مَن لا يعلم لسقط الخلاف"، ولما قيل لسفيانَ بنِ سعيدٍ الثوري -رحمه الله تعالى-, فيمن تكلم قبل أن يتأهل, قال:  "إذا كثر الملاحون غرقت السفينة".

 

وابن حزم رحمه الله يقول: "لا آفة على العلوم وأهلِها, أضرُّ من الدخلاء فيها, وهم من غير أهلها؛ فإنهم يجهلون, ويظنون أنهم يعلمون, ويفسدون، ويقدرون أنهم يصلحون"، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 11- 12].

 

 وقال الحسن البصري -رحمه الله تعالى- لما كثرت في زمنه الخدود الشدقاء،

عاهاتها تبدي الذي تخفي، وتخفي غير ما تبدي وربك أعلم!

قال الحسن رحمه الله: "اللهم نشكو إليك هذا الغثاء، اللهم إنا نشكو إليك هذا الغثاء"

 

وغثاءيات أزمنانا إلى من نشكوها يا أبا سعيد؟! اللهم إنا نشكو إليك هذا الغثاء! اللهم إنا نشكو إليك هذا الغثاء، فقد كثر الغثاء والثغاء والرغاء، ولا جلاء، إلا برحمتك التي وسعت كرائمها السماء!

 

يا رب أنت المرتجى والمشتكى أنت العليم بنا وأنت المبتغى اصرف أيا رب هوان عبادك الفقرا، وزحزح عنهمُ سبل الهوى.

 

وهذه هتافات أهتفها، وسؤلي لا يُجاب له هتاف! ولكن: خذوها فلعلها أن تصطفى ولعلها، ولعل جبار السما أن يقبلا!

 

إلى جماهير الأمة المسلمة:

الهتاف الأول:

إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، والعلم يؤخذ عن الأمثل فالأمثل! وأما السواقط، فلكل ساقطة في الأرض لاقطة، وكل نافقة يوما لها سوق!

وأسواق النخاسة ملأى بالمفتين، والحراج قائم، والبضائع أخس من ثمن كلب!

ولكن دين الله أكرم من أسواق العبيد!

فانظروا عمن تأخذون دينكم.

 

نعم، سيجدون من يشْرع لهم أبواب الفتاوى على مصارعها، ولكن أنى تجد الأمة المسلمة، مصاريع النجاة؟ إلا بحبل من الله، لا بحبل هوى، يعقده المفترون!

 

أيسألون عن أجسادهم أولى الأطباء؟، ودين الله ماذا؟ لا يسأل عنه الأكفاء؟

يستجلبون، صحة أبدانهم، ولا يستجلبون صحة أديانهم!

 

أيتها الأجيال:

كل كسر فإن الله يجبره وما لكسر قناة الدين جبران، وفساد جرح الدين ليس له دواء، وفساد جرحك بعد حين يلتئم!

 

يحسبون أن جراح الدين، ستلتئم بدواء مغشوش، يُشترى من صيادلة الإفك والبهتان، والله لن تبرئ هاتيك الجراح، إلا ما أخذوه من القرآن، وليسألوا أهل الذكر إن كانوا لا يعلمون!

 

انظروا عمن تأخذون دينكم، وحذار من خِداج في هيئة هِملاج هِلباج! لا يتقي الله العظيم بقوله، وتراه أكذب ما يكون إذا حلف!

 

اتقوا الذين يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، والله فوق خداع الخائن الأشر..

 

اتقوا خداع الدين باسم الله، فقديما :

برز الثعلب يوما في ثياب الواعظينا *** فمشى في الأرض يهذي ويسب الماكرين

ويقول: يا عباد الله توبوا فهو كهف التائبين*** ومروا الديك يؤذن لصلاة الصبح فينا

فأجاب الديك عذرا يا أضل المهتدينا*** بلِّغ الثعلبَ عني عن جدودي الصالحينا

أنهم قالوا وخير القول قول العارفينا*** مخطئ من ظن يوما، أن للثعلب دينا

مكروا عليك وكاشفوا والله خير الماكرينا

 

الهتاف الثاني:

إنَّ تتبّع التخفيفات والترخصات، والعزوف عن العزائم إلى الرخَص الموهومة، مذمومٌ في شريعة الله؛ لما فيه من مجاراة اليهود الذين غَضِبَ الله عليهم و لعنهم، وجَعلَ منهم القردة والخنازير.

 

روى القرطبي في تفسير قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) [المائدة: 41] عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، قال: زنى رجل من أهل فَدَك، فكتب أهل فدك إلى ناسٍ من اليهود بالمدينة؛ أن سلوا محمداً عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه.. فنزلت هذه الآية..

 

وفي سنن أبي داود عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: زَنَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبيِّ فَإِنَّهُ نَبِيٌّ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفِ، فَإِنْ أَفْتَانَا بِفُتْيَا دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَاهَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ وقُلْنَا فُتْيَا نَبيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِكَ!!

صراط المؤمنين، أم صراط اليهود؟!

أو كلما جاء حكم من الله، ثم قيل لهم: افعلوه!، قالوا: لا نفعل أبدًا، المسألة بها خلاف،

وهم عبدوا الخلاف وما أرادوا ***وحاشا الدين من عبث الخلاف!

يومًا شوافع إن صار الجواز به*** وإن تشهَّوا به يوما فأحناف!

 

روى الحافظ ابنُ عبد البر عن سليمان التيمي قال: "لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع في الشر كله"، ثمّ قال ابن عبد البر: وهذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً.

 

فأين من إذا قيل له:

قال الله قال رسوله*** قال الصحابة ليس بالتمويه!

قال: الخلاف جرى على من قبلنا، يا هذا:

ما الدين نصبك للخلاف سفاهة*** بين الرسول وبين قول فقيه!!

 

 يقول الحافظ الذهبي -رحمه الله-، وكأنه يحدثنا عن عصرنا، ويحكي لنا عن بني جلدتنا، وهو يأتي بها صارخة شهابا، تحرق كل شيطان مريد: يقول الذهبي: "من تتبع رخص المذاهب وزلاتِ المجتهدين؛ فقد رَقّ دينُه كما ذلك قال الأوزاعي وغيره: ومن أخذ بقول المكيين في المتعة، والكوفيين في النبيذ، والمدنيين في الغناء، والشاميين في عِصمة الخلفاء؛ فقد جمع الشرَّ كله. واجتمع فيه الشر كله! ثم يقول: وكذا من أخذ في البيوع الربوية بمن يتحيل عليها، وفي الطلاق ونكاح التحليل بمن توسع فيه، وشِبه ذلك، فقد تعرض للانحلال، فنسأل الله العافية والتوفيق" ا,هـ.

 

(يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 78].

 

الهتاف الثالث:

مَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ مُخادش ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى الْحَسَنِ، فَقَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِمُجَالَسَةِ أَقْوَامٍ يُخَوِّفُونَنَا، حَتَّى تَكَادَ قُلُوبُنَا أن تَطِيرُ؟ فَقَالَ الْحَسَنُ: "وَاللَّهِ لأَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُخَوِّفُونَكَ حَتَّى يُدْرِكَكَ الأَمْنٌ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُؤَمِّنُونَكَ حَتَّى تَلْحَقَكَ الْمَخَاوِفُ".

 

نعم، من ابتغى الخلاف وجده، ولكن أين الصادقون، الخائفون المحتاطون لأديانهم؟!

سيجدون لهم من يفتي بكشف الوجه، ومن يحل لهم الغناء ومن يهوِّن لهم الربا، ومن يسوِّغ حرمة البدع، ومن يفتي للنساء بما يشتهين، وللشباب بما يشتهون..، ولكن أين الخوف من الله؟!

 

الخوف من الله، هو دثار المفتي الصادق، فاختر لدينك أصدق الناس، وأتقى الناس وأعلم الناس وأخوف الناس بالله..

 

والذين يقولون: إن الدين يسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج، ويسروا ولا تعسروا، فهو كلام حق، وشريعة الله يسر بذاتها، ومن ابتغى التيسير بخلافها، أو إضافةَ يسرٍ خارج عنها، فقد زعم الشطط فيها وأعظم الفرية!

 

وقال النووي -رحمه الله-: "يحرم التساهل في الفتوى، ومن عُرِف بالتساهل حرم استفتاؤه".

 

وقال ابن الصلاح -رحمه الله-: "لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يُستفتى".

 

الهتاف الرابع:

ليس كلُّ ذي صوت مليح يُستفتى، وليس كلُّ مفسِّر أحلام يُسأل، وليس كل إمام مسجد، يُنصَّب لمقام الفتوى، وليس كل مستشيخ شيخًا، ولا كل ملتحٍ يؤخذ منه دين الله، ولا كل من أظهر نفسه عبر الأقمار، يسأل عن شريعة القهار.

 

الرسائل الثانية: إلى طلبة العلم وأهل الفتيا

اتقوا الله فيما تحملون، والشهرة والتسميع والمنصب، لا يُوصل لها عن طريق دين الله،

سئل ابن عمر -رضي الله عنهما- عن مسألة لا يدريها، فقيل له: أجبنا، فقال: لا أدري، فقالوا، وأنت لا تجيب؟ فقال: "يُريدون أن يجعلونا جسراً يمُرُّونَ به علينا إلى جهنم" سبحان الله!!

 

يا أهل العلم: ليس العلم عن كثرة الإجابة، ولا عن سرعة البديهة، ولا عن عجلة إلقاء الكلام، ولكن العلم هو الخشية والتأمل في المآل، وسؤالُ الله رؤية الحق، وألا يجعله ملتبسا علينا فنضل!

 

يقول ابنُ أبن ليلى: "أدركتُ عشرينَ ومائة من أصحابِ رسول الله فما كان منهم مفتٍ، إلاَّ ودَّ أنَّ أخاهُ قد كفاهُ الفتيا".

 

وقال أبو داودَ في مسائلهِ: "ما أحصي ما سمعت أحمدَ بنَ حنبل سُئِلَ عن كثيرٍ مما فيه الاختلاف في العلم فيقولُ: لا أدري"، وقال عبدُ اللهِ بن أحمد: "كنتُ أسمعُ أبي كثيراً يسألُ من المسائلِ فيقولُ: لا أدري، وكثيراً ما كان يقولُ للسائلِ: سَلْ عن ذلكَ غيري"، وسألَ أحدهم الإمامُ مالك في مسألة, فقال: لا أدري. فقال يا أبا عبد الله تقولُ لا أدري! فقال: نعم، فأبلغ من وراءاك أنِّي لا أدري".

 

الرسالة الثانية:

أخطرُ أنواعِ الفُتيا، هو: إصدارُ أحكامٍ وأراءٍ تعسفية، يترتبُ عليها شقُّ الصفوف، وتمزيقُ الوحدة، وإضعافُ الدعوةِ، وتبديدُ الجُهد، وسوقُ الأمة إلى مزالقَ خطرة، دهماءَ تروع الديار، كشعلة نار، على قشة، أو المشي نحو انحدار!

 

نعم، تستطيع أن تفتي بكشف الوجه، بل بجواز إضفاء الزينة، ثم ماذا؟

ستسرع عجلة التنمية؟, ستنتهي الفواحش؟, سينقرض الزناة والزواني؟, سنقود الأمم؟, ثم ماذا؟  ليت هؤلاء يعلمون، أن كل شرخ سيحدث، وكلَّ مومس تنفِّذ موعدًا غراميًّا، على صاحبها كفل من وقوعها، (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)[الكهف: 5].

(لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [النحل: 25].

 

وإنه ليأخذك العجب: هل هؤلاء أحزنهم حال المرأة المسلمة في احتشامها وحيائها، وقرارها، حتى نصَّبوا بحوثهم وأزمانهم وعلومهم ليخرجوها من هذا القمقم!

فضيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري

اتقوا الله، فأجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار

 

الرسالة الثالثة: إلى أهل العلم

إذا لم يُقل الحق، فسيتخذ الناس رؤوسا ضُلالا ليفتوا للناس بغير علم فيضلوا ويُضلوا

ولئن تكونوا أذنابا في الحق، خير من أن تكونوا رؤوسا في الباطل، لأجل لعاعة من الدنيا حقيرة.

(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران: 187].

 

قال ابن القيّم: "ينبغي للمفتي أن يكون بصيراً بمكر النّاس وخداعهم بصيرًا بأحوالهم، فإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ".

 

الهتاف الأخير: الحجر لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان والبلدان!

الدعيَّون ضررهم كبير!!

ولا بد أن يقوم حملة العلم، باستصلاح ما فسد، والحجر على من أفسد! والاحتساب على غزوات الاقتحام التي تتم كل يوم على دين الله، احفظوا بيضة الدين، وابن القيم يقول: "من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقرَّه أيضا فهو آثم، وكان شيخنا -رضي الله عنه- شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أُجعلت محتسبا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟!".

 

اتقوا الله فتقوى الله ما جاورت قلب امرئ إلا وصل!

اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن،

اللهم إنا ندرأ بك في نحور أهل الأهواء ونعوذ بك اللهم من شرورهم، واكفنا والمسلمين شرهم ومكرهم بما شئت وكيف شئت،

ونسألك ربنا رؤية الحق واتباعه ورؤية الباطل واجتنابه، ولا تجعل الحق علينا ملتبسا فنضل،

 

اللهم صلّ وسلّم

 

 

 

المرفقات

ولا عمر له!!

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
ابومحمد اليحيى
23-04-2019

انا من محبينك يا شيخ عاصم وارجو انتعيد خطبت اكشفو وجوه نسائكم