عناصر الخطبة
1/الناس من حيث المعاشرة صنفان 2/التحذير من الفحش في الكلام 3/هدي القرآن والسنة في الكناية عن الألفاظ المستقبحة 5/الحث على تعويد اللسان على الكلام الطيباقتباس
تجد كثيرًا من الناس عوَّد لسانه على كلمات الفحش، فإن سب أحدًا سبه بأقبح الألفاظ، وإن تكلم أو شبه أو عيَّر أحدًا أطلق أسوأ الكلمات، وربما كبر في سنه ولسانه أقبح لسان، وتجد هذا الأثر يزيد في...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فعباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى- وطاعته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عباد الله: الناس صنفان: صنف لهم قبول عند الناس؛ ترتاح القلوب لحديثهم، وتأنس النفوس بمجالستهم، وتسَرُّ برؤيتهم، يمازِحون ويمْزَحون، وصنف آخر عكس ذلك تمامًا؛ فحضورهم يعكر المجالس، وحديثهم يكدر الخاطر، كلماتهم لا تطيقها الأسماع، ويتقي الناس مزاحهم وحديثهم ومجادلتهم؛ خوفًا من عواقب شرهم، فمن هم هؤلاء الناس يا ترى الذين ينتمون إلى الصنف الثاني؟!.
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "استأذن رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة"، فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله، قلت الذي قلت، ثم ألَنْتَ له الكلام!، قال: "أي عائشةُ، إن شر الناس من تركه الناس -أو وَدَعَه الناس- اتقاء فحشه"، وكان عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "ألأمُ شيءٍ في المؤمن الفحش".
فالفحش خلق مذموم، ومن يتصف به فقد أساء لنفسه وظلمها، وقد جعل بينه وبين الناس حواجز، فإياكم والفحش، ومن جاهد نفسه في الله من أجل أن يتخلص من هذا الخلق، فسيوفِّقه الله، وقد جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: "الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر وإن مت بالحضر"(قال أحمد شاكر -رحمه الله تعالى-: إسناده صحيح).
ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة والقدوة الحسنة، فقد كان أحسن الناس خلقًا، وأبعدهم عن الفحش والتفحش؛ فقد أخرج البخاري ومسلم: "لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا، ولا متفحشًا"، وفي صحيح البخاري "لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبابًا، ولا فحاشًا، ولا لعانًا، وكان يقول عند المعتبة: ما له تَرِبَ جبينه"، قال أنس -رضي الله عنه-: "ولقد خدمتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لي قط: أُف، ولا قال لشيء فعلتُه: لم فعلتَه؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلتَ كذا".
ومن أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يدعُ حتى على المشركين إلا في بعض المواقف، فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: "إني لم أُبعَثْ لعانًا، وإنما بعثت رحمة"، الله أكبر، ما أعظم هذا الخلق العظيم!، وصدق الله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4]، فهذا هو قدوتنا الذي من اقتدى به نجا.
فلماذا نسمع مِن بعض مَن نجالسهم كلمات الفحش والبذاءة، يطلقها في أي وقت شاء من دون تأمل لما يقول، ومن غير احترام ولا تقدير لمن يحضر ويسمع؟! لِمَ لَمْ يتأدب بآداب القرآن والسنة باستخدام الكنية لما يستكره ذكره؟ فالقرآن مليء بالفوائد الجمة التي نتعلم منها في تعاملنا مع الآخرين، فاسمع إلى الكنى التي استخدمها القرآن لما يستكره ذكره من باب الأدب، كقوله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ)[الأعراف: 189]، فاستخدم بدل كلمة الجماع: تغشَّاها، وقال -تعالى- أيضًا يكني عن الجماع: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ)[النساء: 43]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن الله حيي كريم، يعفو ويكني، كنى باللمس عن الجماع"، وقال -تعالى- محذرًا الرجال من جماع النساء في المساجد حال الاعتكاف: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)[البقرة: 187]، وكذلك ذكره لقول امرأة العزيز لما راودت يوسف عن نفسه: (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ)[يوسف: 23].
وقد كنى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لامرأة رفاعة: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته"(متفق عليه)، فكنَّى عن الجماع بالعسيلة من باب الأدب، حتى وإن جاز ذكر هذه الألفاظ، لكن من الأدب استبدالها بالكنى التي في أدب، وفي قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه..."(رواه البخاري ومسلم)، والظاهر أن الفراش كناية عن الجماع، حتى المصنفين في كتبه من علماء الفقه، استخدموا الكنى عن الكلمات التي يستكره ذكرها، فقالوا في نواقض الوضوء: ومنه الخارج من السبيلين، ويقصدون البول والبراز.
وللأسف الشديد تجد كثيرًا من الناس عوَّد لسانه على كلمات الفحش، فإن سب أحدًا سبه بأقبح الألفاظ، وإن تكلم أو شبه أو عيَّر أحدًا أطلق أسوأ الكلمات، وربما كبر في سنه ولسانه أقبح لسان، وتجد هذا الأثر يزيد في تعامله مع ابنه، فيسب ابنه، فما يترك شيئًا مستقبحًا إلا سبَّه به، أو ناداه به، قمْ يا كذا، تعالى يا كذا.
فتجنبوا -يا عباد- الله الفحش من القول والفعل، فلا تكن سبابًا ولا لعانًا، ولا غمازًا بعينك، ولا لَمَّازًا ولا همازًا ولا عيارًا، وكونوا عباد الله إخوانًا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، أما بعد:
عباد الله: كان سلفنا الصالح -رحمة الله- عليهم لا يتكلمون إلا بطيب الكلام؛ عملًا بوصية رب العالمين، حيث قال في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70 - 71].
فكانوا يمتثلون أمره -سبحانه-؛ طمعًا فيما وعد به من صلاح الأعمال، وغفران الذنوب، والفوز العظيم يوم الدين، فها هو تاج الدين السبكي -رحمه الله تعالى- كان في حضرة أبيه، يقول تاج الدين: "فمر علينا كلب، فقلت: مُرَّ يا كلب يا بن الكلب، قال: فأنكر عليَّ أبي، فقلت: أليس هو كلب بن كلب؟! فقال أبوه: إن عيسى -عليه السلام- مرَّ به كلب، فقال له عيسى -عليه السلام-: مُرَّ بسلام، فسئل عن ذلك، فقال: إني أخاف أن أعود لساني النطق بالسوء".
هؤلاء هم السلف كانوا يقتدون بالقدوة الأولى في حفظ ألسنتهم عن الفحش من القول، ويتأدبون في كلامهم مع الآخرين، فلو تلاحظون أن الذي يتعامل مع الحيوانات رعيًا وبيعًا وشراءً، مَن تكرر ذكر لسانه لأسماء هذه الحيوات، يصبح ذكرها على لسانه سهلًا، ويتكرر في مجالسه، فإن سب أحدًا سبه بحيوان، وان شبه أحدًا شبهه بحيوان؛ لأن لسانه تعود ذكرها، فالمقصود أن تعود اللسان وتكراره لألفاظ معينة سواء قبيحة أو حسنة، هي التي يسهل ذكرها على اللسان، ويعبر بها عما يريد.
فوصيتي من الآن: احذف من قاموسك كل كلمة سلبية تعودت أن تقولها، سواء لنفسك أو للآخرين، وأبدل مكانها بأجمل كلمة، وتذكر قول الله -تعالى-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18]، والكلمة الطيبة صدقة.
والخلاصة: أنه يجب على المؤمن أن يكون عفيف اللسان، يختار العبارات اللائقة اللبقة، والكنايات اللطيفة، ويختار أرقَّ الألفاظ، وأعذب الكلمات؛ لأن المؤمن - كما وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس بالطعَّان، ولا باللعَّان، ولا بالفاحش، ولا بالبذيء".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم