شرف الزمان والمكان

عبد العزيز بن داود الفايز

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ عظم مكة 2/ فضائل مكة 3/ فضل عشر ذي الحجة 4/ الحث على استغلال عشر ذي الحجة بالأعمال الصالحة 5/ رسالة لمن يخدمون الحجيج 6/رسالة لمن يحجون بدون تصريح

اقتباس

والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"؛ أي عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بذلك بشيء". فهذه الأيام التي نستقبلها بعد يومين في هذا المكان الطاهر اجتمع شرف الزمان وشرف المكان...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على طريقته ونهجه، وعنا معهم بمنك وعفوك وكرمك.

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].

 

معاشر المسلمين: ربنا -جل وعلا- يخلق ما يشاء ويختار، فضل بعض الأمكنة على بعض، وفضل بعض الأزمنة على بعضهم، فضل مكة على غيرها من البقاع، وجعل لها من الفضائل الأشياء الكثيرة، ومما يدل على فضلها: أن الله -جل وعلا- أقسم بها، فقال: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)[التين:3].

 

وقال رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- عندما أخرج من مكة: "والله إنك لخير أرض الله إلى الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت".

 

وفي رواية قال: "ما سكنت غيركِ" قال ذلك -صلوات الله وسلامه عليه- وهو يغادر مكة، وقد ذرفت عيناه، وانكسر قلبه، واستجاب لأمر الله بالهجرة إلى المدينة والخروج منها، وقلبه متعلقا بها -صلوات ربي وسلامه عليه-.

 

ومما يدل على فضل مكة ومنزلتها: أن فيها بيت الله -جل وعلا- الذي هو أول بيت وضع للناس، قال الله -جل وعلا-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ)[آل عمران:96-97].

 

وجاء في الصحيحين من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أول بيت وضع في الأرض، فقال رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "المسجد الحرام" قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى" قلت: كم كان بينهما؟ قال: "أربعون عاما"؛ فأول بيت وضع في الأرض هو الكعبة.

 

ومما يدل فضلها وشرفها: أن الناس في كل مكان يتجهون إليها في صلواتهم، يتجهون إليها بقلوبهم، يعظمون هذا البيت؛ لأن الله عظمه وأحبه، ويتجهون إليه بأبدانهم وكل من أراد أن يصلي اتجه إلى هذا المكان الطاهر.

 

وممن يدل على شرفها وفضلها: أن الصلاة بمكة بمائة ألف صلاة، قال رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم كما جاء في مسند الإمام أحمد-: "صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة، وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة"؛ يا له من فضل عظيم.

 

وقد تكلم أهل العلم هل الفضل في الصلاة فقط؟ وهل الصلاة في الحرم أو في مكة كلها؟ اختلف أهل العلم:

والراجح أن الفضل يكون في مكة؛ فمن صلى داخل الحدود فإنه يدرك ذلك الفضل، وإذا قال قائل: ما الدليل على ذلك؟ نقول: إن الله -جل وعلا- قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)[الإسراء:1]. ورسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- أسري به من بيت أم هاني.

 

وقال جل وعلا: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)[التوبة:28]؛ فسمى مكة كلها المسجد الحرام.

 

وقال جل وعلا: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ)[المائدة:95]، وإذا ذبح الإنسان في مكة أجزأ.

 

ورسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية إذا دخل الوقت دخل داخل الحد، وصلى ثم خرج، وهذا يدل دلالة واضحة على أن مكة كلها يدرك فيها الإنسان ذلك الفضل.

 

وهل المضاعفة في الصلاة فقط؟ أو في كل الأعمال؟

 

ذكر أهل العلم أقوالا لذلك: منهم من قال أن جميع الأعمال تضاعف، وهذا قول عند الحنابلة والشافعية والمالكية.

 

والقول الثاني: أن الأعمال تعظم من غير عدد، والعدد بالصلاة.

 

والقول الثالث: أن الفضل في الصلاة فقط؛ لأن الدليل دل على ذلك، والصحيح -والله أعلم- أن الأعمال كلها غير الصلاة تعظم من غير عدد؛ فإذا عمل المسلم طاعة بمكة فإنه يفضل على غيرها من غير عدد؛ لأن العدد ورد في الصلاة.

 

ومما يدل على فضل مكة وشرفها: أن الذنب يعظم فيها، قال الله -جل وعلا-: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الحج:25].

 

وهل الذنب يضاعف إلى مائة ألف؟ هل يضاعف إلى ذلك؟ من أهل من قال بذلك، لكن الصحيح أن الذنب يعظم بمكة من غير عدد؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)[الأنعام:160] ودليل التعظيم: أن الهم بالسيئة بمكة يعاقب على عليها الإنسان.

 

فعلى المسلم أن يعظم ما عظمه الله -جل وعلا-، ويكثر من الطاعات في هذا المكان الطاهر، ويحذر كل الحذر من معصية الله في هذا المكان، ويعلم أن ذلك من تعظيم الله ومن إجلاله، عبد الله بن عمرو بن العاص كان له فسطاطان، إذا أراد أن يؤدب خدمه وأهله خرج خارج الحد؛ تعظيما وإجلالا لهذا المكان الذي عظمه ربنا -جل وعلا-.

 

ومما يدل على فضل مكة: أنه يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة.

 

ومن تعظيم الزمان -يا عباد الله-: أن الله -جل وعلا- فضل العشر الأول من شهر ذي الحجة على غيرها من الأيام؛ فقد جاء عند البزار بسند صحيح صححه الألباني قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر"، وأقسم الله بها بقوله: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر:1-2].

قال ابن عباس ومجاهد: "أيام العشر أي عشر ذي الحجة" وهذا ما ذكر الطبري والشوكاني وقالوا: هو قول جمهور أهل العلم أن العشر المراد بها عشرة ذو الحجة.

 

والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"؛ أي عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بذلك بشيء".

 

فهذه الأيام التي نستقبلها بعد يومين في هذا المكان الطاهر اجتمع شرف الزمان وشرف المكان؛ فعلى المسلم أن يستغل ذلك بطاعة الله -جل وعلا-.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

أقول هذا القول، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم وسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمد الشاكرين، اللهم لك الحمد كله ولك الشكر كله، لك الحمد يا الله حتى ترضى، لك الحمد يا الله إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلوات الله وسلامه عليه.

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: اتقوا الله وسابقوا بالخيرات، واستغلوا هذه الأيام الفاضلات، وهذا المكان الطاهر.

 

واعلم -يا عبد الله- أنك كلما تقربت إلى الله بقربة من القربات والطاعات أحبك الله، وقد جاء في الحديث القدسي في صحيح البخاري: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت بشيء أنا فاعله ترددي بقبض نفس عبدي يكره الموت وأنا أكره إساءته".

 

أيها المؤمنون: استغلوا هذه الأيام بكثرة الأعمال الصالحة؛ كقراءة القرآن، والتسبيح والتهليل والاستغفار والصوم، وغير ذلك من أعمال البر والإحسان.

 

يا من أكرمكم الله بخدمة الحجيج: من أجلِّ الأعمال وأشرفها أن يقوم الإنسان على خدمة إخوانه المسلمين؛ فكيف إذا قام بخدمة ضيوف الرحمن؟! يا له من شرف عظيم! أخلص النية لله -يا من تركت بلدك وولدك وأتيت تخدم الحجاج-، سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الأعمال قال: "سرور تدخله على مسلم".

 

وكما جاء عند الطبراني بسند حسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ولئن أقضي حاجة أخي المسلم أحب إلي من أن أعتكف شهرا"؛ فهنيئا لمن يقوم بخدمة ضيوف الرحمن.

 

يا رجال الأمن يا من تقفون بالشمس وتحتسبون الأجور اعلموا: إنكم تقومون بعمل جليل عظيم عند الله، وهنيئا لكل من يقوم على شئون الحج.

 

وأنبه إلى مسألة وهي: أن الإنسان يساعد الجهات المختصة، ويستجيب لما جاء من ولي الأمر أنه يأخذ الرخصة عند الحج، وقد بني هذا -أي تحديد الحج إلى سنوات خمس- على فتوى من هيئة كبار العلماء؛ فيحرص الإنسان أن يأخذ الإجراءات النظامية، وإذا لم يتيسر له فإن الإنسان يكتب له أجر الحج، ومن ترك الحج بقصد التوسعة على الناس فإنه يرجى له أجر الحج، وإذا لم يتيسر للإنسان الحج فإنه يتكلف بحجة أو بمبلغ مالي لمن يؤدي الحج عن نفسه، ورسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من جهز غازيا فقد غزى".

 

اللهم يا حي يا قيوم يا سميع يا بصير يا عظيم يا من ترانا وتسمع كلامنا وتعلم سرنا ونجوانا، يا من حفظت يوسف في البئر، يا من حفظت يوسف في السجن، يا من أخرجت يونس من بطن الحوت، يا من أنجيت موسى من فرعون اللهم احفظ الحجاج والمعتمرين؛ احفظ الحجاج والمعتمرين، اللهم احفظهم في البر والبحر والجو يا رب العالمين، اللهم حقق مرادهم، واغفر ذنوبهم، واستر عيوبهم، ويسر أمورهم، واشرح صدورهم يا رب العالمين.

 

وسدد -يا حي يا قيوم- ولاة الأمر، اللهم سدد قول وفعل كل من أراد خدمة لبيوت الرحمن، اللهم سدد قولاه وعمله وبارك في جهوده وضاعف لهم جميعا الأجر والمثوبة يا رب العالمين، يا قوي يا عزيز يا جبار يا قهار، من أراد مكة وأهلها والحجاج والمعتمرين بسوء اللهم أبطل كيده، اللهم أبطل كيده، اللهم اجعل تدبيره في تدميره، اللهم أنزل عليه بأسك وعقوبتك يا حي يا قيوم، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم افضحه على رؤوس الأشهاد، اللهم اكفينه بما شئت، اللهم اكفينه بما شئت.

 

اللهم أدم علينا نعمة الأمن والاستقرار يا رب العالمين

 

اللهم يا حي يا قيوم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم اجمع كلمتهم وقلوبهم، اللهم ارحم ضعفهم، اللهم ارحم المشردين يا رب العالمين، اللهم ارحم المشردين وأعدهم إلى بلادهم آمنين سالمين يا رب العالمين، وانتقم لهم ممن ظلمهم وأخرجهم وآذاهم، أعد الأمن يا رب في بلاد الأمن، اللهم أعد الأمن في اليمن، اللهم أعد الأمن في العراق وفي الشام وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم أبطل كيد الحوثيين واجعل كيدهم في نحورهم يا رب العالمين.

 

اللهم فرج هم المهمومين، اللهم فرج هم المهمومين، واقض الدين عن المدينين، اللهم اشف كل مريض من المسلمين، اللهم اشف كل مريض من المسلمين، اللهم أنزل على قلبه السكينة والطمأنينة والرضا يا رب العالمين.

 

يا رب أنت الذي جمعتنا في هذا المكان نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تجمعنا بأعلى الجنان مع سيد الأنام -صلى الله عليه وسلم-.

 

اللهم صل على محمدٍ عدد ما صلى عليه المصلون وذكره الذاكرون.

المرفقات

شرف الزمان والمكان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات