شرح حديث ‘لعن الله من لعن والديه‘

ناصر بن محمد الأحمد

2015-02-23 - 1436/05/04
عناصر الخطبة
1/تعريف اللعن والتحذير منه 2/بعض أصناف الناس الذين لعنوا في القرآن والسنة 3/شرح حديث: "لعن الله من لعن والديه ..."

اقتباس

عجيب أحوال بعض الناس، هذان الوالدان اللذان بسببهما كان وجودك، وعلى أيديهما ترعرعت وكبرت، وفي أحضانهما نشأت، يسهران الليل لترتاح أنت، يتعبان طوال النهار لتأكل وتشرب أنت، ينزعان ما عليهما لتلبس أنت، ثم يكون جزاؤهما أن يجدا منك السبّ والشتم واللعن، بئس الرجل أنت لو...

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

 

روى مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله تبارك وتعالى عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غيّر منار الأرض".

 

اللعن، هو الطرد والإبعاد من رحمة الله -جل وتعالى-.

 

فكل فعل ورد في حقّ صاحبه اللعن إما من كلام الله، أو من كلام رسوله، فيجب أن نعلم بأن هذا الفعل، وهذا العمل، مستقبح ومنكر ومحرم، ولا يجوز فعله، إن لم يكن شركًا، أو كبيرة من الكبائر.

 

وإليك أمثلة سريعة من كتاب الله -جل وعز-: قتل المؤمنين الأبرياء بغير ذنب: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ)[النساء: 93].

 

إيذاء الله ورسوله بأي صورة كانت: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)[الأحزاب: 57].

 

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ)[المائدة: 78 - 79].

 

الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)[محمد: 22 - 23].

 

الكفر: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا)[الأحزاب: 64].

 

الظلم: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[الأعراف: 44].

 

ثم إليك أمثلة سريعة أخرى من كلام المصطفى -صلى الله عليه وسلم- قال : "لعن الله الراشي والمرتشي".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من سب أصحابي".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

 

إذًا، فلنحذر ما ورد في حقه اللعن، ولنحذّر غيرنا أيضًا.

 

وحديث علي بن أبي طالب الذي قرأناه عليكم في مقدمة الخطبة هو ما سيتم التعليق عليه -إن شاء الله تعالى-.

 

"لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غير منار الأرض".

 

الملعون الأول: ذلك الذي لعن والديه.

 

أيّ كرامة للإنسان الذي يلعن والديه؟! كيف لا يستحقّ اللعن من الله هذا الحقير المجرم الذي يلعن والديه؟!

 

عجيب أمر هذا الإنسان، وعجيب قسوة قلوب بعض البشر.

 

وهذا الأمر لو لم يكن حاصلاً ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

 

نعم، إنه يوجد من الأبناء من يشتم والديه، ويوجد من يقاطع والديه، بل جاءني مرة رجل في هذا المسجد بعد إحدى الصلوات، وقال لي: أريد أن أتوب؟ فقلت له: إن باب التوبة مفتوح، لكن ما ذنبك؟ فقال: لقد ضربت والدي قبل الصلاة -لا حول ولا قوة إلا بالله-.

 

فأقول: عجيب أحوال بعض الناس، هذان الوالدان اللذان بسببهما كان وجودك، وعلى أيديهما ترعرعت وكبرت، وفي أحضانهما نشأت، يسهران الليل لترتاح أنت، يتعبان طوال النهار لتأكل وتشرب أنت، ينزعان ما عليهما لتلبس أنت، ثم يكون جزاؤهما أن يجدا منك السبّ والشتم واللعن، بئس الرجل أنت لو كان هذا حالك، كيف تريد من ربك بعد ذلك توفيقًا في عمل أو تجارة أو زواج، أو أي أمر آخر، وهذا حالك مع أقرب الناس إليك؟!

 

يروى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها:

 

إحداها: قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)[المائدة: 92].

 

فمن أطاع الله ولم يطع الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقبل منه.

 

الثانية: قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)[المزمل: 20].

 

فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه.

 

الثالثة: قوله تعالى: (أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)[لقمان: 14].

 

فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه".

 

يقول عليه الصلاة والسلام: "من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه".

 

وليس في الوجود أحد بعد الله -سبحانه- أسدى إليك -أيها الإنسان- معروفًا أكثر مما أسدى إليك أبوك وأمك؛ فقد ربياك صغيرًا، وآثراك على أنفسهما كبيرًا، وكانا قبل ذلك السبب في وجودك وبروزك في الحياة شخصًا سويًا، فقد بذلا من أجلك الشيء الكثير، بذلا مهجهما وراحتهما ومالهما لإنعاشك وإسعادك.

 

إن مرضت مرضا معك، وإن سهرت سهرا معك، إن حضرت خافا عليك، وإن غبت بكيا عليك.

 

فمن أجل هذا،ومن أجل أن توفّق لما أُمرت به من طاعة الله، وبر الوالدين، فتسعد في دنياك وتنعم في أخراك، أمرك الله -جل جلاله- ببرهما، والإحسان إليهما، والعطف عليهما، وخفض الجناح لهما، والترحم عليهما، ومخاطبتهما باللين والرفق، واليسر والحسنى، ووصاك بهما تعالى توصية مُبَيّنة حكمتها، توصية تستجيش المشاعر، وتهزّ القلوب: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا)[الأحقاف: 15].

 

وقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[لقمان: 14].

 

فاتقوا الله -أيها المسلمون- اتقوا الله -تعالى- وأطيعوه فيما أمركم من بر الوالدين وطاعتهما، فإن برهما وطاعتهما من أكبر القربات المقربة إلى الله، وعقوقهما وعصيانهما من أكبر السيئات المبعدة عن الله.

 

روى البخاري ومسلم -رحمها الله- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها" قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين" قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله".

 

وعن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" ثلاثًا، قلنا: بلى، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور"فما زال يكرّرها حتى قلنا: ليته سكت" [رواه البخاري ومسلم].

 

فاتقوا الله -عباد الله- بِرّوا تُبَرّوا، وأحسنوا يُحْسن إليكم، وأطيعوا الله في والديكم، يطع اللهَ فيكم أولادُكم، وإياكم ثم إياكم من لعن الوالدين، فإنه من موجبات لعن الله -نسأل الله السلامة والعافية-.

 

والملعون الثاني: الذابح لغير الله -تعالى-.

 

إن الذبحَ لا يجوز أن يكون إلا لله، إن دم الذبيحة لا يجوز أن تُراق إلا لله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)[الكوثر: 2].

 

وإنها من أفضل ما يُتقرّب به إلى الله -جلّ وتعالى-، ولا يجوز صرفُها لغيره، كمن ذبح لصنم أو لقبر أو للكعبة، ونحو ذلك، فكلّ هذا حرام ولا يجوز، بل ولا تحل هذه الذبيحة.

 

فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله -تعالى- كان ذلك كفرًا، فإن كان الذابح مسلمًا قبل ذلك، صار بالذبح مرتدًا -والعياذ بالله-.

 

وهذا الأمر -أيها الإخوة- موجود في بعض بلاد المسلمين، قرابين تقرّب لمقبورين، وطوائف من هذه الأمة ممن يَدّعون الإسلام دينهم، وهذه عقيدتهم، يذبحون لقبورهم أكثر مما يذبحون لله، أفلا يستحق هؤلاء اللعن من رب العالمين؟! كيف لا، وهم قد دخلوا في باب من الشرك لا يُدرى هل يخرجون منه، أم يموتون على هذه العقيدة الفاسدة؟

 

فنسأل الله -جل وتعالى- أن يختم لنا بخاتمة السعادة، وأن يبصرنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد:

 

فالملعون الثالث، والذي تُوّعد بهذا الحديث هو ذلك الذي يأوي محدثًا: "ولعن الله من آوى محدثًا".

 

إن أصحاب البدع لا مكان لهم في المجتمع المسلم، وكما يقول ابن القيم: "وهذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم".

 

إن الذي يتستّر على أصحاب البدع والمخالفات، هذا الإنسان قد ارتكب جرمًا عظيمًا في حق المجتمع المسلم، لذلك استحق اللعن.

 

إن تستره عليه وإيواءه، يعني أنه راضٍ عما يصنع، هذا إذا كان مجرد إيواءٍ فقط، فما بالكم بمن يسهل هذه الأمور، ويدعم أصحابها بالمال، ويدافع عنهم، ولا يرضى بالتعرض لهم؟! وكل هذا يحصل في بلاد المسلمين.

 

ولهذا، فلا تستغرب إذا رفع أصحاب البدع عقيرتهم ولوحوا بأعلامهم وتكلموا بملء أفواههم، ليسمعهم القريب والبعيد، وصدق الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: "ولعن الله من آوى محدثًا".

 

لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم خطورة هذا الأمر، وأنه ما أُحدثت بدعة إلا وأميتت سنة، ولأن البدع لو ترك لها المجال في الانتشار والتوسع، فإنها ستقضي على الدين كله، وستأكل الأخضر واليابس.

 

إنه لا بد من وقفة مراجعة ومحاسبة لأصحاب البدع، وذلك قبل أن يعض المجتمع المسلم أصابع الندم.

 

الإحداث في الدين ليس فقط التحريف في الأسماء والصفات، بل كل شرخ وحدث في أي جانب من الجوانب العقدية يعتبر إحداثًا.

 

وأما الملعون الرابع: ف "هو من غير منار الأرض"، قال صلى الله عليه وسلم: "ولعن الله من غيّر منار الأرض".

 

"منار الأرض" هي علاماتها وحدودها التي يهتدي الناس بها في الطريق.

 

هناك علامات توضع في الطريق ليهتدي بها المسافر والغريب عن الأرض، والذي يعبث بهذه العلامات ويغيرها متوعد باللعنة، لماذا؟

 

لأن هذا نوع من الإيذاء لعباد الله، وتضليلهم عند سبيلهم.

 

أرأيت -أخي المسلم- لو كنت تريد السفر إلى مكة وأنت غريب، ومعك أهلك وأولادك، ثم رأيت علامة تقول لك بأن مكة من ها هنا، وهذه العلامة قد جاء قبلك من غيرها عن وجهتها الصحيحة، هل تظن أنك ستصل إلى مكة؟! ماذا يكون حال النساء والأطفال معك وأنت ضائع تائه في الصحراء؟! ألا يستحق صاحب هذا العمل اللعن من الله؟!

 

أيها الأحبة: إن منارات الأرض، ضربان: منارات حسّية، وهي ما سمعتم قبل قليل، وهناك منارات معنوية، وعلامات وحدود وضعها الله -عز وجل-، ليهتدي الناس بها في هذه الأرض أيضًا، وهي أولى من سابقتها، ألا وهي شرعه ووحيه: الكتاب والسنة، إنهما لأعظم المنارات في هذه الأرض.

 

فماذا يستحق من الله -عز وجل- ذلك الذي أو أولئك الذين يغيرون في هذه المنارات، ويعبثون ويتلاعبون بها، وينتج عن هذا التغيير إضلال طوائف من البشر، وربما لأجيال متعاقبة؟!

 

إذا كان تغيير منارة من منارات الأرض في طريق ونحوه يستحقّ صاحبها اللعنة، وقد يكون المتضرر من هذا التغيير شخص أو شخصين، قل حتى ولو ألف من الناس، فكيف بالذي يغيّر منارات، بل ربما يزيل منارات، يكون المتضرر منها الأمة بكاملها، يترتب على تغيير هذه المنارات العبث بأفكار الناس وتصوراتهم ومفاهيمهم.

 

لا شك بأن عقوبة هذا أشد وعاقبته أعظم؛ لأنه قد حرم ملايين من الناس من الاهتداء والاستفادة والأخذ والتلقي من هذه المنارات، فكلما اتسعت دائرة الضرر عظمت العقوبة -والله المستعان-.

 

فنسأل الله -جل وعز- أن يصلح أحوال المسلمين، كما نسأله أن يعجل بفرج هذه الأمة.

 

اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا...

 

اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد ...

 

 

 

 

المرفقات

شرح حديث لعن الله من لعن والديه.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
يوسف أشرف
14-09-2020

جزاك اللّٰه خيراً