شرح حديث الحلال بيّن والحرام بيّن

ناصر بن محمد الأحمد

2013-03-04 - 1434/04/22
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/ دُرّة نبوية من جوامع الكلم 2/أقسام ثلاثة وحكم كل قسم 3/ مفاسد قلة الورع ومساوئ الجرأة على المحرمات 4/ التقوى هي صلاح القلب

اقتباس

لما قلّ الخوف من الله في هذا الزمان في قلوب كثير من الناس، وزال عنها الورع تجرأ كثير من الناس على فعل المحرمات وترك الواجبات، فكثر الظلم والعدوان، والزور والبهتان، وكثرت... كما أن أكل الحرام، وعدم التورع عن الآثام يُقسي القلب فلا يستجاب له دعاء، قال صلى الله عليه وسلم: "أبعد الناس من الله...

 

 

 

 

إن الحمد لله..

أما بعد: في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".

ففي هذا الحديث قسّم النبي صلى الله عليه وسلم الأشياء إلى ثلاثة أقسام. وبيّن موقف المسلم من كل قسم:

القسم الأول: الحلال البيّن: وهو الطيبات من المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمكاسب وغيرها مما نص الله على حِله، أو لم يرد دليل بتحريمه، فيبقى على الإباحة.

القسم الثاني: الحرام البيّن: وهو الخبائث من المآكل والمشارب والملابس والمكاسب وغيرها مما نص الله على تحريمه، أو ظهر خبثه وضرره: كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، والخمر والزنا، ونكاح المحارم، والربا، والميسر، وأكل أموال الناس بالباطل من الغصب، والسرقة، والظلم، والرشوة، والغش، والخديعة أو أخذها بالخصومات الفاجرة والأيمان الكاذبة وشهادات الزور إلى غير ذلك من أنواع الظلم.

فالحلال البيّن كلٌّ يعرفه: العالم والجاهل، ونفس المؤمن تطمئن إليه، وله آثار طيبة، ويقوي على الطاعة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51].

وموقف المسلم من هذا القسم أن يأخذه ويتمتع به من غير إسراف، ويتقوى به على طاعة الله، ويشكر الله عليه.

والحرام البيّن: أيضاً كل يعرفه: العالم والجاهل، ونفس المؤمن لا تطمئن إليه، وله آثار قبيحة على القلب والسلوك، وله أضرار صحية على الجسم والقلب؛ لأنه يغذي تغذية خبيثة.

وموقف المسلم من هذا القسم اجتنابه والابتعاد عنه؛ لا يُدخله في ماله، ولا يأكل منه، ولا يلبس منه ولا يستعمله بأي نوع من الاستعمال، لأنه مأمور بتركه واجتنابه وعدم القرب منه.

القسم الثالث: المشتبه: وهو ما يخفى حكمه على كثير من الناس، فلا يدرون: هل هو من قسم الحلال، أو من قسم الحرام؟ ولا يظهر حكمه إلا للراسخين في العلم، فيعرفون من أي القسمين هو.

وهذا مثلُ المسائل المختلف فيها بين أهل العلم؛ نظراً لاختلاف الأدلة فيها وحاجته إلى نظر دقيق، ومثل اختلاط المال الحلال بالمال الحرام على وجه لا يمكن التمييز بينهما، ومثل اختلاط ملكه بملك غيره. واختلاط الميتة بالمذكاة من الحيوان، ومثل وجود شبهة تحريم الرضاع فيمن يريد أن يتزوجها.

وموقف المسلم من هذا القسم أن يتوقف عنه تورعاً حتى يتبين له حكمه تغليباً لجانب التحريم وإيثاراً وبراءة الذمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" أي: طلب البراءة لدينه من النقص ولعرضه من الذم.

والعرض: هو موضع المدح والذم من الإنسان، فمن تجنب الأمور المشتبهة فقد حصّن عرضه من الذم والعيب، كما أنه قبل ذلك قد حصّن دينه من النقص والخلل، وعلى الجاهل مع ذلك أن يسأل أهل العلم عما اشتبه عليه، قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء: 43].

فبسؤال أهل العلم يزول الجهل ويتضح الحق لمن أراده، وكما أن في اجتناب الشبهات وقاية للدين والعرض، ففيه أيضاً حصول الحاجز بين الإنسان وبين الوقوع في الحرام؛ لأن من تورع عن المشتبهات كان متورعاً عن الحرام من باب أولى.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى التمرة ساقطة في بيته أو في الطريق فلا يأكلها؛ خشية أن تكون من الصدقة، لأن الصدقة محرمة عليه صلى الله عليه وسلم. وقال لسبطه الحسن بن علي رضي الله عنهما: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي الشبهات ولا يتورع عنها مع اشتباهها: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" إما لأنه حينئذ يفقد الورع الذي يحجزه ويبعده عن الحرام، فإذا تجرأ على المشتبهات تجرأ على الحرام بالتدريج، وإما لأنه لا يؤمن أن يكون في تناوله للمشتبه وقع على القسم المحرم منه، فيكون قد وقع في الحرام حقيقة، وكل هذا لعدم مبالاته.

وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً شبّه فيه هذا الذي لا يتورع عن الشبهات بالراعي الذي يرعى دوابه حول حمى حماه أحد الملوك، فمنع من الرعي فيه، فإن الراعي إذا سمح لدوابه أن ترعى قريباً من حدود هذا الحمى فإنه لا يأمن أن تدخل في الحمى وترعى فيه فيعاقبه الملك.

كذلك فإن الله سبحانه له حِمًى منع الدخول فيه، وهو ما حرمه على عباده، فمن قارب حمى الله بتناول المشتبهات وقع في حمى المحرمات، وحلت عليه العقوبات، والله سبحانه حمى هذه المحرمات وسماها حدوده، فقال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) [البقرة: 187]، أي: لا تقربوا المحرمات التي حرمها، وقال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) [الأنعام: 151] (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) [الإسراء: 32] (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء: 34].

وأما الحلال فقد نهى الله عن تعديه، فقال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: 229]، فقد حدّد الله للناس الحرام والحلال، ونهى عن القرب من الحرام وعن تعدي الحلال.

عباد الله: إنه لما قلّ الخوف من الله في هذا الزمان في قلوب كثير من الناس، وزال عنها الورع تجرأ كثير من الناس على فعل المحرمات وترك الواجبات، فكثر الظلم والعدوان، والزور والبهتان، وكثرت الخصومات الفاجرة والحيل الباطلة، وضاعة الأمانة وكثُرت الخيانة، وأكل الربا، وأُخذت الرشوة وكثُر الغش والخديعة والكذب في المعاملات، وقُطعت الأرحام، وأُكلت أموال الأيتام، تباغضت القلوب، وتناكرت النفوس، وكثر في الناس تضييع الصلوات، ومنع الزكاة، والتهاون بالجمع والجماعات، وفشا في الناس عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام، كل ذلك بسبب عدم التقيد بأحكام الحلال والحرام. والتورع عن المتشابه وما يجر إلى الآثام.

فاتقوا الله عباد الله (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله..

أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعلموا أن التقوى هي صلاح القلب، فإذا صلح القلب صلحت الأعمال والتصرفات، قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي مازلنا نتأمل في معانيه: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"، فصلاح حركات العبد واجتنابه للمحرمات واتقاؤه للشبهات بحسب صلاح قلبه، فإن كان قلبه سليماً ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه الله؛ صلحت حركات الأعضاء كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسداً قد استولى عليه اتباع الهوى وطلب ما يشتهيه الإنسان ولو كرهه الله فسدت حركات الجوارح كلها وانبعثت إلى المعاصي والمشتبهات، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم. قال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88- 89].

واعلموا أن القلب يتأثر ويمرض بفعل المعاصي وترك الطاعات، فيمرض بالنفاق، قال تعالى في المنافقين: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) [البقرة: 10].

ويُحجب بالمعاصي فيغلف بغلاف كثيف فلا يصل إليه نور، ولا تؤثر فيه موعظة، وهذا هو الران الذي قال تعالى فيه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].

كما أن أكل الحرام، وعدم التورع عن الآثام يُقسي القلب فلا يستجاب له دعاء، قال صلى الله عليه وسلم: "أبعد الناس من الله القلب القاسي" رواه الترمذي.

فاتقوا الله عباد الله وحافظوا على صحة قلوبكم من أمراض المعاصي، أكثر مما تحافظون على أجسامكم من الأمراض الحسية، وداووها بكتاب الله وسنة رسوله فإن خير الحديث كتاب الله.. إلخ..
 

 

 

 

المرفقات

حديث الحلال بيّن والحرام بيّن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
مبارك يعقوب
21-10-2019

نص الرسالة جزاك الله الخير علي خطبه من احاديث الصحيحه وفقك الله وامده عمرك