شدة البرد.. وزمهرير جهنم

سامي بن عبد العزيز الماجد

2011-03-07 - 1432/04/02
التصنيفات: الخلق والآفاق
عناصر الخطبة
1/ استلهام العبر من البرد 2/ استشعار نعم الله علينا 3/ ضرورة تذكُّر المحتاجين

اقتباس

إن هذا البرد القارس يدفعنا إلى مزيد من شكر النعمة، بما توافر علينا من رياشٍ ولباس، ومن سرابيل ومساكن، ومن دفءٍ ومنافع، لا إلى التشكِّي والضجر، ولا إلى سوء الظن بالله، ولا إلى سب مخلوقاته من ريح وثلج وبرد، التي هي طوع مشيئته، ومسخراتٌ بأمره. فالشكرَ الشكرَ عبادَ الله!.

 

 

 

 

أيها الأحبة في الله: برد هذه الأيام حديثُ الناس، فقد نالهم من أذاه ومشقته ما لا يكادُ مشهدُه يتكرر في العمر إلا مرةً أو مرتين، وتذكّر الناسُ بهذا البرد القارسِ نعمةَ الشمس والنار، فقد ذكّرنا الله بنعمة الشمس وما في خلقها من حكم كثيرة في آيات كثيرة، فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء، وَالْقَمَرَ نُورًا، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ، مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، وقال تعالى: (وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) [إبراهيم:33]، وقال -سبحانه- مذكراً بنعمة النار للخلق: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ؟ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ؟ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ) [الواقعة:71-73]، فهي تذكرة: تذكر بنار الآخرة، وهي متاعٌ للناس، وبخاصة المسافرين.

ويذكِّرنا هذا البرد الشديد بزمهرير جهنم -نعوذ بالله منها- فقد جمعت مع شدة الحر شدةَ القرِّ، يعذَّب أهلها بزمهريرها كما يعذبون بسمومها، فقد ثبت في الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أشد ما تجدون من الحر من سَموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم".

وقد جعل -سبحانه- شدة البرد عذاباً يعذب به أهل النار، كما يدل لذلك قوله تعالى: (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) [ص:57]، وفي قوله: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلاّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً) [النبأ:24-25]، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: الغساقُ: الزمهرير البارد الذي يحرق من شدة برده.

ولذا كان من تمام نعيمِ أهلِ الجنة -جعلني الله وإياكم من أهلها- أن وقاهم الله أذى القر؛ كما وقاهم أذى الحر، كما في قوله سبحانه: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) [الإنسان:13].

وأما في الدنيا فالبرد مهلك، والحرُ مؤذٍ، لكنّه لا يهلك غالباً؛ ولذا فإن الضعفاء والمساكينَ يخشون من البرد أكثر مما يخشونه من الحر، ولذا كانت العرب تسمي الشتاء بالفاضح؛ لأنه يفضح الفقير، فلا صبرَ له عليه، بخلاف الحر. قيل لفقيرة: أيما أشد عليكم القيظ أم القُرُّ؟ فقالت: يا سبحان الله! مَن جعل البؤس كالأذى؟ فجعلت الشتاء بؤساً، والقيظ أذى.

ويُذكر عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يتعاهد رعيته إذا حضر الشتاء، ويكتب لهم قائلا: إنّ الشتاء قد حضر، فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا؛ فإنّ البرد عدو سريعٌ دخوله -أي للجسد- بعيدٌ خروجه.

ويشتد البرد فيتذكر الناس ضعفهم، لا يملكون كشف البرد عنهم ولا تحويلاً، ليس لهم تصريف الرياح، ولا كشف الغمام من السحاب المركوم، ولا حبس المطر والثلج، ولا إطالة النهار وقصر الليل.
يؤذي الناسَ حرُّ الشمس اللافح، فيتمنَّون انصرافها عنهم، فإذا انصرفت ومدّتْ في انصرافها مسَّهُم بردٌ قارس يكاد يهلكهم، فيتمنّون رجوعها سيرتها الأولى.

ويصيب الناس الجدب والقحط فيستسقون ربهم، يسألونه المطر والغيث، فإذا أغيثوا وتتابع عليهم المطر أياماً يسيرة، فزعوا وخافوا وخروجوا يستصحون، يسألون ربهم أن يحبسَ عنهم المطر.

وقد يطول بالناس انحباس المطر، حتى إذا رأوا السحاب عارضاً مستقبلَ أوديتهم استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا. وقد يكون فيما استبشروا به هلاكُهم وغرقهم. وصدق الله: وخُلِق الإنسان ضعيفاً.

أيها الأحبة الكرام: ونتذكر -ونحن نعيش هذه الأجواء الباردة- قدْر نعمة الله علينا، إذ وقانا شدة هذا البرد القارس بما منَّ به علينا مما بثه في هذه الأرض من أنعامٍ سخّرها لنا، فاتخذنا من جلودها سرابيل تقينا الحر والقر، وبما خلقه في هذه الأرض من صخور وأتربة اتخذنا من عناصرها بيوتاً. لنتذكَّرْ هذه النعم المسخرة؛ فقد ذكّرَنا بها ربُّنا في غير ما آية، فقال سبحانه: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) [النحل:5]، وقال: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا، وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ، وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً، وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا، وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ، وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ. كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [النحل:.8-81].

ومن أعظم منة الله علينا أن اختصَّنا بغِنىً نستدفع به شدة البرد، فلم تُعوِزْنا الحاجة لشيء نتّقي به البرد إلا استطاعت أيدينا أن تطاله بثمنه؛ في حين نرى كثيراً من الضعفاء والمساكين قد أعوزتهم الحاجة كما أعوزتنا، ولكنهم لم يجدوا ثمنَ ما يقيهم قسوةَ البرد من طعام أو كساء كما وجدنا، ولْنسأل أنفسنا بلهجة الصدق والمصارحة: بأي شيء فضّلَنا -سبحانه- على هؤلاء الفقراء؟ لِم أسبغ عنا نعمَه ظاهرة وباطنة، وحبسَ عنهم بعضَها؟.

لِم يمرُّ علينا الشتاء برداً وسلاماً ويمر عليهم بالبرودة نفسها فيلهلك بعضَهم ويُمرض منهم كثيراً؟ ألأنه سبحانه يبغضهم ويحبّنا؟ ألِأنهم فجَرة ونحن بررة؟ ألأنهم عصاة مذنبون ونحن عبّاد مطيعون؟.

والله! ما رأينا من حالنا ما يصدِّق هذا، أو بعضه؛ وما رأينا من حالنا وحالهم ما يجعل الغنى والدفء لنا بفضل طاعتنا، ولا الفقر والجوع والبرد لهم بشؤم معصيتهم، ولكنه الابتلاء الذي يتوازعه الخَلقُ غنىً وفقراً، ورخاءً وشدةً، حكمةً من الله وابتلاءً؛ فلنتق الله -سبحانه- فيما فضّلنا به على كثيرٍ ممن خلَق تفضيلاً، وجعله متاعاً وبلاغاً وبلاء إلى حين.

إن هذا البرد القارس يدفعنا إلى مزيد من شكر النعمة، بما توافر علينا من رياشٍ ولباس، ومن سرابيل ومساكن، ومن دفءٍ ومنافع، لا إلى التشكِّي والضجر، ولا إلى سوء الظن بالله، ولا إلى سب مخلوقاته من ريح وثلج وبرد، التي هي طوع مشيئته، ومسخراتٌ بأمره.

فالشكرَ الشكرَ عبادَ الله! فإن منـزلة الغني الشاكر الذي لم تبطره النعمة، خير من منـزلة الفقير الصابر؛ وكلٌ مأجور عند الله بما يحتسب، فلنحتسب الشكرَ بما مَنَّ الله علينا، ولنلهج بلسان الشكر، ولنكن من القليل الذين عناهم الله بقوله: (وقَليلٌ مِنْ عِباديَ الشَّكور) [سبأ:13].

  

 

الخطبة الثانية:

 
أما بعد: فلنجعل من هذا البرد القارس تذكرةً تذكِّرنا بإخواننا الفقراء المعوزين، الذين لا يجدون كساء ولا فراشا يقيهم صقيع البرد، ولا طعاماً يُقوِّي عودهم على البرد، ولا يملكون وسائل للتدفئة، ومنهم مَنْ ليست بيوتهم إلا مداخلَ ومخارج للهواء البارد، ومنهم من يسكنون صفيحا لا يزيدهم إلا برداً، فارحموهم رحمكم الله تعالى؛ فإنهم محتاجون إلى عونكم.

تلمَّسوا حاجاتهم، وأعينوهم في نوائبهم، دفِّئوهم وأسرهم وأولادهم، وبُلُّوا بالطعام أكبادهم، تلمَّسوهم بأنفسكم أو وكلاء عنكم في الأحياء الفقيرة، والقرى النائية؛ فإن ذلك من شكر نعمة الله تعالى عليكم، ومن معونة إخوانكم، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله، إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة:110].

تذكَّروا -يا عباد الله- وأنتم تنعمون وأسركم وأولادكم بالدفء والشِّبَع والاستقرار، تذكَّروا إخوانا لكم شردتهم القوى الظالمة الغاشمة، فهم ونساؤهم وأطفالهم في ملاجئ ومخيمات لا تقيهم البرد ولا بأس الحرب، هم هناك في فلسطين وفي العراق وفي غيرها من بلاد المسلمين المغتصبة.

تذكَّروا إخوانكم في غزة وقد حاصرهم اليهود، وخذلهم العالم كله؛ فمنعوا عنهم الطعام والكساء والوقود؛ ليوهنوا عزيمتهم، ويكسروا إرادتهم، وقد طال حصارهم حتى نفد ما عندهم أو يكاد. فَمن لهم -بعد الله- تعالى إلّا إخوانهم؟.

تذكَّروا أولئك كلَّهم فإنهم إخوانكم. يا ترى، ما هو حالهم وقد ضاقت عليهم الحيلة؟! وما هو حال نسائهم وأطفالهم في هذا البرد القارس مع شح الطعام وقلة اللباس؟ سلوا الله تعالى لهم المعونة؛ فهم في حال بئيسة، وأكثروا لهم من الدعاء؛ فإن إحساسكم بهم من إيمانكم، وهو دالٌّ على حياة قلوبكم تجاه إخوانكم، وإِنَّ "الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" و "تَرَى الْمُؤْمِنِينَ في تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى له سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" كما ثبتت بذلك الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وصلوا وسلموا على نبيكم...

 

 

 

 

 

المرفقات

البرد.. وزمهرير جهنم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات