عناصر الخطبة
1/ قصَّة نملةٍ مع نبيّ الله سليمان عليه السلام 2/ دروس وعبر من قصة هذه النَّملة؟ 3/ دور المسلم الإيجابي في مواجهة المعاصي والموبقات 4/ حاجتنا إلى حُسن الظَّنِّ والتماسِ الأعذار 5/ تَصرُّف طَائش قد يتسبب في مآسي كثيرة 6/ محاولات إسقاط هيبة العُلماء وتشويه صُورة الدُّعاة 7/ تناسي بحور الحسنات في قطرة من السيَّئات.اقتباس
أين دورُك الإيجابيُّ يا من يرى انتشارَ كثيرٍ من المُنكراتِ في مُجتَمِعك ..حتى أصبحتْ كأنَّها أعمالٌ صالحاتٌ .. فهل هذه التي على ظُهورِ كثيرٍ من النِّساءِ عَباياتٌ؟ .. ومتى كانت وجوه النِّساءِ تُكشفُ في الأسواقِ والسَّاحاتِ؟ .. ومتى صارتْ المرأةُ تعملُ بينَ الرِّجالِ في مخالفةٍ ظاهرةٍ لتعاليمِ اللهِ -تعالى- والأنظمةِ الواضحاتِ؟ .. ومن أينَ أتتْ هذه الملابسُ الغريبةُ والقَصَّاتُ؟ .. ومتى جاءَتنا هذه الأغاني الغربيَّةُ والرَقَصاتُ؟ .. ولماذا كَثُرتْ الجرائمُ الأخلاقيَّةُ والابتزازُ والمُعاكَساتُ؟ .. ولمن تُهرَّبُ هذه الخمورُ والمُخَدِّراتُ؟ .. ونحنُ مع ذلك لا نُحركُ ساكناً .. لم نُقدِّمْ نصيحةً صادقةً .. ولا موعظةً مؤثرةً .. ولا أمراً بالمعروفِ ولا نهياً عن المنكرِ .. ولا حتى نيَّةً صالحةً في إصلاحِ المُجتمعِ الذي نعيشُ فيه ..
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيْثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ وَشَرَّ الْأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أيها الأحبةُ في اللهِ .. سأُخبرُكم اليومَ بقِصَّةِ نملةٍ مع نبيٍ من الأنبياءِ .. ثُمَّ سأُخبرُكم بقِصَّةِ نملةٍ أُخرى مع نبيٍ من الأنبياءِ آخرَ .. وتأملوا في عاقبةِ كُلِّ واقِعةٍ على أُمَّةٍ من النَّملِ؛ وذلك لاختلافِ تَصرُّفِ كلِّ نَملةٍ.
الأولى: هي تلك النَّملةُ التي ذكرَها اللهُ -تعالى- في كِتابِه بلْ وسمى بها سُورةً من سُورِ القرآنِ الكريمِ .. يقولُ تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ) [النمل: 17] .. أيْ: جُمعَ له جُنودُه الكَثيرةُ الهائلةُ من بني آدمَ، ومن الجِنِّ والشَّياطينِ ومن الطِّيورِ والوُحوشِ والرِّيحِ ..(فَهُمْ يُوزَعُونَ) .. أيْ: يُردُّ أولُّهم على آخرِهم، ويُنظَّمونَ غايةَ التَنظيمِ في سَيرِهم، فهم في صُفوفٍ مُرتَّبةٍ .. وسَيرٍ حَثيثٍ .. وانضباطٍ دقيقٍ .. في مَشهدٍ مَهيبٍ .. تنشرحُ له صدورُ الأصدقاءِ .. وتَفزعُ منه قلوبُ الأعداءِ ..
(حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ) [النمل: 18].. والتعبيرُ (بعلى) يَدلُّ على هُبوطٍ مُفَاجِئٍ من أعلى الجبلِ إلى الوادي المليءِ بالنَّملِ .. (قَالَتْ نَمْلَةٌ) بعدَ أن انتبهتْ ورأتْ ذلك الجيشَ العظيمَ .. فصاحتْ بصوتِها: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل: 18]..
كلماتٌ معدوداتٌ .. واضِحاتٌ .. بليغاتٌ .. فهي أحسّتْ بوجودِ (سليمانَ وجنودِه) .. وبادرتْ (بالإخبارِ والتَّحذيرِ) .. ونادتْ بقولِها (يا) .. ونبَّهتْ (بأيُّها) .. وأمرتْ (ادخلوا) .. وأرشَدتْ ووجَّهتْ (مَسَاكِنَكُمْ) ..ونهتْ (لا يحطمنَّكم) .. وأكَّدتْ (بنونِ التَّوكيدِ) .. ونَصحتْ وأنذرتْ (يحطمنّكم) أنتُم.. وبَالغتْ (يحطمنَّكم) كُلَّكم .. وبيَّنتْ من سَيحطِمُهم (سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ) .. وأَعذرتْ لسليمانَ وجُنودِه (وهم لا يشعرون) [النمل: 18].. فلا يفعلونَه عن عَمدٍ ولا قَصدٍ .. لأنَّه نبيٌ من أنبياءِ اللهِ -تعالى- فلا يَقتلُ شيئاً بغيرِ حقٍّ.
سمعَ سليمانُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- كلامَها: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: 19].
هذا الموقفُ يا عبادَ اللهِ .. لم يذكرْه اللهُ -تعالى- في كتابِه عَبثاً، وإنما أرادَنا أن نتدبَّرَه كما نتدَبَّرُ سائرَ الآياتِ .. (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) [البقرة: 26].. فالَّذينَ آمنوا يعلمونَ أن كُلِّ ما ذكرَه اللهُ -تعالى- في كتابِه حقٌ .. وأن فيه هِدايةً وذِكرى وموعظةً وعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَلْبَابِ .. فيأتي السُّؤالُ: ما الَّذي يُمكنُ أن يستفيدَه المُسلمُ من هذه النَّملة؟
فنقولُ: ألم ترَ إلى هذه التَّضحيةِ النَّادرةِ .. والمُغامرةِ المُدهِشةِ .. والمُبادَرةِ المُذهِلةِ .. من نملةٍ صغيرةٍ ترى جيشاً عظيماً يَهبطُ عليهم من فوقِ الجَبلِ .. وكم تحتاجُ هذه الصَّغيرةُ حتى تَصلَ إلى مسكنِها من الوَقتِ .. ومع ذلك وقفتْ بُكلِّ شجاعةٍ وحزمٍ وآثرتْ نجاةَ قومِها على نجاتِها .. ولم تحتقرْ نفسَها ولم تيأسْ من صوتِها الضَّعيفِ مع حَجمِ الوادي الفَسيحِ الَّذي يتَّسعُ لهذا الجيشِ الكبيرِ .. فنادتْ وحذَّرتْ وأنذرتْ بما استطاعتْ من قوةٍ .. فكانتْ سببَ نجاتِهم وانتباهِ نبيِّ اللهِ سليمانَ -عليه السَّلامُ- لهم .. والَّذي أعجبَه ذلك الموقفَ الجريءَ ونُصحَ النَّملةِ لقومِها حتى (تَبَسَّمَ ضَاحِكًا).
فأينَ هذا الموقفُ من كثيرٍ من النَّاسِ الَّذي لا يُبالي بأمَّتِه ولا بقومِه ولا وطنِه .. فتجدْه يرى الأخطارَ تُحيطُ بالجميعِ من جميعِ الاتِّجاهاتِ .. فلا يُحركُ ساكناً .. ولِسانُ حالِه: نَفْسي، نَفْسي .. ويَعتقدُ أنه ينجوا إذا كانَ صالحاً .. ولا يعلمُ المِسكينُ أن القريةَ لا تنجوا إلا إذا كانَ فيها مُصلحونَ ناصحونَ .. كما قالَ تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117].. ولم يقلْ صالحونَ .. ولا يدري أن الفِتنةَ إذا جاءتْ لم تتركْ أحداً .. (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال: 25].. بل تُصيبُ الجميعَ .. نسألُ اللهَ -تعالى- العافيةَ والسَّلامةَ.
فيا من يرى الفَسادَ الإداريَّ والماليَّ .. أين أنتَ عن أخذِ يدِ الظَّالمِ .. بالنُّصحِ تارةً .. وبالترهيبِ تارةً .. وبرفعِ أمرِه إلى الجِهاتِ المُختصةِ تارةً أخرى .. أم أننا نَتركُ النَّاهبَ يَنهبُ .. والسَّارقَ يَسرقُ .. والمُفسدَ يُفسدُ .. والمُختلسَ يَختلسُ .. والرَّاشيَ يرتشي .. وتبقى الأيدي العابثةُ ..تأكلُ حقَّ الضَّعيفِ .. وتَحرِمُ المِسكينَ .. ويخونونَ الأمانةَ التي بينَهم وبينَ اللهِ -تعالى- .. والعهدَ الذي بينَهم وبينَ ولاةِ أمرِهم .. ثُمَّ لا تَعدو مواقفُنا عن حديثٍ ذليلٍ ضَعيفٍ في المجالسِ لا يُسمنُ ولا يُغني من جوعٍ فيه شَجبٌ واستنكارٌ وإدانةٌ ..
فكيفَ بعدَ ذلكَ نتمنى إصلاحاً إداريَّاً لم نقدِّمْ له شيئاً .. ونطمحُ في عدلٍ ماليٍ لم نبذلْ في سبيلِه شيئاً ..فمتى سيتغيَّرُ الواقعُ؟ .. ومتى سيُفضحُ الظالمُ؟ .. ومتى سينقَشِعُ ليلُ الفَسادِ الَّذي غطى بظلامِه نورَ البلادِ والعبادِ؟ .. يقولُ أَبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105] .. وإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ".
وأين دورُك الإيجابيُّ يا من يرى انتشارَ كثيرٍ من المُنكراتِ في مُجتَمِعك ..حتى أصبحتْ كأنَّها أعمالٌ صالحاتٌ .. ويا من يَعيشُ هذا التَّغيرَ الواضحَ في مُجتمعٍ ليسَ له عهدٌ بمثلِ هذه الممارساتِ ..فهل هذه التي على ظُهورِ كثيرٍ من النِّساءِ عَباياتٌ؟ .. ومتى كانت وجوه النِّساءِ تُكشفُ في الأسواقِ والسَّاحاتِ؟ .. ومتى صارتْ المرأةُ تعملُ بينَ الرِّجالِ في مخالفةٍ ظاهرةٍ لتعاليمِ اللهِ -تعالى- والأنظمةِ الواضحاتِ؟ ..
هل الشَّبابُ هم الشَّبابُ والفتيَّاتُ هم الفتيَّاتُ؟ .. من أينَ أتتْ هذه الملابسُ الغريبةُ والقَصَّاتُ؟ .. ومتى جاءَتنا هذه الأغاني الغربيَّةُ والرَقَصاتُ؟ .. ولماذا كَثُرتْ الجرائمُ الأخلاقيَّةُ والابتزازُ والمُعاكَساتُ؟ .. ولمن تُهرَّبُ هذه الخمورُ والمُخَدِّراتُ؟ .. ولماذا رَميْنا أبناءَنا وبناتِنا في أحضانِ بلادِ الكُّفارِ ومُطلَقِ الحُريَّاتِ؟.. أم أن هذا نتيجةٌ حتميَّةٌ لِما تتقيَّأُ به القنواتُ الفضائحيَّةُ من كُفرٍ وفُسوقٍ وسيَّئاتٍ .. ونحنُ مع ذلك لا نُحركُ ساكناً .. لم نُقدِّمْ نصيحةً صادقةً .. ولا موعظةً مؤثرةً .. ولا أمراً بالمعروفِ ولا نهياً عن المنكرِ .. ولا حتى نيَّةً صالحةً في إصلاحِ المُجتمعِ الذي نعيشُ فيه ..
وما حِيلتُنا إلا أننا نتناقلُ تلك الأخبارَ المُخزيَّةَ في وسائلِ تواصلِنا .. ثُمَّ يقولُ البعضُ: نحنُ أفضلُ من غيرِنا .. ويردِّدُ الآخرونَ: (اللهُ المستعانُ .. لقدْ فسدَ الزَّمانُ) .. ولقد صدقَ القائلُ:
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا *** وَما لِزَمانِنا عَيبٌ .. سِوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ *** وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا .. هَجانا
وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ *** وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عِيانا.
وأما قولُ النَّملةِ: (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل: 18].. فهو درسٌ آخرُ في إحسانِ الظَّنِّ والتماسِ العُذرِ لهذا النَّبيِّ الكريمِ وجيشِه .. فاعتذرتْ عنهم أنَّهم إن حَطَموكم، فليسَ عن قَصدٍ منهم ولا شُعورٍ بل (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) ..
وواللهِ كم نحتاجُ إلى حُسنِ الظَّنِّ والتماسِ العُذرِ في هذا الزَّمانِ الذي انتشرتْ فيه الأخبارُ الكاذبةُ وكَثُرتْ فيه الإشاعات .. يقولُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ رحمَه اللهُ: "إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ شَيْءٌ، فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَهُ عُذْرًا، فَقُلْ : لَعَلَّ لَهُ عُذْرًا لا أَعْرِفُهُ" ..
واسمعْ إلى هذا الموقفِ الذي أنزلَ اللهُ -تعالى- فيه قرآناُ يُتلى .. في حادثةِ الإفكِ ..قَالَتْ أُمُّ أَيُّوبَ لِأَبِي أَيُّوبَ -رضيَ اللهُ عنهما-: "أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟"، قَالَ: "بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَفَكُنْتِ يَا أُمَّ أَيُّوبَ فَاعِلَةً ذَلِكَ؟"، قَالَتْ: "لَا، وَاَللَّه"، قَالَ: "فَعَائِشَة وَاَللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ" .. فأنزلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْك مُبِين) [النور: 12].
فسبحانَ اللهِ .. حُسنِ الظَّنِّ والتماسِ العُذرِ .. قَدَرتْ عليه نملةٌ .. وعَجزَ عنه الكثيرُ من البَشَرِ.
بارَكَ اللهُ لِيْ وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيْمِ، وَنَفَعَنِيْ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيْمِ .. أَقُوْلُ قَوْلِيْ هذا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي أَرسلَ رَسولَه بالهُدى ودينِ الحقِّ ليُخرجَ النَّاسَ من الظُّلماتِ إلى النُّورِ بإذنِ ربِّهم إلى صِراطِ العزيزِ الحميدِ .. فهدى به من الضَّلالةِ، وبَّصرَ به من العَمى، وهَدى به إلى صِراطٍ مُستقيمٍ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شَهادةً نرجو بها النَّجاةَ من العَذابِ الأليمِ .. والفَوزَ بالنَّعيمِ المُقيمِ .. وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلَّمَ تَسليماً كثيراً .
أما بعد: فأما النَّملةُ الأخرى .. فقد ذكرَ قِصَّتَها رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- كما في الحديثِ: "نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ" .. نملةٌ مُتَهوِّرةٌ .. في تَصرُّفٍ طَائشٍ .. تسببتْ في حرقِ أمَّةٍ من الأممِ المُسَبِحةِ بحمدِ ربِّها (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء: 44].
وإن كانَ الحرقُ جائزاً في شريعةِ ذلك النَّبيِّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-، فلقد جاءَ في دِينِنا ما يَنهى عنه ،كما جاءَ عن مُحَمَّد بْن حَمْزَةَ الأَسْلَمِيّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ، وَقَالَ: "إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا فَاحْرِقُوهُ بِالنَّارِ"، فَوَلَّيْتُ فَنَادَانِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: "إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا فَاقْتُلُوهُ وَلاَ تُحْرِقُوهُ فَإِنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ".
ونحنُ نعاني في هذا الزَّمانِ من نملٍ لا يقرصُ نبيَّاً فحسبْ .. بل يقرِصُ الدِّينَ كُلَّه وما فيه من شرائعَ وتعاليمَ .. ويلدِغُ أهلَه من علماءٍ ودُعاةٍ وصالحينَ والآمرينَ بالمعروفِ والنَّاهينَ عن المنكرِ .. واللهُ -تعالى- يقولُ في الحديثِ القُدسي: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ" .. فمن ذا الَّذي يستطيعُ حرباً خصمُه فيها ربُّ السمواتِ والأرضِ؟!
ماذا يستفيدُ الَّذينَ يحاولونَ إسقاطَ هيبةِ العُلماءِ؟ .. وماذا يُريد الَّذينَ يُشوِّهونَ صُورةَ المُصلحينَ والدُّعاةِ؟ .. وما هو الهدفُ من الطَعنِ في الآمرينَ بالمعروفِ والنَّاهينَ عن المنكرِ؟ ..ولماذا القَدحُ في ولاةِ الأمرِ؟ ..وهل من المصلحةِ نشرُ العُيوبِ والأخطاءِ وكلُّنا ذوو خطأٍ؟ .. أنترُكُ نملةً تنشرُ ما تَنشرُ .. وتتَّهِمُّ من تتَّهمُّ .. وتطعنُ فيمنْ تَطعنُ .. قد نستْ أو تناستْ بحورَ الحسناتِ في قطرةٍ من السيَّئاتِ .. قد خالفتْ دينَها ومُجتمعَها الصَّالحَ المُحبَّ لكلِّ خيرٍ .. ونحنُ في موقفٍ مُنهزمٍ .. ودِفاعٍ هزيلٍ ضعيفٍ عمَّنْ تَجبُ نُصرتُه والدِّفاعُ عنه لقولِ اللهِ تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71].. فهل ننتظرُ أن تتسبَّبُ نملةٌ في حرقِ أمَّةٍ أخرى من الأممِ تُسبِّحُ؟!
اللهمَّ انصرْ دُعاةَ الخيرِ وأئمةَ الهُدى والمجاهدينَ في سبيلِك والآمرينَ بالمعروفِ والنَّاهينَ عن المنكرِ في كلِّ مكانٍ، اللهمَّ هيئ لهذه الأمَّةِ أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتِك ويُذلُّ فيه أَهلُ معصيِتك، ويُؤمرُ فيه بالمعروفِ ويُنهى فيه عن المنكرِ، اللهمَّ وفِّقْنا للعملِ الصالحِ الذي تَرضاه.
اللهمَّ من أرادَ بلادَنا وعلماءَنا وولاةَ أمرِّنا والآمرينَ بالمعروفِ والنَّاهينَ عن المنكرِ بسوءٍ فأشغلْه في نفسِه واجعلْ تدبيرَه تدميراً عليه يا ربَّ العالمينَ، اللهم وَلِّ على المسلمينَ خيارَهم، وأبعدْ عنهم شرارَهم في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها إنَّك على كلِّ شيءٍ قديرٍ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم