شؤم الإعراض عن نصائح المرسلين

خالد بن سعد الخشلان

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ أهمية قبول النصيحة الصادقة من قائلها 2/ نماذج من نصح الرسل لأقوامهم 3/ تأملات في قصص الأنبياء مع أقوامهم 4/ نصيحة مؤمن آل فرعون لقومه 5/ النتائج الوخيمة للإعراض عن نصح الناصحين.

اقتباس

إن من واضح القول وبيِّنه أن قبول النصيحة الصادقة ممن صدرت منه من عالم محقق، أو داعية ناصح، أو أب مشفق، أو أخ أو معلم صادق، إنّ قبولها من سيما المؤمنين وعلامات الصالحين، وأمارة وعلامة على إرادة الله بعبده التوفيق والخير، وإن ضدّ ذلك من ردّ النصيحة، وعدم قبولها، بل والإعراض عنها ممن صدرت عنه من سيما الهالكين وعلامات الخاسرين، ودليل على إرادة الخذلان بالعبد والحرمان من كل خير، عياذا بالله. فتعالوا نُجيل النظر في آيات الذكر الحكيم، لنرى شواهد على ذلك في سِيَر المرسلين وعباد الله الصالحين..

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واجعلوا تقوى الله أعظم قائد لكم وأبلغ من يهديكم فلا تقدموا على فعل من الأفعال ولا قول من الأقوال إلا إذا كان ذلك كله يوصلكم لتقوى الله -عز وجل- ويهديكم لمحبته ورضاه، واتركوا من الأفعال والأقوال والتصرفات كلما كان تركه من تقوى الله -عز وجل- ومن كان كذلك في دنياه طابت حياته وصلحت أحواله، ودخل في زُمرة عباد الله المتقين الموعودين من ربهم -عز وجل- بجميع أصناف النعيم (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الدخان: 51- 57]، منَّ الله علينا جميعا بتقواه، وجعلنا من أهل محبته وطاعته وهداه، إن ربي سميع مجيب.

 

أيها الأخوة في الله: كان الحديث في الجمعة الماضية عن النصيحة، ومنزلتها لدين الله -عز وجل-، وأن قبول المنصوحين لها من الناصحين أمَنَة ونجاة في الدين والآخرة، وأما الإعراض عن النصيحة والصدود عنها فما بعده –والله- إلا الهلاك المبين والخسران العظيم في الدنيا والآخرة، والقرآن الكريم كله مليء بالشواهد والدلائل على هذه الحقيقة الكبرى.

 

ولهذا -أيها الإخوة في لله- فإن من واضح القول وبيِّنه أن قبول النصيحة الصادقة ممن صدرت منه من عالم محقق، أو داعية ناصح، أو أب مشفق، أو أخ أو معلم صادق، إنّ قبولها من سيما المؤمنين وعلامات الصالحين، وأمارة وعلامة على إرادة الله بعبده التوفيق والخير، وإن ضدّ ذلك من ردّ النصيحة، وعدم قبولها، بل والإعراض عنها ممن صدرت عنه من سيما الهالكين وعلامات الخاسرين، ودليل على إرادة الخذلان بالعبد والحرمان من كل خير، عياذا بالله.

 

فتعالوا أيها الإخوة الفضلاء نُجيل النظر في آيات الذكر الحكيم، لنرى شواهد على ذلك في سِيَر المرسلين وعباد الله الصالحين، هذا أول المرسلين وأبو البشرية الثاني نوح -عليه السلام- فيما قصَّ الله علينا من خبره ونصحه لقومه، لقد نصحهم ونوَّع لهم في الأساليب، ودعاهم إلى عبادة الله وطاعته وترك عبادة الأصنام، وجد واجتهد في ذلك قال: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) [نوح: 5- 9]

 

ولكنهم مع هذا الحرص من نوح -عليه السلام- ورغبته القوية في إرادة الخير لهم وبذل كل الأسباب في نصحهم وترغيبهم وتحذيرهم لم يزدهم ذلك إلا إعراضًا عن نصحه، وصدودًا عن نصيحته.

 

فأعاد -عليه السلام- مرة بعد مرة، والكرة بعد الكرة من غير يأس ولا ملل (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأعراف: 59] أي: إن أعرضتم عن نصحي، ولم تقبلوا دعوتي لكم، لم يزدهم ذلك إلا سخرية وصدودًا (قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 59- 62].

 

لكن ذلك كله لم يزدهم -والعياذ بالله- إلا صدودًا عن النصيحة، والإعراض عن قبولها، فماذا كانت النتيجة؟ (فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ) [الأعراف:64].

 

في ساعة من ليل أو نهار أتاهم أمر الله -عز وجل- ذلك الطوفان العظيم، فأغرقهم جميعًا، وأهلكم عن بكرة أبيهم كأن لم يغنوا فيها.

 

والمشهد نفسه يتكرر مع غير نوح من الأنبياء والمرسلين، فهذا هود -عليه الصلاة والسلام- ينصح قومه ويناديهم (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) [الأعراف:65].

 

ثم يواصل نصحه (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) [الأعراف:68]، ولكنهم مع هذا النصح والبيان يستمرون على صدودهم وإعراضهم بل ويفتخرون بقوتهم وشديد بطشهم (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت:15].

 

فماذا كانت نتيجة صدودهم وإعراضهم عن نوح -عليه السلام-: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ) [فصلت:16].

 

إنها الريح العقيم لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرقيم، لقد كانوا يهزؤون بنصحه، ويعرضون عن وعظه سواء علينا وعظ أم لم تكن من الواعظين، فأرسل الله عليهم ريحًا دمَّرتهم تدميرًا، فأصبحوا كأنهم أعجاز نخل خاوية.

 

وما قوم ثمود عن قوم هود ببعيد؛ لقد جاءهم نبي الله صالح -عليه السلام-، ووعظهم ونصحهم بما نصح به إخوانهم الأنبياء قبلهم، وكان واعظًا لهم ناصحًا مجابًا يُسمَع له وتُقبَل منه النصيحة، ولكنهم -والعياذ بالله- استحبُّوا العمى على الهدى، واختاروا الضلالة بدل الهداية، فماذا كانت النتيجة يوم أن أعرضوا عن نصح الناصح صالح -عليه السلام-، فأخذتهم الرجفة التي قطَعت أرواحهم في أجوافهم عذابًا ونكالاً من الله، فأصبحوا في دارهم جاثمين هامدين لا حراك بهم، عندها خاطبهم نبي الله صالح بقوله -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي أبلغ لهم في الوعظ: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 79]، فهذه النتيجة لكل من أعرض عن نصح الناصحين وعن قبول الحق والصد عنه.

 

ثم يأتي في مسيرة الناصحين نبي الله لوط -عليه السلام- ينصح قومه في ترك ذلك المنكر العظيم الذي كانوا عليه من إتيان الذكران من العالمين: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) [الشعراء: 165- 166].

 

لكنهم لم يستجيبوا لنصحه، بل بالغوا في العمى والضلالة والإعراض حتى همُّوا بفعل ذلك المنكر مع أضيافه من ملائكة الله، فدارت بين لوط وقومه تلك المحاضرة الحزينة، (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ * قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود: 78- 80].

 

فماذا كانت نتيجة إعراضهم عن نصيحة نبيهم لوط -عليه السلام-؟ لقد نزل بهم أمر الله الذي لا رادّ له بعد أن قامت عليهم الحجة (فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود: 82- 83].

 

وتتوالى مسيرة أنبياء الله ورسله في نصحهم لأقوامهم ووعظهم؛ فها هو شعيب -عليه السلام- يدعو قومه إلى توحيد الله وعبادته، والبعد عن ذلك المنكر الذي وقعوا فيه مع شركهم ألا وهو تطفيف المكاييل وبخس الموازين.

 

وينصحهم -عليه الصلاة والسلام- بترك ذلك كله ويقيم الحجج والبيانات عليهم: (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) [هود: 84- 86].

 

لكن ذلك النصح المبين والوعظ المستمر لم يجدِ معهم -والعياذ بالله-، بل سخروا من صلاته واحتقروه ورهطه وقالوا: (وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) [هود:91]، وعند ذلك وبعد أن قامت عليهم الحجة فأعرضوا عن قبولها والأخذ بالنصيحة نزل عليهم أمر الله جزاء المعرضين المعاندين الصادين عن قبول النصيحة (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 91- 92].

 

عند ذاك قال شعيب -عليه السلام- وهو يرى مصارعهم (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) [الأعراف: 93].

 

هذه -أيها الإخوة الفضلاء- نماذج في كتاب الله من مسيرة الناصحين مع المنصوحين، وماذا كانت النتيجة يوم لم تُقبل النصيحة، ولم يعمَل بها، وهي نتيجة تتكرر في كل زمن وفي كل حين، وإن اختلفت صورها وأساليبها وأنواعها، فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من عباده المؤمنين الذين عناهم الله بقوله (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:18].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أفضل الرسل وخلاصة العباد، دعا أمته بالحكمة والموعظة الحسنة، وهداها إلى سبيل الرشاد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان بالأقوال والأفعال والاعتقاد وسلم تسليما كثيرًا.

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بالعروة الوثقى، وكونوا من عباد الله المستجيبين لله ولرسوله إذا دُعوا لما يحييهم، أسأل الله -عز وجل- أن يجعل قلوبنا قلوبا واعية للحق قابلة له، وجوارحنا مستسلمة منقادة له، إن ربي على كل شيء قدير.

 

أيها الإخوة في الله: النماذج في كتاب الله -عز وجل- عن أحوال المعرضين عن النصيحة كثيرة جدًّا، ولعلّي أختم بنموذجين؛ نموذج ذكره الله -عز وجل- عن ملك من ملوك الأرض ادعى الإلوهية، وأذل عباد الله، واستحل النساء والذرية، إنه فرعون الطاغية ملك مصر في زمانه، فأرسل الله إليه موسى -عليه السلام- داعيًا وواعظًا وناصحًا ومذكرًا، ولكنّه أصرَّ واستكبر، واستمر على عناده وتكبُّره وطغيانه واحتقاره وسخريته من نبي الله موسى -عليه السلام- (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف:52].

 

بل وازداد بطشه وتنكيله حتى هدَّد بقتل موسى ومن معه، فقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه قام ناصحًا، قام واعظًا مخوفًا مذكرًا (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر:28].

 

واستمر الرجل المؤمن في نصحه وبلاغه ووعظه وتذكيره (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى) عجبًا وكبرًا وطغيانًا وعلوًّا في الأرض (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر:29].

 

فعاود الرجل المؤمن نُصحه ووعظَه وتذكيره من غير يأس ولا ملل (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [غافر: 31- 33].

 

فما كان من فرعون بعد هذه المواعظ والنصائح الممتلئة خوفًا وشفقة وتحذيرًا وحدبًا وحرصًا على إرادة الخير لهم والخوف من أن ينالهم ما ينال المستكبرين المعرضين الصادين عن النصيحة وقبولها ما كان من فرعون إلا قال: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) [غافر: 36- 37].

 

عندها واصل الرجل المؤمن دعوته ووعظه ونصحه لهم؛ لأنه يريد نجاة قومه من أن يحل بهم عذاب الله ونكاله ومقته (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) [غافر: 38- 42].

 

ثم واصل الرجل المؤمن نصحه ووعظه، ولكن تلك المواعظ والنصائح وافقت قلوبًا صادّة وأنفسًا مستكبرة مستبدة، عندها قال ذلك الرجل المؤمن والألم يعصر قلبه وهو يرى قومه لم يستجيبوا لنصحه ولم يأخذوا بوعظه قال تلك الجملة العظيمة التي ذكرها الله -عز وجل- في كتابه: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 44- 46].

 

والنموذج الآخر تلك في تلك المواعظ والنصائح التي دارت بين نوح -عليه السلام- وابنه لما نزل ما نزل بقوم نوح من العذاب، وبداياته قال نوح الأب المشفق الرحيم (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ)، ولكن الابن العنيد لم يستجب لنصح أبيه، وقال (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء)، قال نوح له: (لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ)، فماذا كانت نتيجة عدم قبول الابن لنصيحة أبيه ماذا كانت نتيجة الإعراض؟ (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود:43].

 

هذه -أيها الإخوة الفضلاء- النتائج الوخيمة للإعراض عن نصح الناصحين، والاستجابة لوعظ الواعظين فيها ذكرى لكل من أراد السلامة في دنياه وأخراه، فيها عبرة لكل معتبر.

 

وأما من أراد الله إضلاله فلم تملك له من الله شيئا (وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) [هود: 101].

 

هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال عز من قائل (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا".. اللهم صل وسلم وبارك...

 

 

 

المرفقات

الإعراض عن نصائح المرسلين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات