سورة الكهف

د عبدالعزيز التويجري

2024-02-16 - 1445/08/06 2024-02-25 - 1445/08/15
عناصر الخطبة
1/التوحيد أساس الدين وأصله 2/ما تضمنته سورة الكهف من ترسيخ التوحيد 3/مظاهر الدعوة إلى التوحيد في سورة الكهف 4/من وسائل تثبيت التوحيد

اقتباس

المحافظة على التوحيد والعقيدة تتجلى في الإعراض عن برامج وكتابات ومقاطع تصد عن ذكر الله، وتبث الشهوات وتزرع الشبهات، يثبت التوحيد بالإعراض عن ألعاب ورياضة تعلق القلب والهم والفكر بغير الله، وتعظم أعداء الله، وتوهن في القلب عقيدة الولاء والبراء...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله لا رب غيره ولا إله سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله، تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، التوحيد أساس الدين والملة، ولا عز ولا هناء ولا عدل إلا بإقامة التوحيد، يجلي ذلك آي القرآن وسوره ومحكماته.

 

ألفاظهُ كعقودِ الدرِ ساطعة *** وآيهُ لظلامِ الجهل أقمار

رقت معانيهِ إذ دقت لطائفه *** فأمعنت فيه ألباب وأفكار

 

لا ينتظمُ نظامُ العالم ولا تنحل قضاياه وتنتهي مشكلاته ولا يسعد أفراده إلا بتوحيد الله -جل جلاله-، قولا وعملا واعتقادا وحكماً وتحكيما؛ (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص: 70]، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء: 65].

 

الكهف سورة عظيمة جليلة، تُكرر كلُ جمعةِ، ويُحفظ مطلعها وخاتمتها؛ لتترسخ في القلوب والسلوك معاني التوحيد، ولتَعْصم المسلم من الدجال الأعور الذي يناقض التوحيد ويدعي الربوبية، في صحيح مسلم: "مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ؛ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ"، وعند أبي داود: "مَنْ حَفِظَ خَوَاتِيمِ سُورَةِ الْكَهْفِ؛ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ".

 

سورةُ الكهف تتضمن أعظم دعوةٍ وأعلى مقامٍ وأشرفُ بيانٍ، سورةٌ تقررُ التوحيدَ وتؤصل العقيدةَ في مطلعها وخاتمتِها، في قصصها ودلالاتِها؛ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)[الكهف: 1 - 4].

 

ثم تختم السورة بالتأكيد على التوحيد، وأنه لا يقبل عملُ ولا يرفع إلا بالتوحيد؛ (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف: 110]، وهكذا ينتظم البدء والختام في إعلان الوحدانية لله -جل جلاله-، وإنكار الشرك والأنداد والأهواء.

 

ويتكرر هذا المعنى في قصة أصحاب الكهف، حيث يقول الفتية الذين آمنوا بربهم: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)[الكهف: 14]، وفي التعقيب عليها: (مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)[الكهف: 26]، وفي قصة الجنتين يقول الرجل المؤمن لصاحبه وهو يحاوره: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)[الكهف: 37، 38]، وفي التعقيب عليها: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا)[الكهف: 43، 44]، وفي مشهد من مشاهد القيامة: (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا)[الكهف: 52]، وفي التعقيب على التهكم على الكفار وجزاء من أشرك بالله: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا)[الكهف: 102].

 

سورةُ الكهفِ تضمنت تصحيح منهج العقيدة، وإعلان أنه لا يُحكم إلا بحكم الله؛ (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)[الكهف: 26]، في سورةِ الكهفِ تأكيدٌ لمعاني التوحيد في إنكار من يرجمون بالغيب، ويقولون ما لا يعلمون، ويتخرصون في تدبير الله في كونه ومجريات آياته؛ (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ)[الكهف: 22].

 

سورةُ الكهفِ تُرجِعُ تصحيحَ القيمِ إلى ميزان العقيدة، حيث تُرَد القيمُ إلى الإيمان والعمل الصالح، لا إلى القيم الدنيوية التي تبهر الأنظار وتشتت الأفكار، فكلُ ما على الأرض من زينة إنما جُعل للابتلاء والاختبار، ونهايته إلى فناء وزوال؛ (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا)[الكهف: 7، 8].

 

أيُّ ســرٍّ سِــرُّ ذا القــــرآنِ؟ *** كيفَ أرسى كلَّ ذا البُنيانِ؟

أرسخَ التوحيدَ في أعماقٍ *** أخلصتْ للخالِقِ الرحمنِ

هذَّبَ الأخلاقَ من إنسانٍ *** حرَّرَ الوِجْدانَ من إذعانِ

أنقـــذَ الأحـــــــرارَ من إذْلالٍ *** حطَّمَ الأغلالَ من عُبْدانِ

علّمَ الحكّـــامَ مَعنى العـــــدْلِ *** هدَّمَ الأركانَ من طُغْيانِ

 

الهداية للتوحيد والرشاد لا تُنال بقوةِ الذكاء ولا يثبتُ ببراعةِ الدهاء، التوحيدُ هبةُ من الله يمن به على من يشاء عباده؛ (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا)[الكهف: 17]، فليس للإنسان إلا الدعاء، وملازمة أهل التوحيد والإيمان ويتخذ منهم أخلاء، من غير فتنة بزينة الحياة الدنيا وأهلها الغافلين عن الله؛ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف: 28].

 

المحافظة على التوحيد والعقيدة تتجلى في الإعراض عن برامج وكتابات ومقاطع تصد عن ذكر الله، وتبث الشهوات وتزرع الشبهات، يثبت التوحيد بالإعراض عن ألعاب ورياضة تعلق القلب والهم والفكر بغير الله، وتعظم أعداء الله، وتوهن في القلب عقيدة الولاء والبراء، بهذا يحفظ الانسان دينه وعقيدته وأخلاقه وتعاملاته؛ (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)[محمد: 17].

 

نستغفر الله من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه؛ إن ربي رحيم ودود.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، وصلى الله وسلم على خير خلق الله.

 

أما بعد: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[الكهف: 29]، بهذه العزة وبهذه الصراحة والصرامة، تتجلى قوة الحق في العقيدة، فالحق لا ينثني ولا ينحني، إنما يسير في طريقه قيما لا عوج فيه، قويا لا ضعف فيه، صريحا لا مداورة فيه، (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، تهديد ووعيد على أن العقيدة والتوحيد لا تنحني لأحد، ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه أمام جلال الله وحكمه وشرعه؛ فالله غني عن العالمين.

 

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[الكهف: 103، 104]، لا أحد أخسر عملاً، ولا أضل سعياً، ولا أهون بضاعة، ولا أحقر إنسانا، ممن ضل طريق الهداية والتوحيد، ونافح عن أهل الضلالة والتنديد، وإنما الفوز والنجاح والفلاح لمن أخلص لله في إيمانه وتوكله، وعمل صالحاً وقال: إنني من المسلمين؛ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)[الكهف: 107- 108].

 

اللهم أخلص نياتنا، وأصلح قلوبنا وأعمالنا وذرياتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

 

المرفقات

سورة الكهف.doc

سورة الكهف.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات