سورة الفرقان

 

 

 

 

 

الحمد لله القائل: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: الفرقان هو القرآن العظيم الذي أنزله سبحانه على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وسمي بذلك لأن الله -عز وجل- فرق بين الحق والباطل، والنور والظلام، والكفر والإيمان؛ ولهذا كان جديراً بأن يسمى الفرقان.

وسورة الفرقان هي السورة الخامسة والعشرون في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها سبع وسبعون آية، وهي سورة مكية تعنى بشئون العقيدة، وتعالج شبهات المشركين حول رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وحول القرآن العظيم؛ ومحور السورة يدور حول إثبات صدق القرآن، وصحة الرسالة المحمدية، وحول عقيدة الإيمان بالبعث والجزاء، وفيها بعض القصص للعظة والاعتبار.

ابتدأت السورة بالحديث عن القرآن الذي تفنن المشركون بالطعن فيه، والتكذيب بآياته، فتارة زعموا أنه أساطير الأولين، وأخرى زعموا أنه اختلاق محمد أعانه عليه بعض أهل الكتاب، وثالثة زعموا أنه سحر مبين؛ فردَّ الله عليهم هذه المزاعم الكاذبة، والأوهام الباطلة، وأقام الأدلة والبراهين لهم على أن هذا القرآن تنزيل رب العالمين.

(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1]، تبارك من البركة وهي كثرة الخير وزيادته، والمعنى: تمجد وتعظم وتكاثر خير الله، الذي أنزل القرآن العظيم الفارق بين الحق والباطل على عبده محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون هذا النبي محمدٌ نبياً للخلق أجمعين، مخوِّفاً لهم من عذاب الله.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [2]، أي: إنه تعالى مالك كل شيء وليس له ولد كما زعم اليهود والنصارى، وليس معه إله كما قال عبدة الأوثان، وأوجد كل شيء بقدرته مع الإتقان والإحكام. وهكذا تمضي الآيات من السورة في الرد على المشركين في أمر القرآن العظيم.

ثم تحدثت السورة عن موضوع الرسالة التي طالما خاض فيها المشركون المعاندون، واقترحوا أن يكون الرسول ملَكاً لا بشراً، وأن تكون الرسالة على فرض تسليم أن الرسول من البشر خاصة بذوي الجاه والثراء؛ فتكون لإنسان غنيٍّ عظيم لا لفقير يتيم.

وقد رد الله تعالى على شبهاتهم بالبرهان القاطع، والحجة الدامغة التي تقصم ظهر الباطل، قال تعالى: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) [7-10].

ثم ذكرت الآيات فريقا من المشركين عرفوا الحق وأقروا به ثم انتكسوا إلى جحيم الضلال، وذكرت منهم عقبة بن أبي معيط الذي أسلم ثم ارتد عن الدين بسبب صديقه الشقي أبي بن خلف، وقد سماه القرآن الكريم بالظالم: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) [27-28]، أي: يا حسرتى وهلاكي! يا ليتني لم أصاحب فلاناً وأجعله صديقا لي! (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي)، أي: لقد أضلني عن الهدى والإيمان بعد أن اهتديت وآمنتُ، ثم قال الله تعالى: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) [29]، أي: يُضِلُّه ويغويه ثم يتبرأ منه وقت البلاء، فلا ينقذه ولا ينصره، وهذا القول ينطبق على كل ظالمٍ.

ولما أكثر المشركون الطعن في القرآن ضاق صدر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وشكاهم إلى الله فقال (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا) [30]، أي: متروكاً، وأعرضوا عن استماعه، قال المفسرون: ليس المقصود من حكاية هذا القول بما قال المشركون؛ بل المقصود منه تعظيم شكايته، وتخويف قومه؛ لأن الأنبياء إذا التجؤوا إلى الله وشكوا قومهم حل بهم العذاب ولم يُمْهَلُوا.

وقال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) [31]، أي: كما جعلنا لك يا محمد أعداء من مشركي قومك جعلنا لكل نبي عدواً من كفار قومه، والمراد تسلية النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتأسي بغيره من الأنبياء، وكفى أن يكون بربك يا محمد هادياً لك، وناصراً لك على أعدائك، فلا تبالِ بمن عاداك.

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) [32]، أي: وقال كفار مكة: هلا أُنْزِلَ هذا القرآن على محمد دفعة واحدة! فرد الله سبحانه: كذلك أنزلناه مفرقاً ليقوى قلبك على تحمله فتحفظه وتعمل بمقتضى ما فيه، وفصلناه تفصيلاً بديعاً، والترتيل في القرآن الترسل والتثبُّت والتمهل.

(وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) [33]، أي: لا يأتيك هؤلاء الكفار بحجة أو شبهة للقدح فيك أو في القرآن إلا أتيناك يا محمد بالحق الواضح، والنور الساطع؛ لندمغ به باطلهم، وأحسن بياناً وتفصيلاً.

ثم ذكر الله تعالى حال هؤلاء المشركين المكذبين للقرآن، فقال: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [34]، أي: يُجَرُّون ويُسْحَبُون إلى النار على وجوههم، وهم شَرُّ الناس منزلا ومصيراً، وأخطأ دينا وطريقاً.

قال ابن القيم -رحمه الله-: هجْرُ القرآنِ أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به.
والثاني: هجر العمل به، وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه.
والرابع: هجر تدبر وتفهم معانيه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب.

وفي ثنايا السورة الكريمة جاء ذكر بعض الأنبياء إجمالاً، وجاء الحديث عن أقوامهم المكذبين وما حل بهم من النكال والدمار نتيجة لطغيانهم وتكذيبهم لرسل الله، كقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط، وغيرهم من الكافرين الجاحدين.

كما تحدثت عن دلائل قدرة الله ووحدانيته، وعن عجائب صنعه وآثار خلقه في هذا الكون البديع، الذي هُمْ أثر من آثار قدرة الله، وشاهد من شواهد العظمة والجلال، ومن ذلك قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) [45-46].

أي: ألم تنظر إلى بديع صنع الله وقدرته كيف بسط الظل ومده وقت النهار حتى يستروح الإنسان بظل الأشياء من حرارة الشمس المتوهجة؟ إذ لولا الظل لأحرقت الشمس الإنسان، وكدرت حياته، ولو أراد الله سبحانه لجعله دائماً ثابتاً في كل مكان لا يزول ولا يتحول، ولكنه بقدرته ينقله من مكان إلى مكان، ومن جهة إلى جهة، وجعل طلوع الشمس دليلاً على وجود الظل، والأشياء إنما تعرف بأضدادها، فلولا الظلمة ما عرف النور، ولولا الشمس ما عرف الظل، [وبِضِدِّها تَتَميَّزُ الأشياءُ]، ثم أزلنا هذا الظل شيئاً فشيئاً لا دفعة واحدة لئلا تختل المصالح.

ومِنْ نِعَمِ الله الفائضة على خلقه قوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا)، أي: كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس بزينته، (وَالنَّوْمَ سُبَاتًا)، أي: راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن أعمالكم، (وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا) [47]، أي: وقتا لانتشار الناس فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسباب رزقهم.

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي أرسل الرياح مبشرة بنزول الغيث والمطر، (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [48]، أي: أنزلنا من السحاب الذي ساقته الرياح ماء طاهراً تشربون منه وتتطهرون به.

(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا)، أي: لنحيي بهذا المطر أرضاً ميتة لا زرع فيها ولا نبات، (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) [49]، أي: وليشرب منه الحيوان والإنسان؛ لأن الماء حياة كل شيء.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) [50]، أي: صرَّفْنا المطر بينهم في البلدان المختلفة فنزيد منه في بعض البلدان ونتقص في بعض آخر منها، وقيل: الضمير راجع إلى القرآن، (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) [50]، أي: أبي الكثير من الناس إلا الجحود والتكذيب.

(وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا) [51]، أي: لو شئنا لخففنا عنك يا محمد أعباء النبوة فبعثنا في كل أهل قرية نبينا ينذرهم، ولكننا خصصناك بالبعثة إلى جميع أهل الأرض إجلالا لك، وتعظيماً لشأنك، مقابل هذا الإجلال والثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهارها.

(فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [52]، أي: فلا تطع الكفار فيما يدعونك إليه من الكف عن آلهتهم، وجاهِدْهُم بالقرآن جهاداً كبيراً بالغاً نهايته لا يصاحبه فتور.

عباد الله: هذا جزء من إيضاح لمعاني بعض آيات سورة الفرقان، أسأل الله أن ينفعنا بها وبما نقول ونسمع، وبهدي كتابه الكريم، وسنة رسوله خاتم الأنبياء المرسلين، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صَلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: عباد الله: استكمالا للحديث عن بعض المعاني الواردة في سورة الفرقان فإن السورة في الجزء الأخير منها أثنت على الله سبحانه وتعالى، (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) [61]، أي: تمجَّدَ وتعظَّمَ الذي جعل في السماء الكواكب العظام المنيرة، وجعل فيها الشمس المتوهجة في النهار، والقمر المضيء بالليل.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً)، أي: يخلف كل منهما الأخر ويتعاقبان، فيأتي النهار بضيائه، ثم يعقبه الليل بظلامه، (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [62]، أي: لِمَن أراد أن يتذكر آلاء الله ويتفكر في بدائع صنعه، ولمن أراد شكر الله على أفضاله ونعمائه.

ثم بينت السورة صفات عباد الرحمن: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) [63]، أي: يمشون على الأرض في لين وسكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم أشراً ويطراً، ولا يتبخترون في مشيتهم (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [63]، أي: إذا خاطبهم السفهاء بغلظة وجفاء قالوا قولا يسلمون به من الإثم، فلا يجهلون على أحد، وإن جهل عليهم تحملوا.

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [64]، أي: يحيون الليل بالصلاة، ساجدين لله على جباههم، أو قائمين على أقدامهم.

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) [65]، أي: يدعون ربهم أن ينجيهم من عذاب النار، ويبتهلون إليه أن يدفع عنهم عذابها؛ فإن عذابها كان لازماً دائماً غير مفارق. (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [66]، أي: بئست جهنم منزلاً ومكان إقامة!.

(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [67]، أي: ليسو مبذِّرِين في إنفاقهم، فإنفاقهم وسطٌ معتدلٌ بين الإسراف والتقتير.

(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ)، أي: لا يعبدون مع الله إلهاً آخر، (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)، أي: لا يقتلون النفس التي حرم الله قتلها إلا بما بحقٍّ تُقتل به النفوس، مِن كُفْرٍ بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو القتل قصاصاً، (وَلَا يَزْنُونَ)، أي: لا يرتكبون جريمة الزنا التي هي من أفحش الجرائم، (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) [68]، أي: ومن يقترف تلك الموبقات العظيمة من الشرك والقتل والزنا يجد في الآخرة النكال والعقوبة.

ثم فسر الله -عز وجل- العقاب بقوله: (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أي: يضاعف عقابه ويغلظ، (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) [69]، أي: يخلد في ذلك العذاب حقيراً ذليلاً أبد الآبدين؛ ثم استثنى الله -عز وجل- من ذلك: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) [70]، أي: إلا من تاب في الدنيا التوبة النَّصُوح وأحسن عمله، (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)، أي: يكرمهم الله في الآخرة فيجعل مكان السيئات حسنات، (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [70]، أي: واسع المغفرة، كثير الرحمة.

ويُثني الله -عز وجل- على من تاب من الذنوب، فيقول سبحانه: (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) [71]، أي: ومَن تاب من المعاصي وأصلح سريرته فإن الله تعالى يقبل توبته، ويكون مرضياً عند الله تعالى.

ثم يكمل الله تعالى صفات عباد الرحمن بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) [72]، أي ولا يشهدون الشهادة الباطلة شهادة الزور التي فيها تضييع لحقوق الناس، (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [72]، أي: إذا مروا بمجالس اللغو، وهي الأماكن التي يكون فيها العمل القبيح، مَرُّوا معرضين مكرمين أنفسهم عن أمثال تلك المجالس.

(وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) [73]، أي: إذا وُعظوا بآيات القرآن وخوفوا بها لم يعرضوا عنها؛ بل سمعوا بآذانٍ واعية، وقلوب وجِلة.

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [74]، أي: اجعل لنا في الأزواج والبنين مسرة وفرحاً بالتمسك بطاعتك، والعمل بمرضاتك، واجعلنا قدوة يقتدي بنا المتقون، دعاة إلى الخير، هداة مهتدين.

ثم ذكر الله -عز وجل- جزاءهم في الآخرة، (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) [75]، أي: أولئك المتصفون بالأوصاف الجليلة السامية ينالون الدرجات العالية من الجنة بصبرهم على أمر الله، وطاعتهم له سبحانه، ويُتلقون بالتحية السلام من الملائكة الكرام.

(خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [76]، أي: مقيمين في ذلك النعيم لا يموتون ولا يخرجون من الجنة؛ لأنها دار الخلود، فما أحسنها مقراً، وأطيبها منزلا لمن اتقى الله!.

ثم اختتمت السورة بقوله تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)، أي: قل يا محمد: لا يكترث ولا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم إليه، واستغاثتكم في الشدائد، ثم اختتمت السورة بقوله: (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) [77]، أي: فقد كذبتم أيها الكافرون بالرسل والقرآن فسوف يكون العذاب ملازماً لكم في الآخرة.

أيها الأحبة: نسأل الله أن نكون من عباد الرحمن، وأن يرحمنا برحمته، وأن يتوب علينا ويغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن يدخلنا الجنة مع عباده الصالحين الأبرار، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

وصَلُّوا وسلِّمُوا عباد الله على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.