سورة الصف

مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ حث المسلمين على الجهاد في سبيل الله صفا 2/ موقف بني إسرائيل من دعوتي موسى وعيسى عليهما السلام 3/ تفسير السورة الكريمة 4/ تعريف بها 5/ ملخص لها

اقتباس

سورة الصف سورةٌ مَدَنية عُنِيت بأحكام التشريع، وخاصة عن القتال وجهاد أعداء الله، والتضحية في سبيل الله، وذلك بشجاعة المؤمن وبسالته؛ لأنه يقاتل من أجل هدف عظيم نبيل وهو إعزاز دين الله، وإعلاء كلمته ..

 

 

 

 

 

الحمد لله القائل: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الصف:1]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون! أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- حق التقوى، وستكون خطبتنا اليوم عن سورةِ الصفِّ، السورةِ الحاديةِ والستين في ترتيب المصحف الشريف، وهي أربع عشرة آية، وهي سورة مدنية، بدأت بتنزيه الله في كل الأوقات، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، من كل مخلوقات الله، فهو الغالب الذي لا يُغلَب، الحكيم في أفعاله وأقواله.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) [2]، أي: عظم ذلك! في استفهام للتقريع والتوبيخ، أي: لم تقولون من الخير ما لا تفعلونه؟!.

ثم ذم الله سبحانه ذلك فقال: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [3]، أي: عظم ذلك في المقت -وهو أشد البغض- عند الله أن يحدث منكم ذلك.

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا)، قال المفسرون في نزول هذه الآية: إن المؤمنين قالوا: وددنا أن الله يخبرنا بأحب الأعمال إليه حتى نعمله ولو ذهبت فيه أموالنا وأنفسنا، فلما فرض الجهاد كرهه بعضهم، فنزلت الآية، والمعنى: يصفون أنفسهم عند القتال صفاً، ويثبتون في أماكنهم عند لقاء العدو (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [4]، أي: ملتصق بعضهم إلى بعض، والتراصُّ التلاصق، أي: كأنهم في تراصهم وثبوتهم في المعركة بناء قد رُصَّ بعضُه ببعضٍ، وأُلصِقَ وأحكم حتى صار شيئاً واحداً.

ولما ذكر العقاب بمن خالفها قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي)، أي: أذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين وقت قول موسى -عليه السلام- لقومه لم تؤذونني بمخالفة ما آمركم به من الشرائع التي فرضها الله عليكم، أو تؤذونني بالشتم والانتقاص.

(وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)، أي: مع علمكم بأني رسول الله إليكم، والرسول يُحترم ويعظَّم، ولم يبق معكم شك في الرسالة لما قد شاهدتم من المعجزات التي توجب عليكم الاعتراف برسالتي، ونفيدكم العلم بها علماً يقيناً، (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) أي لما أصروا على الزيغ واستمروا عليه أمال الله قلوبهم عن الهدى وصرفها عن قبول الحق، والزيغ هو العدول عن الحق، (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [5]، أي: لا يهدي كل متصف بالفسق، وهؤلاء من جملتهم.

(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، أي: إني رسول الله إليكم بالإنجيل الذي أنزل إليَّ مُصَدِّقاً لما بين يدي من التوراة؛ لأني لم أتكلم بشيء يخالف التوراة، وهو الكتاب الذي أنزل على موسى -عليه السلام-، بل هي مشتملة على البشارة بي، فكيف تنفرون مني وتخالفوني؟ (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، وأحمد اسم نبينا -صلى الله عليه وسلم-.

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جبير بن مطعم قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب، والعاقب: الذي ليس بعده نبي. وأحمدُ بمعنى أنه أكثر حمداً لله، وأنه يحمد الله بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره.

(فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) [6]، أي: لما جاءهم عيسى بالمعجزات قالوا هذا الذي جاءنا به سحر واضح ظاهر، فرد الله عليهم بقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ)، أي: لا أحد أكثر ظلما منه حيث يفترى على الله الكذب والحال انه يدعي إلى دين الإسلام لله، خير الأديان وأشرفها؛ لأن من كان كذلك فحقه أن لا يفترى على غيره الكذب، فكيف يفتريه على ربه؟ (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [7]، أي: لا يهدي مَن اتَّصف بالظلم، والمذكورون من جملتهم.

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ)، الإطفاء: الإخماد، وأصله في النار، واستعير لما يجري مجراها من الظهور، والمراد بنور الله القرآن، أي: يريدون إبطاله وتكذيبه بأقوالهم الخارجة من أفواههم، المتضمنة للطعن فيه، (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) بإظهاره في الآفاق وإعلائه على الأديان، (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [8]، وذلك لأنه كائن لا محالة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم: "إن الله زوي لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وأن ملك أمتى سيبلغ ما زوي لي".

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [9]، أي: الله الذي أرسل رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- بالهدى وهو القرآن والمعجزات وملة الإسلام، الملة الحق، ليجعله ظاهراً على جميع الأديان، عالياً عليها (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ذلك فإنه كائن لا محالة. قال ابو السعود: ولقد أنجز الله وعده بإعزاز دين الإسلام، بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مقهور بدين الله.

ثم قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [10]، جعل العمل المذكور فيما بعد، وهو الإيمان بالله، والجهاد، بمنزلة التجارة؛ لأنهم يربحون فيه كما يربحون فيها، وذلك بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار.

ثم بين الله سبحانه هذه التجارة التي دل عليها فقال: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)، أي: إن هذه التجارة هي التصديق بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس، وقدم ذكر الأموال على الأنفس لأنها هي التي يبدأ بها في الإنفاق والتجهيز إلى الجهاد، (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [11]، أي: هذا الفعل خير لكم، ولا تجهلون ذلك.

ثم بيَّن سبحانه الجزاء فقال: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [12]، أي: يتجاوز عن ذنوبكم ويدخلكم الجنات، ومساكن طيبة في جنات إقامة، فذلك الفوز هو الفوز الذي لا فوز بعده، والظفر الذي لا يماثله ظفر.

(وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)، أي: خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة: نصر من الله لكم، وفتح قريب يفتحه عليكم، قيل المراد بالفتح فتح مكة، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [13]، أي: وبشر يا محمد المؤمنين بالفتح والنصر، أو بشرهم بالنصر والفتح في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.

ثم حض الله سبحانه المؤمنين على نصرة دينه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ)، أي: دوموا على ما انتم عليه من نصرة الدين، (كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)؟ أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لمــَّا قال لهم عيسى: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)؟ أي: نصرة دينه.

والحواريون هم أنصار المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام-، وخُلَّص أصحابه، وأول من آمن به، (فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ)، أي: آمنت طائفة بعيسى، وذلك أنهم لما اختلفوا بعد رفعه تفرقوا وتقاتلوا، (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ)، أي: قوَّيْنا المحقِّين منهم على المبطلين (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [14]، أي: عالمين وغالبين، وقيل: المعنى فأيدنا الآن المسلمين على الفرقتين جميعاً.

عباد الله: هذه لمحة عن بعض معاني سورة الصف، وسنكمل الحديث عنها في الخطبة الثانية إن شاء الله، أسأل الله أن ينفعنا بها وبكتابه الكريم، وما فيه من الهدى والذكر الحكيم، وسنة نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله، سورة الصف سورةٌ مَدَنية عُنِيت بأحكام التشريع، وخاصة عن القتال وجهاد أعداء الله، والتضحية في سبيل الله، وذلك بشجاعة المؤمن وبسالته؛ لأنه يقاتل من أجل هدف عظيم نبيل وهو إعزاز دين الله، وإعلاء كلمته. وقد ابتدأت السورة الكريمة بعد تسبيح الله وتحميده بتحذير المؤمنين من إخلاف الوعد وعدم الوفاء بما التزموا به.

ثم تناولت موقف اليهود من دعوة موسى وعيسى -عليهما السلام- وما أصابهما من الأذى في سبيل الله، وذلك تسلية للرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما ناله من كفار مكة، وتحدثت السورة عن سنة الله في نصرة دينه وأنبيائه وأوليائه، وضربت المثل للمشركين في عزمهم على محاربة الله بمن يريد إطفاء نور الشمس بفمه الحقير، ودعت السورة المؤمنين إلى التجارة الرابحة، وحرضتهم على الجهاد في سبيل الله بالنفس والنفيس؛ لينالوا السعادة ونصرة الحقِّ والرسولِ -صلى الله عليه وسلم-.

نسأل الله أن نكون ممن ينصر دينه، ويرفع دينه، ويرفع راية التوحيد، ويعلى كلمة الله -عز وجل-.

ألا وإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

وصلُّوا وسلِّموا -عباد الله- على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات

الصف

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات