سورة التغابن

مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ تعريف بسورة التغابن 2/ الإشارة إلى معالجتها لأصول العقيدة 3/ تفسير السورة 4/ أسباب نزول بعض آياتها

اقتباس

ومع أنها مدنية تعني بالتشريع، إلا أن جوها جو السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية، وقد تحدثت السورة الكريمة عن جلال الله وعظمته، وآثار قدرته، حيث بدأت بأن ينزهه سبحانه جميع مخلوقاته التي في سماواته وأرضه عن كل نقص وعيب، فلله الملك وله الحمد اللذان يختصان به، ليس لغيره منهما شيء ..

 

 

 

الحمد لله (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التغابن:1]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، حديثنا اليوم مع سورة التغابن، وهي السورة الرابعة والستون في ترتيب المصحف الشريف، وهي ثماني عشرة آية، وهي سورة مدنية في قول الأكثر، وقيل نزلت بمكة آيات من آخرها.

ومع أنها مدنية تعني بالتشريع، إلا أن جوها جو السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية، وقد تحدثت السورة الكريمة عن جلال الله وعظمته، وآثار قدرته، حيث بدأت بأن ينزهه سبحانه جميع مخلوقاته التي في سماواته وأرضه عن كل نقص وعيب، فلله الملك وله الحمد اللذان يختصان به، ليس لغيره منهما شيء.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)، أي: فبعضُكُم كافر وبعضكم مؤمن، وقدم الكافر على المؤمن لأنه أغلب عند نزول القرآن، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [2]، لا تخفى عليه منكم خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم.

(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ)، أي بالحكمة البالغة، (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)، أي: خلقكم في أكمل صورة، وأحسن تقويم، وأجمل شكل، والتصوير: التخطيط والتشكيل، (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [3]، في الدار الآخرة، لا إلى غيره.

(يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)، أي: ما تخفونه وما تظهرونه، (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [4]، أي: لمكنوناتها، فهو شامل لكل معلوم.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) وهم كفار الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود، والخطاب لكفار العرب (فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) بسبب كفرهم، والوبال: الثقل والشدة، والمراد بأمرهم هنا ما وقع منهم من الكفر والمعاصي، وبالوبال ما أصيبوا به من عذاب الدنيا، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [5]، أي: في الآخرة، وهو عذاب النار.

(ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، أي: تأتيهم رسلهم بالمعجزات الظاهرة، (ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، أي: تأتيهم رسلهم بالمعجزات الظاهرة، (فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)؟ أي: قال كُلٌّ قوم منهم لرسولهم هذا القول، منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر، متعجبين من ذلك، (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا)، أي: كفروا بالرسل وبما جاءوا به، واعرضوا عنهم، ولم يتدبروا فيما جاءوا به، (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) عن إيمانهم وعبادتهم، (وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [6]، أي: غير محتاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له، محمود من مخلوقاته بلسان المقال والحال.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا)، الزعم: هو القول بالظن، يطلق على الكذب، والمعنى: زعم كفار العرب أن لن يبعثوا بعد الموت، ثم أمر الله سبحانه رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن يرد عليهم، ويبطل زعمهم، فقال: (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ)، أي: أقسم بالله سبحانه بأن تبعثوا، أي: تخرجون من قبوركم، ثم تخبرون بذلك إقامة للحجة عليكم، ثم تجزون به، (وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [7]، أي: البعث والجزاء أيسر على الله من الابتداء.

(فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا)، أي: صدِّقوا بالله ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- والقرآن؛ لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلال، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [8]، لا يخفي عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم.

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ)، أي: يوم القيامة، فإنه يجمع فيه أهل المحشر للجزاء، يجمع فيه بين كل عامل وعمله، وكل نبي وأمته، وكل مظلوم وظالمه، (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ)، ذلك أنه يغبن بعض أهل المحشر بعضا، فيغبن أهل الحق أهل الباطل، ويغبن فيه أهل الإيمان أهل الكفر، ويغبن فيه أهل الطاعة أهل المعصية.

ولا غبن أعظم من غبن أهل الجنة أهل النار عند دخول هؤلاء الجنة وهؤلاء النار، فنزلوا منازلهم التي كانوا سينزلونها لو لم يفعلوا ما يوجب النار، فكأن أهل النار استبدلوا بالخير شراً، والجيد بالرديء، والنعيم بالعذاب، وأهل الجنة على العكس من ذلك، يقال: غبنت فلاناً إذا بايعته وشاريته فكان النقص عليه والغلبة، فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ)، أي: نغرفها له ونتجاوز عنه، (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [9]، أي: الظفر الذي لا يساويه ظفر، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [10]، بعد أن ذكر الله حال السعداء ذكر حال الأشقياء الكفار المكذبين، وأنه سيكون بكفرهم دخولهم النار، وخلودهم فيها، وبئس المرجع والمصير لهم!.

(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي: ما أصاب كل أحد من مصيبة من المصائب إلا بقضاء الله وقدره، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)، أي: من يصدق بالله ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما قدر الله عليه يهد قلبه للصبر، والرضا بالقدر، فيسلم لقضاء الله ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. فيطمئن قلبه ويسكن، ويوقن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [11]، أي: لا تخفى عليه خافية.

(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)، أي: هونوا على أنفسكم المصائب، واشتغلوا بطاعة الله وطاعة رسوله، (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي: أعرضتم عن الطاعة، (فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [12]، أي: ليس على الرسول غير ذلك، وقد فعل -صلى الله عليه وسلم-، حيث بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.

(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [13]، أي: هو المستحق للعبادة دون غيره، فوحدوه ولا تشركوا به، فالمؤمنون يفوضون أمورهم إليه، ويعتمدوا عليه لا على غيره، وقد أمر الله سبحانه بطاعته وطاعة رسوله فيما أمر به، ونهى عنه، وحذر الله -عز وجل- من الإعراض عن دعوته.

عباد الله: هذا جزء من معاني سورة التغابن، وسنكمل الحديث عنها في الخطبة الثانية إن شاء الله، وأسأل الله أن ينفعنا بها وبكتابه الكريم، وما فيه من الهدي والذكر الحكيم، وسنة نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبه ورسوله،اللهم صلى وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

عباد الله: استكمالا للحديث عن سورة التغابن نبدأ بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ)، يعني: أنهم يعادونكم ويشغلونكم عن الخير، قيل في سبب نزول هذه الآية إن رجالا من مكة أسلموا وأرادوا أن يهاجروا فلم يدعهم أزواجهم ولا أولادهم، فأمر الله سبحانه رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن يحذَروهم فلا يطيعوهم في شيء مما يريدونه منهم مما فيه مخالفة لما يريده الله، (فَاحْذَرُوهُمْ)، أي: فاحذروا الأزواج والأولاد المتصفين بالعداوة، ثم أرشدهم إلى التجاوز عنهم فقال: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا)، أي: تعفون عن ذنوبهم التي ارتكبوها، وتتركوا التثريب عليها، وتستروها، (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [14]، أي: بالغ المغفرة والرحمة لكم ولهم.

قيل: كان الرجل تثبِّطه أزواجه وأولاده عن الهجرة، فإذا رأى الناس قد سبقوا إليها وفقهوا في الدين، هَمَّ أن يعاقب أزواجه وأولاده، فأنزل الله: (وَإِنْ تَعْفُوا)، والآية تعم، وإن كان السبب خاصاً، ثم أخبر الله سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)، أي بلاء واختبار ومحنة، يحملونكم على كسب الحرام، ومنع حق الله، فلا تطيعوهم في معصية الله، (وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [15] لمن آثر طاعته، وترك معصيته في محبة ماله وولده.

أخرج أحمد وغيره عن بريدة قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المنبر فحملهما واحداً من ذا الشق وواحداً من ذا الشق، ثم صعد المنبر فقال: "صدق الله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌإني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما".

ثم أمر سبحانه بالتقوى والطاعة فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، أي: ما أطقتم وبلغ إليه جهدكم، (وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ)، أي: أنفقوا من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير ولا تبخلوا بها، (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [16]، أي: ومَن يوق شح نفسه فيفعل ما أمر به من الإنفاق فأولئك هم الظافرون بكل خير، الفائزون بكل مطلب.

(إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) فتصرفون أموالكم في وجوه الخير بإخلاص نية، وطيب نفس، (يُضَاعِفْهُ لَكُمْ) فيجعل الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ)، أي: ذنوبكم (وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [17]، يثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة، ولا يعاجل من عصاه بالعقوبة، (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي ما غاب وما حضر، لا يخفي عليه من شيء، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [18]، أي: الغالب القاهر، ذو الحكمة الباهرة، المحكم لخلق الأنبياء.

فختمت السورة بالأمر بالإنفاق في سبيل الله لإعلاء دينه، وحذَّرَت من الشح والبخل، فإن من صفات المؤمن الإنفاق في سبيل الله؛ ابتغاء مرضاة الله، وهو شطر الجهاد في سبيل الله.

عباد الله: هذه بعض معاني سورة التغابن، أسأل الله أن ينفعنا بما جاء فيها من العِبَر والمواعظ، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن ينفعنا بها وبهدي كتابه، وسنة خاتم رسله، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

وصلوا وسلموا عباد الله على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

 

 

 

المرفقات

التغابن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات