سورة البقرة (3) قصة الخلق والابتلاء

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2021-06-11 - 1442/11/01 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/في سورة البقرة كثير من العلوم والمعارف 2/حسن عرض قصة الخلق والابتداء في سورة البقرة 3/فوائد ومواعظ من قصة الخلق في سورة البقرة 4/خطورة الشهوة ووجوب الحذر منها 5/بطلان وفساد نظريات البشر عن بداية الخَلْق

اقتباس

هَذِهِ قِصَّةُ خَلْقِ الْبَشَرِ، وَمَصْدَرُهَا خَالِقُ الْبَشَرِ -سُبْحَانَهُ-، قَصَّهَا عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ لِيَعْلَمَهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ بَعِيدًا عَنْ تَخَبُّطَاتِ الْمَلَاحِدَةِ الْغَرْبِيِّينَ الْمَادِّيِّينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ مُجَرَّدُ حُثَالَةٍ كِيمْيَائِيَّةٍ تَفَاعَلَتْ لِتُصْبِحَ طُفَيْلِيَّاتٍ، ثُمَّ تَطَوَّرَتْ إِلَى حَشَرَاتٍ...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ؛ (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)[السَّجْدَةِ: 7-8]، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ؛ فَهُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ، الْبَرُّ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ هُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وَحُجَّةً عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ الْمَبْعُوثُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَقُدْوَةً لِلْعَامِلِينَ، وَشَاهِدًا عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَالْزَمُوا كِتَابَهُ الْكَرِيمَ؛ فَإِنَّهُ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالسِّرَاجُ الْمُنِيرُ، وَحَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ. مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ نَجَا، وَمَنْ حَادَ عَنْهُ هَلَكَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُكْرِمَ، وَمَنْ عَارَضَهُ قُصِمَ (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)[فُصِّلَتْ: 2 - 4].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَفَانِينُ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَكُنُوزٌ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ، وَأَعَاجِيبُ مِنَ الْقَصَصِ وَالْأَخْبَارِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَأْمُرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقِرَاءَتِهَا، وَيُبَيِّنَ شَيْئًا مِنْ فَضْلِهَا وَمَنْزِلَتِهَا، وَيَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "... اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَمِنْ أَهَمِّ الْمَوْضُوعَاتِ الَّتِي تَنَاوَلَتْهَا سُورَةُ الْبَقَرَةِ قِصَّةُ الْخَلْقِ وَالِابْتِلَاءِ.. تِلْكَ الْقَضِيَّةُ الَّتِي تَهُمُّ كُلَّ إِنْسَانٍ عَاقِلٍ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِهِ. بَلْ هِيَ أَهَمُّ قَضَايَاهُ الَّتِي تَشْغَلُ بَالَهُ، وَقَدْ عَرَضَتْ لَهَا سُورَةُ الْبَقَرَةِ بِأُسْلُوبٍ وَاضِحٍ مَفْهُومٍ، يَفْهَمُهُ الطِّفْلُ الصَّغِيرُ، كَمَا تَفْهَمُهُ الْعَجُوزُ الْأُمِّيَّةُ، فَلَيْسَ فِيهَا تَعْقِيدُ الْفَلَاسِفَةِ، وَلَا طَلَاسِمُ الْبَرَاهِمَةِ، وَلَا رُمُوزُ الْمُتَصَوِّفَةِ، بَلْ وَاضِحَةٌ تَمَامَ الْوُضُوحِ؛ لِيَعْرِفَهَا كُلُّ إِنْسَانٍ فَيَخْتَارَ الْمَصِيرَ الَّذِي يُرِيدُهُ بِأَنْ يَعْمَلَ بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الْكَهْفِ: 49].

 

وَبِدَايَةُ قِصَّةِ الْخَلْقِ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ يُخْبِرُهُمْ بِخَلْقِ الْبَشَرِ وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ؛ (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)[الْبَقَرَةِ: 30]. وَالِاسْتِخْلَافُ هُنَا هُوَ تَمْلِيكُ الْبَشَرِ الْأَرْضَ وَمَا عَلَيْهَا؛ لِيَقُومُوا فِيهَا بِأَمْرِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَيَحْكُمُوا بِشَرْعِهِ، وَيُقِيمُوا دِينَهُ؛ وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- كُلَّ مَا فِي الْأَرْضِ مُسَخَّرًا لِلْبَشَرِ، وَهُوَ مَا أَفَادَتْهُ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَ عَرْضِ قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ، وَهِيَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)[الْبَقَرَةِ: 29].

وَاللَّهُ -تَعَالَى- حِينَ أَخْبَرَ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ أَرَادَ تَعْرِيفَهُمْ بِفَضْلِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ، "وَلِيَكُونَ كَالِاسْتِشَارَةِ لَهُمْ تَكْرِيمًا لَهُمْ... وَلِيَسُنَّ الِاسْتِشَارَةَ فِي الْأُمُورِ، وَلِتَنْبِيهِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا دَقَّ وَخَفِيَ مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِ آدَمَ".

 

وَاسْتَفْهَمَ الْمَلَائِكَةُ مُتَعَجِّبِينَ (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)[الْبَقَرَةِ: 30].

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَلِمُوا ذَلِكَ مِمَّا رَأَوْهُ مِنْ طَبِيعَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَكَوْنِهِ ذَا كَسْبٍ وَإِرَادَةٍ، وَفِيهِ شَهْوَةٌ وَغَضَبٌ وَعَقْلٌ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ، يَنْظُرُ مَا هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)؛ أَيْ: لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ غَضَبِهِ وَشَهْوَتِهِ.

 

وَلَكِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى-بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ- يَعْلَمُ أَنَّ خَلْقَ الْبَشَرِ وَاسْتِخْلَافَهُمْ فِي الْأَرْضِ سَيَكُونُ فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَحَاسِنِ وَالْخَيْرِ أَكْثَرُ مِنَ الْأَضْرَارِ وَالْمَسَاوِئِ وَالشَّرِّ، وَمِنْ ذَلِكَ تَوْحِيدُ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَالْعُبُودِيَّةُ لَهُ -سُبْحَانَهُ-، وَحَمْلُ دِينِهِ وَتَبْلِيغُهُ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَالْحُكْمُ بِشَرِيعَتِهِ، وَذَلِكَ يَرْبُو عَلَى الْإِفْسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 30]؛ "أَيْ: مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ جَدَارَةِ هَذَا الْمَخْلُوقِ بِالْخِلَافَةِ فِي الْأَرْضِ".

 

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)[الْبَقَرَةِ: 31] وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَا يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَتَعَلَّمَهَا لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيمِ، وَهَذِهِ فَضِيلَةٌ فِي الْبَشَرِ خَصَّهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِهَا. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الَّتِي اكْتَسَبَهَا الْبَشَرُ عَبْرَ الْقُرُونِ كَمًّا وَكَيْفِيَّةً بَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَكُلُّ جَدِيدٍ مِنَ الْمَعْرِفَةِ أَوِ الصِّنَاعَةِ دَلِيلٌ عَلَى سُرْعَةِ الْبَشَرِ فِي التَّعَلُّمِ وَاكْتِسَابِ الْمَعْرِفَةِ، بِمَا وَهَبَهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنْ عُقُولٍ. كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنَوُّعُ اللُّغَاتِ الْبَشَرِيَّةِ؛ فَهِيَ مِنَ الْكَثْرَةِ بِمَا يَعِزُّ عَلَى الْحَصْرِ مَعَ أَنَّ أَصْلَ الْبَشَرِ وَاحِدٌ، وَلُغَتَهُمْ كَانَتْ وَاحِدَةً، وَلَكِنَّ سُرْعَةَ التَّعَلُّمِ جَعَلَتْهُمْ يُبْدِعُونَ مِنَ اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ لُغَاتٍ عِدَّةً حَتَّى بَلَغَتْ مَا يَقْرُبُ مِنْ سَبْعَةِ آلَافِ لُغَةٍ.

 

(ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الْبَقَرَةِ: 31]؛ "أَيْ: فِي زَعْمِكُمْ أَنِّي أَسْتَخْلِفُ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ سَفَّاكِينَ لِلدِّمَاءِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَيْهِمْ، وَبَيَانُ أَنَّ فِيمَنْ يَسْتَخْلِفُهُ مِنَ الْفَوَائِدِ... مَا يَسْتَأْهِلُونَ لِأَجْلِهِ أَنْ يُسْتَخْلَفُوا" وَهَذَا امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- لِلْمَلَائِكَةِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-؛ لِيَرَوْا عَجْزَهُمْ، وَيُدْرِكُوا الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ، وَسُرْعَةِ تَعَلُّمِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلْأَسْمَاءِ حِينَ عُلِّمَهَا؛ وَلِذَا بَادَرَ الْمَلَائِكَةُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- بِعُبُودِيَّةِ الِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 32]. وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الِاسْتِسْلَامُ الْكَامِلُ لِلَّهِ -تَعَالَى- فِيمَا عَلِمَ حِكْمَتَهُ وَفِيمَا لَمْ يَعْلَمْهَا، فَعَدَمُ عِلْمِهِ بِهَا لَا يَعْنِي أَنَّهَا مَنْفِيَّةٌ، بَلْ أَفْعَالُ اللَّهِ -تَعَالَى- كُلُّهَا لَهَا عِلَلٌ وَحِكَمٌ لَا يَعْلَمُ الْخَلْقُ مِنْهَا إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- إِيَّاهُ.

 

(قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ)[الْبَقَرَةِ: 33]. أَيْ: أَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ الَّتِي عَرَضَهَا اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَى الْمَلَائِكَةِ؛ فَعَجَزُوا عَنْهَا (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ)[الْبَقَرَةِ: 33]. تَبَيَّنَ لِلْمَلَائِكَةِ فَضْلُ آدَمَ عَلَيْهِمْ؛ وَحِكْمَةُ الْبَارِي وَعِلْمُهُ فِي اسْتِخْلَافِهِ فِي الْأَرْضِ (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 33]. وَحِينَ عَلِمَ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ وَأَذْعَنُوا؛ أَكْرَمَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَصْلَ الْبَشَرِ فَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ؛ تَحِيَّةً لَهُ، وَعُبُودِيَّةً لِلَّهِ -تَعَالَى-، فَامْتَثَلَ الْمَلَائِكَةُ وَعَصَى إِبْلِيسُ؛ حَسَدًا لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَتَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ، فَكَانَ الْحَسَدُ وَالْكِبْرُ أَوَائِلَ الذُّنُوبِ (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 34].

 

"وَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَفَضَّلَهُ؛ أَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ؛ بِأَنْ خَلَقَ مِنْهُ زَوْجَةً لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، وَيَسْتَأْنِسَ بِهَا، وَأَمَرَهُمَا بِسُكْنَى الْجَنَّةِ، وَالْأَكْلِ مِنْهَا رَغَدًا؛ أَيْ: وَاسِعًا هَنِيئًا"(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)[الْبَقَرَةِ: 35]، وَالنَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ كَانَ امْتِحَانًا لِآدَمَ وَزَوْجِهِ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-ُ، وَمَا زَالَ الشَّيْطَانُ بِهِمَا حَتَّى زَيَّنَ لَهُمَا الْأَكْلَ مِنْهَا (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)[الْبَقَرَةِ: 36].

وَبِهَذَا كُتِبَ الِابْتِلَاءُ عَلَى الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ أَطَاعَ الرَّحْمَنَ نَجَا وَفَازَ، وَمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ خَسِرَ وَخَابَ.

 

اللَّهُمَّ أَعِذْنَا مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ، وَاكْفِنَا شَرَّ عَدَاوَتِهِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَى أَنْ نَلْقَاكَ وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا.

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَانَ دَافِعُ آدَمَ لِلْمَعْصِيَةِ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الشَّهْوَةَ، فَتَسَلَّلَ الشَّيْطَانُ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِهَا، وَهَذَا يُبَيِّنُ خُطُورَةَ الشَّهْوَةِ، وَقُدْرَةَ الشَّيْطَانِ عَلَى التَّسَلُّلِ مِنْ خِلَالِهَا لِبَنِي آدَمَ لِإِغْوَائِهِمْ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْلَمُ مِنَ الضَّعْفِ أَمَامَ شَهْوَتِهِ، فَإِذَا وَقَعَ فِي الْحَرَامِ شُرِعَتْ لَهُ التَّوْبَةُ لِتَمْحُوَ أَثَرَ الْمَعْصِيَةِ؛ وَلِذَا بَادَرَ آدَمُ وَحَوَّاءُ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَتْ تَوْبَتُهُمَا تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- لَهُمَا بِكَلِمَاتٍ تَلَقَّاهَا آدَمُ مِنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 37].

وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّاهَا آدَمُ وَحَوَّاءُ هِيَ: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، وَهُوَ اسْتِغْفَارٌ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ؛ فَبِسَبَبِهِ تَابَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَى الْأَبَوَيْنِ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-. ثُمَّ انْقَسَمَ بَنُو آدَمَ إِلَى طَائِفَتَيْنِ؛ أَتْبَاعِ أَبِيهِمْ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي التَّوْبَةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَتْبَاعِ عَدُوِّهِمُ الشَّيْطَانِ فِي الِاسْتِكْبَارِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَكُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا سَيَلْقَى جَزَاءَهُ عِنْدَ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهُوَ مَا خُتِمَتْ بِهِ قِصَّةُ خَلْقِ الْبَشَرِ وَابْتِلَائِهِمْ وَمَصِيرِهِمُ الَّتِي عُرِضَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 38-39].

 

وَبَعْدُ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: فَهَذِهِ قِصَّةُ خَلْقِ الْبَشَرِ، وَمَصْدَرُهَا خَالِقُ الْبَشَرِ -سُبْحَانَهُ-، قَصَّهَا عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ لِيَعْلَمَهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ بَعِيدًا عَنْ تَخَبُّطَاتِ الْمَلَاحِدَةِ الْغَرْبِيِّينَ الْمَادِّيِّينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ مُجَرَّدُ حُثَالَةٍ كِيمْيَائِيَّةٍ تَفَاعَلَتْ لِتُصْبِحَ طُفَيْلِيَّاتٍ، ثُمَّ تَطَوَّرَتْ إِلَى حَشَرَاتٍ، ثُمَّ إِلَى حَيَوَانَاتٍ صَغِيرَةٍ، ثُمَّ إِلَى قِرْدٍ ثُمَّ إِلَى إِنْسَانٍ، وَهِيَ نَظَرِيَّاتٌ ثَبَتَ بُطْلَانُهَا بِالْقُرْآنِ الْمُحْكَمِ وَبِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ؛ مِنْ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَخَلَقَ مِنْهُ زَوْجَهُ، وَمِنْهُمَا تَنَاسَلَ الْبَشَرُ. فَأَيُّ الْفِكْرَتَيْنِ تُكْرِمُ الْإِنْسَانَ وَأَيُّهُمَا تُهِينُهُ وَتَحُطُّ مِنْ قَدْرِهِ: حَقِيقَةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الَّتِي تُثْبِتُ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَحَلَّاهُ بِالنُّطْقِ، وَكَمَّلَهُ بِالْعَقْلِ، وَعَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَاسْتَخْلَفَهُ فِي الْأَرْضِ لِيُعَمِّرَهَا، وَيُقِيمَ شَرْعَ اللَّهِ -تَعَالَى- فِيهَا. أَوْ نَظَرِيَّةُ مَنْ يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ مُجَرَّدَ حُثَالَةٍ كِيمْيَائِيَّةٍ تَفَاعَلَتْ وَتَطَوَّرَتْ مَعَ الزَّمَنِ حَتَّى أَصْبَحَتْ بَشَرًا سَوِيًّا، ثُمَّ تَنْتَهِي بِلَا هَدَفٍ وَلَا غَايَةٍ؟! (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الْمُلْكِ: 14].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

المرفقات

سورة البقرة (3) قصة الخلق والابتلاء.doc

سورة البقرة (3) قصة الخلق والابتلاء - مشكولة.doc

سورة البقرة (3) قصة الخلق والابتلاء - مشكولة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات