أ.د. إسماعيل علي محمد
الحمد لله حقَّ حمدِه، والصلاة والسلام على محمد رسولِه وعبدِه، وعلى آله وصحبِه، وبعد:
إن كون الشريعة الإسلامية ربانيةَ المصدر يجعل من اليسير الخضوعَ لها، والانقيادَ لتعاليمها وقوانينها، انطلاقًا من شعور داخليٍّ في نفس الإنسان يحمله على احترام كل ما هو آتٍ من جهة الشرع والدين من أحكام ونظُم؛ حيث إن سلطان الدِّين ورقابته على النفس أقوى من أي سلطان كان، هذا بعكس النُّظم أو القوانين الوضعية؛ إذ إنها لا تملِك سلطانًا على النفوس كذلك الذي تملِكه النظم المنبثقة من شرع الله، بل كثيرًا ما يتبرم الناس منها، ويَضِيقون بها، ويحتالون في الالتفاف عليها، والتملص منها، والأمثلة على هذا في حياة البشر تكاد لا تحصى.
لنأخذ مثلًا مِن حياتنا المعاصرة، وهو حال الناس في الخضوع والانقياد لنظام الضرائب الذي تفرضه القوانين الحديثة، وحالهم في الخضوع والانقياد لنظام الزكاة الذي شرعه الله رب العالمين، على نحو ما هو معروف في النظام الإسلامي، فلَسَوْفَ نجد الناس حيال نظام الضرائب ضائقة، وغالبيتهم تحاول الالتفاف عليه والتملص منه، مع وجود العقوبات القانونية على هذا المسلك، ومن يُعطِي شيئًا بموجبه لا يعطيه إلا عن كُره منه، وما هذا ونحوه إلا بسبب انعدام ثقة الناس فيمن وضع هذا النظام، وفيمن يطبقه، وفيمن يصرفه ويوزعه، فمِن قائل بأنه نظام جائر، ومِن قائل بأنه لا يُصرَف في مظانه الصحيحة، ومِن قائل بأنه لا يُحصل إلا من الضعيف الفقير الذي لا ظهير له، بينما الغنيُّ الحقيقيُّ القادر على الإعطاء هو من يستطيع الحصول على الإعفاء منه، بل وهو مَن يستفيد منه دون البائس الحزين...إلى آخر ما لا يكاد ينتهي مِن التعليلات والمسوِّغات.
لكن لا يحدث شيء من هذا حيال نظام الزكاة، مع أن القائم على جمعها وتحصيلها في أغلب بلاد العالم الإسلامي ليس الحكومات، وإنما جمعيات ومؤسسات أهلية غير حكومية، كما أنه ليس هناك قوانين تعاقب مَن لا يُخرِج زكاةَ ماله المستحقةَ عليه شرعًا، كما هو الحال مع مَن يتهربون مِن الضرائب؛ فالسواد الأعظم من حكومات العالم الإسلامي قد نفضت أيديها من قضية الزكاة وما يتعلق بها، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ومع كل هذا فإن ملايين المسلمين في شتى بقاع المعمورة يسارعون ويسابقون إلى إخراج ما هو مستحق عليهم في أموالهم، طيبةً به نفوسهم، منشرحة به صدورهم، بل ترى كثيرًا منهم يَزيدون على المقدار المفروض عليهم، فيتصدقون تطوعًا، رغبة فيما عند الله من الأجر والمثوبة، وما هذا الانصياع والخضوع لهذا النظام إلا لِما وقر في قلوب المسلمين من الإيمان بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، وما يتفرع عن هذا الإيمان من رضا بما شرع الله، ومِن جملة ما شرعه سبحانه نظام الزكاة، فكان لهذا الإيمان سلطانه الذي لا يخفى.
وفي التاريخ الحديث، في صدر القرن العشرين الميلادي، سنَّتْ أمريكا قانونًا يُحرِّم الخمر ويمنعها منعًا باتًّا، واستُنفِرت كافة الأجهزة والمؤسسات المعنيَّة - من إعلامية، وقضائية، وتنفيذية، وتعليمية، وغيرها - لتطبيق القانون المذكور، والحيلولة دون انتهاكه أو الخروج عليه، فأُنفِقت في سبيل ذلك الملايين، وأُزهِقت عشرات النفوس؛ حيث قُتِل من أجل تنفيذ هذا القانون في الفترة الواقعة بين يناير من سنة 1920 إلى أكتوبر من سنة 1933 مئتا نسمة، وسُجِن نصف مليون، وغُرِّم الجناةُ ما يربو على مليون ونصف مليون جنيه، وصودر من الأملاك ما يساوي أربعمائة مليون جنيه طبقًا للإحصاءات التي أذاعها ديوان القضاء الأمريكي لتلك الفترة.
وكلُّ هذا وغيره من الجهود المضنية لم يَزِد الأمريكان إلا غرامًا بالخمر، وجنونًا بها، حتى اضطروا في نهاية الأمر، وبعد نحو عشر سنين، إلى إباحة الخمر، فصدَر في أوائل شهر ديسمبر من سنة 1933م الإعلان الرسمي في أمريكا بإلغاء قانون التحريم [1].
وحاصل القول أن النتائج التي ظهرت في أميركا عقب تحريم الخمر تتلخص في أنه:
• زالت عن القلوب حرمة القانون، ونشأت نزعةٌ للبغي والتمرد عليه في كل طبقة من طبقات المجتمع.
• لم تتحقَّقِ الغاية المقصودة من تحريم الخمر، بل زاد استعمالها بعد التحريم على ما كان عليه قبله.
• تجشَّمت الحكومة خسائر لا تحصى في تنفيذ قانون التحريم، ومثلها أيضًا أصاب الشعب الأميركي لاشترائه الخمر خفية، فتأثرت بذلك اقتصاديات البلاد.
• كثرت الأمراض، واختلَّت الصحة، وازدادت نسبة الوفَيَات، وفسدت الأخلاق، وشاعت الرذائل، وتفاحشت الجرائم في جميع طبقات المجتمع، وعلى الأخص في الجيل الناشئ [2].
ولا ريب أن بشرية قانون تحريم الخمر المشار إليه جعلته عاريًا عن القوة الذاتية، التي كان يمكن أن تَحمِلَ الأمريكان على الانصياع له والالتزام به، وهيهات أن تحظى قوانين البشر وأنظمتهم بمثل ما تحظى به التشريعات الإلهية، مِن استنادها على سلطان الدين والعقيدة، الذي يحفز صاحبَه ويحمله على فعل الخير والإقلاع عن الشر، مهما تحمل في سبيل ذلك من المصاعب، وبذَلَ من التضحيات، فلا عجب إذا رأينا الأمريكان قد انفلت زمامهم، ولم تكن توجد قوة تسيطر عليهم، فتكبح عن الشر جماحَهم، وتلزمهم جادة الصواب.
وهذه صورة أخرى مغايرة لما سبق، تؤكِّد على قيمة وأهمية ربانية الشريعة الإسلامية في نفوس المسلمين، وكيف أن هذه الخاصية لها أثر كبير في الالتزام بتعاليمها، والخضوع لها على الوجه الذي يُرضِي اللهَ عز وجل، تعود إلى نحو أربعة عشر قرنًا من الزمان.
عندما صدر الأمر الإلهي بتحريم الخمر تحريمًا قاطعًا، ووجوب الانتهاء عنها، وذلك في قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [المائدة: 90 - 92].
وما إن سمع المسلمون أمر ربهم حتى انتهوا مِن فورهم، وكان لسان حالهم قبل مقالهم: (انتهَيْنا ربَّنا).
كانت الكؤوس على الشِّفاهِ، فردُّوها ومَجُّوها، وسارعوا إلى إراقة ما تبقى لديهم من خمر وهم الذين عشقوها، وافتتنوا بها دهرًا طويلًا، فلكَمْ زيَّنوا بها المجالس، وقَرَضوا في وصفها الأشعار، واجتمع على شربها الأخلَّاء، وتهادى بها الأصدقاء، وإذا هم يقطعون صلتهم بها دون ضجر أو تردد، كأن لم يكن لهم بها من قبل عهد، ولا كان لها في قلوبهم ذرة من وُد.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه قال: كنت أسقي أبا عبيدةَ بنَ الجراح وأبا طلحة الأنصاريَّ وأُبَيَّ بنَ كعب شرابًا من فَضِيخ [3] وتمر، قال: فجاء آتٍ فقال: إن الخمرَ قد حُرِّمت،فقال أبو طلحة: يا أنسُ، قُمْ إلى هذه الجِرار فاكسِرْها،قال: فقمتُ إلى مِهْراسٍ [4] لنا، فضربْتُها بأسفله حتى تكسَّرت [5].
فهل كان هناك من سلطان غير سلطان الدِّين، والاستسلام لله رب العالمين؟
وهكذا نجد حال الناس مع التشريع الرباني والنظام الوضعي.
[1] يراجع - لمن شاء - هذه الإحصاءات وغيرها بالتفصيل في كتاب: نحن والحضارة الغربية، لأبي الأعلى المودودي، ص 52 وما بعدها، مؤسسة الرسالة - بيروت.
[2] السابق، ص 58 - 59.
[3] الفضيخ: عصير العنب، وشراب يتخذ من بُسْر مفضوخ، ولبن غلبه الماء؛ القاموس المحيط، ص 329، والبُسر: هو التمر قبل إرطابه؛ السابق ص 446.
[4] المِهْراس: الهاوون، وحجر منقور يتوضأ منه؛ القاموس المحيط. ص 749.
[5] رواه مالك في الموطأ ك الأشربة ب جامع تحريم الخمر 2 /846 - 847 رقم 13، والبخاري في ك الأشربة ب نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر، فتح الباري 10 /40 رقم 5582، ومسلم في ك الأشربة بـ تحريم الخمر، مسلم بشرح النووي 13 /151 رقم 1980.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم