اقتباس
لقد كان هؤلاء الربانيون الذين يبايعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه البيعة ولا يرتقبون من ورائها شيئا إلا الجنة، ويوثقون هذا البيع فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين بل كانوا مستيقنين أن قريشاً ورائهم وأن العرب كلها...
إن من أخص خصائص الشخصية الربانية أن تكون الدنيا في يده لا في قلبه، ولذا لا تراه يتطلع لدنيا من وراء الدعوة، ففي إطار الحرص على بيان أن المستقبل والتمكين لهذا الدين وفي إطار الحرص على غرس الثقة بالنصر في نفوس المستضعفين من أبناء هذه الدعوة المباركة يجب ألا نربط قلوب الدعاة بشيء من الدنيا ينالونه في مستقبل الأيام، بل يجب أن لا ترتبط النفوس إلا بالله والدار الآخرة والنبي صلى الله عليه وسلم – أكبر قائد تربوي في تاريخ البشرية – كان يدرك هذا جيدا، وقد ربط الأعمال بالآخرة وحدها في كثير من المناسبات والأحاديث ، فمن ذلك:
أن عثمان - رضي الله عنه - عندما حوصر أشرف عليهم وقال أنشدكم بالله ولا أنشد إلا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «من حفر رومة فله الجنة». فحفرتها ألستم تعلمون أنه قال «من جهز جيش العسرة فله الجنة». فجهزته قال فصدقوه بما قال (1)، وعن سهل بن سعد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة»(2)، وعن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه قال «من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة». فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضا فقال «من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة». فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لصاحبيه «ما أنصفنا أصحابنا»(3) (4)، وقال عثمان- رضي الله عنه - عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم إنكم أكثرتم – يقصد كثرة الكلام في الإنكار على ما فعله - وإني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: «من بنى مسجداً - قال بكير حسبت أنه قال - يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة» (5)، وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه – قال صلى الله عيه وسلم: «إن للجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله ولولا أن أشق على المؤمنين ولا أجد ما أحملهم عليه ولا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا بعدي ما قعدت خلف سرية ولوددت أني أقتل ثم أحيا ثم أقتل» (6).
ولهذه الأحاديث وغيرها تعلقت قلوب المؤمنين بالآخرة ، ودارت أسئلة الصحابة حول ما يضمن لهم الجنة والفلاح وقد ورد ذلك صريحا في أسئلة كثيرة، من ذلك ما جاء من حديث وفد عبد قيس: فمرنا بأمرٍ فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة (7)، ومنها ما جاء عن أبي أيوب أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم-: أخبرني بعمل يدخلني الجنة (8) وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أعرابياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة (9)، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم». قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: «الجنة». قالوا: ربح البيع، لا نُقِيل ولا نستقيل فنزل (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ)[ التوبة: 111] (10).
لقد كان هؤلاء الربانيون الذين يبايعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه البيعة ولا يرتقبون من ورائها شيئا إلا الجنة، ويوثقون هذا البيع فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين بل كانوا مستيقنين أن قريشاً ورائهم وأن العرب كلها سترميهم.
فعن جابر رضي الله عنه قال: مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين، يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة، وفي المواسم بمنى يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة ؟» حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر - كذا قال – فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله نبايعك؟ قال : «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة»، قال : فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده ابن زرارة وهو من أصغرهم - فقال: رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم ، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جَبِينَةً فبينوا ذلك، فهو عذر لكم عند الله. قالوا: أمط عنا يا سعد! فو الله لا ندع هذه البيعة أبدا ولا نسلبها أبدا . قال: فقمنا إليه فبايعناه ، فأخذ علينا وشرط : ويعطينا على ذلك الجنة (11).
فقد كان الأنصار إذن يعلمون عن يقين واضح تكاليف هذه البيعة، وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئا في هذه الحياة الدنيا – حتى ولا النصر والغلبة – وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة ..
وقد ذكر ابن أبي الدنيا من آداب العلماء قال: ومن آدابهم نزاهة النفس عن شبه المكاسب، والقناعة بالميسور عن كد المطالب، فإن شبهة المكسب إثم وكد الطلب ذل ، والأجر أجدر به من الإثم والعز أليق به من الذل (12).
وقال سفيان بن عيينة: لو أن أهل العلم طلبوه لما عند الله لهابهم الناس ولكن طلبوا به الدنيا فهانوا على الناس (13).
فاليأس مما في أيدي الناس ، والانطلاق من قيود الرغبة والرهبة ، والتخلص من ذل الطمع وشهوة التنعم صفة لازمة للعلماء الربانيين والدعاة إلي الله تعالى فكم ممن حرم الدعوة للحق طمعا في نفع دنيوي، أو بحثا عن رضا من لا ينفع رضاه ولا يضر غضبه، مؤثرا شهوة النفس ومتع الحياة على الصدع بالحق، ولو كان عفيف النفس، راضيا بحظه من الله لتغير أمره ولتبدل حاله.
فاليأس مما في أيدي الناس هو العز والغنى، والطمع فيما عندهم هو الفقر والعنا، ولا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دينارهم ودرهمهم، فإذا فعل استخفوا به، وكرهوا حديثه، وملوه وأبغضوه.
وعندما سئل أهل البصرة: بم سادكم الحسن؟ قالوا: احتاج الناس علمه، واستغنى عن دينارهم .. فقيل : ما أحسن هذا.
قال الشافعي رحمه الله:
أمت مطامعي فأرحت نفسي *** فإن النفس ما طمعت تهون (14)
وما أحسن قول القاضي أبي الحسن الجرجاني لنفسه:
يَقُولُونَ لِي فِيك انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا *** رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمْ هَانَ عِنْدَهُمْ *** وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إنْ كَانَ كُلَّمَا *** بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا
وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي *** وَلَا كُلُّ مَنْ لَاقَيْت أَرْضَاهُ مُنْعِمَا
إذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْت قَدْ أَرَى *** وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
انْهَهَا عَنْ بَعْضِ مَا لَا يَشِينُهَا *** مَخَافَةَ أَقْوَالِ الْعِدَا فِيمَ أَوْ لِمَا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي *** لِأَخْدُمَ مَنْ لَاقَيْت لَكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً *** إذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ *** وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا *** مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا (15).
وقال أبو أيوب السختياني: لا ينبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عما يكون منهم (16).
وعن زيد بن ثابت مرفوعاً إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة» (17).
ولذلك يقول سفيان بن عيينة: ما ازداد الرجل علماً فازداد من الدنيا قرباً إلا ازداد من الله بعداً. وهذا هو الميزان.
وأرسل محمد بن سليمان أمير البصرة إلى حماد بن سلمة يطلب منه الحضور إليه لأجل مسألة وقعت له فأرسل إليه حماد إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدا، فإن وقعت مسألة فأتنا فاسألنا عما بدا لك.
والقصة مشهورة وفيها أن محمد بن سليمان جاء فجلس بين يديه ثم ابتدأ فقال: مالي إذا نظرت إليك امتلأت رعبا؟ فقال حماد: سمعت ثابتا البناني يقول: سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد أن يكثر به الكنوز هاب من كل شيء» (18) والقصة طويلة وفيها أنه عرض عليه أربعين ألف درهما فلم يقبلها لنفسه وأخذ يقسمها ويفرقها (19).
ومن ثم فالربانيون يستحيون من طلب مقابل نظير ما يقدمونه من دعوة وإرشاد وجهاد وخدمة للإسلام والمسلمين.
وكم عشنا قديما بتلك الروح التي عبر عنها الصحابي الجليل شداد بن الهاد: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه ثم قال أهاجر معك فأوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه فلما كانت غزوة غنم النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيا فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال ما هذا قالوا قسم قسمه لك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذه فجاء به إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال ما هذا قال «قسمته لك» قال ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: «إن تصدق الله يصدقك » فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتى به إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أهو هو» قالوا نعم قال «صدق الله فصدقه» ثم كفنه النبي- صلى الله عليه وسلم - في جبته التي عليه ثم قدمه فصلى عليه وكان مما ظهر من صلاته «اللهم هذا عبدك خرج مهاجراًً في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد على ذلك»(20).
وجاء عبد أسود حبشي من أهل خيبر، كان في غنم لسيده، فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح، سألهم: ما تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي، فوقع في نفسه ذكر النبي، فأقبل بغنمه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ماذا تقول؟ وما تدعو إليه؟ قال: «أدعو إلى الإسلام، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وألا تعبد إلا الله» قال العبد: فما لي إن شهدت وآمنت بالله عز وجل، قال: «لك الجنة إن مت على ذلك». فأسلم ثم قال: يا نبي الله، إن هذه الغنم عندي أمانة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «أخرجها من عندك وارمها بـالحصباء فإن الله سيؤدي عنك أمانتك» ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها، فعلم اليهودي أن غلامه قد أسلم، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فوعظهم وحضهم على الجهاد، فلما التقى المسلمون واليهود قتل فيمن قتل العبد الأسود واحتمله المسلمون إلى معسكرهم فأدخل في الفسطاط فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اطلع في الفسطاط، ثم أقبل على أصحابه، وقال: «لقد أكرم الله هذا العبد، وساقه إلى خيبر، ولقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين، ولم يصل لله سجدة قط» (21).
وفي هاتين القصتين فضل احتساب جميع الأجر من الله في الآخرة والعزوف عن كل غرض دنيوي يأتي من وراء الدعوة والجهاد .
صدقوا ما عاهدوا عليه الله، وصدقوا في التجرد لله، وطلب الأجر العظيم منه سبحانه، وأنعم به من تطلع لا يعدله شيء من تكريم الدنيا.
أرادوا الله فشمخت نفوسهم إلى رضوان الله، فترفعوا عن الدنيا حتى قال جابر بن عبد الله: والذي لا إله إلا هو! ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة (22).
فينبغي لنا أن نستفيد من الصحابة في تركهم الدنيا لأجل الآخرة فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يقول: آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع(23) كل ذلك من أجل العلم والدار الآخرة، لذلك سطرت له دواوين السنة خمسة آلاف حديث فهو أكثر من روى الحديث رضي الله عنه.
فيجب علينا أن يكون لدينا حس دعوي نقي مبرأ من شهوة الحصول على منافع شخصية عاجلة.
إن الطابع الذي يغلب على أكثر العاملين للإسلام اليوم يرتدي حلة المطالبة بالحقوق أكثر من أي شيء آخر، إن طابعه العام هو الأخذ، وعلى الآخرين أن يعطوا، ويقدموا، أما الداعية الحقيقي، أو من يغلب عليه الإخلاص والصدق في حسه الدعوي الحقيقي فإن الطابع العام لأنشطته هو العطاء غير المشروط، والعطاء المصحوب بالحرقة على عموم الخلق. وهذا هو شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- إن شعارهم العملي كما أخبر الله عنهم هو: (مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)[ الفرقان: 57، ص: 86 ]. إنهم يدعون الصغير والكبير والشريف والوضيع والغني والفقير، يدعونهم إلى ما فيه صلاحهم في شأنهم الديني والأخروي أولاً وصلاحهم الدنيوي ثانيا.
ومازالت الدعوة الإسلامية تعاني من نقص كبير في تواجد مثل هذه القلوب التي كانت تكثر أيام الرعيل الأول تلك القلوب التي تقول (ما على هذا اتبعتك) فلا تنظر إلى متاع دنيوي طيلة مسيرتها في طريق الدعوة تلك القلوب المتجردة التي لا يهمها على لسان من تكون كلمة الحق مادامت تقال، تلك القلوب المتجردة التي لا تنظر إلى المنصب ولا تتمناه، تلك القلوب المتجردة التي لا يهمها أين تقف في طريق الدعوة، في المؤخرة أم في المقدمة مادامت ثابتة في الطريق تدعوا إلى الله، تلك القلوب المتجردة التي لا تعرف الراحة ولا الملل والضجر وتدعوا كلما انغمست في أعمال الدعوة، تلك القلوب المتجردة التي لا تعمل من أجل عرض من أعراض الدنيا إنما تعمل لإرضاء الله فحسب، تلك القلوب المتجردة التي تقدم عندما يحجم الآخرون، وتثبت عندما يزل الآخرون، وتحلم عندما يحمق الآخرون، وتغفر عندما يخطئ بحقها الآخرون، تلك القلوب المتجردة التي لا تعرف الثأر لنفسها، تلك القلوب المتجردة التي لا تجد للنوم طعماً ألماً على ما يصيب الإسلام والمسلمين.
يقول سيد قطب - رحمه الله -: لقد كان القرآن ينشئ قلوبا يعدها لحمل الأمانة، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء، وتحتمل كل شيء- إلى شيء في هذه الأرض، ولا تنتظر إلا الآخرة، ولا ترجوا إلا رضوان الله، قلوبا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال، بلا جزاء في هذه الأرض قريب. ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة، وغلبة الإسلام، وظهور المسلمين! حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطي بلا مقابل. أي مقابل وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للجزاء, وموعداً للفصل بين الحق والباطل.. حتى إذا وجدت هذه القلوب، وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت، أتاها النصر في الأرض وأئتمنها عليه. لا لنفسها، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة، مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه. وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه (24).
لما انتهى المسلمون من غزوة حنين ظافرين غانمين، وزع النبي - صلى الله عليه وسلم- الغنائم على المسلمين، واهتمَّ خاصة بالمؤلفة قلوبهم ليكون ذلك تثبيتاً لهم على إسلامهم ، ووكل أصحاب الإيمان إلى إيمانهم وإسلامهم ..فتساءل الأنصار في مرارة: لماذا لم يعطهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حظهم من الفيء والغنائم، وأخذوا يتهامسون بذلك ..
فعن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطي من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم قال قائلهم: لقي والله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء. قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد ؟». قال: يا رسول الله ما أنا إلا امرؤ من قومي وما أنا من ذلك. قال: «فاجمع لي قومك في الحظيرة» قال فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. قال: فجاء رجال من المهاجرين فدخلوا وجاء آخرون فردهم فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار قال: فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال: يا معشرالأنصار ما قالة بلغتني عنكم ؟ ووجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف بين قلوبكم قالوا: بلى لله ولرسوله المن والفضل فقال : «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟». قالوا : وبماذا نجيبك يا رسول الله ولله ولرسوله المن والفضل؟ قال: «أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم أتيتنا مكذباً فصدقناك ومخذولاً فنصرناك وطريداً فآويناك وعائلاً فواسيناك. وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا ؟ تألفت قوماً ليسلموا ؟ ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده إنه لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسماً وحظاً. ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرقوا(25).
لقد أكد صلى الله عليه وسلم وهو يربي أصحابه على معان عظيمة أن الحياة الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس: 24]. (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) [النساء: 77].
ومضى - صلى الله عليه وسلم - كذلك يبصرهم ويذكرهم بدورهم ورسالتهم في الأرض، ومنزلتهم ومكانتهم عند الله، وظل - صلى الله عليه وسلم - معهم على هذه الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم ما لهم عند الله، وما دورهم، ورسالتهم في الأرض، وتأثراً بتربيته الحميدة تولدت الحماسة والعزيمة في نفوس أصحابه، فانطلقوا عاملين بالليل والنهار بكل ما في وسعهم، وما في طاقتهم دون فتور أو توان، ودون كسل أو ملل، ودون خوف من أحد إلا من الله، ودون طمع في مغنم أو جاه إلا أداء هذا الدور وهذه الرسالة، لتحقيق السعادة في الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة.
إلا أنه في المقابل فإن القادة والمربين ينبغي عليهم مع هذا الدفع الجيد بأن يكون العمل لله لا يُبتغى من ورائه شيئاً غير الجنه ألا يغفلوا تقديم حوافز دنيوية للعاملين تحفيزاً وتشجيعاً لهم وهذا واضح في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه قال أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ - يعني يوم حنين- «من قتل كافراً فله سلبه»(26). فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم ولقي أبو طلحة أم سليم ومعها خنجر فقال يا أم سليم ما هذا معك قالت أردت والله إن دنا مني بعضهم أبعج به بطنه فأخبر بذلك أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم (27).
وكما هو معروف في تمثيل السرايا وإعطائها جزءاً من الغنيمة: الربع أو الخمس على ما هو معروف تفصيله في غير هذا الموضع، وإنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم كنوع من التحريض على الجهاد في وقت يحتاج فيه إلى تحريضهم على ذلك. لأن هذا القول إنما كان عند انهزام الناس وتفرقهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعند حاجته إلى رجوعهم إليه، ولذلك قتل أبو طلحة بعد سماعه هذا الحافز عشرين رجلا فأخذ أسلابهم وكذا أبو قتادة، وإن كره بعض أهل العلم أن يقاتل أحد على أن له كذا.
فهذا نموذج من الحوافز لابد أن يكون موجودا في الممارسة الدعوية اليومية، فالعمل الدعوي اليوم يعاني أزمة، ونقصا واضحاً في الأداءً، وأحياناً غيابا كاملاً، فهذه الحوافز في أحيان كثيرة تدعو الإنسان إلى العمل، وإلى الجهاد وإلى الدعوة وإلى التضحية والبذل.
فلابد من حوافز للعلماء والمبدعين والمربين والمدرسين والمخترعين والباحثين حوافز لكل أصحاب المواهب تدعوهم إلى ذلك.
ومن أعظم ما يجعل الإنسان قائما بالحق آمراً بالخير ناهياً عن الشر ، ألا يجعل لأحد من أهل الدنيا عليه مِنَّة ، خاصة من أهل الضلالة والغواية ، وأهل السيادة والمال والجاه.
ولقد كان العَالِمُ الحق لا يسأل أحداً من الناس شيئاً من مسائل الدنيا يكون بسؤاله ذلك عليه مِنَّة، ولا يُحَابي بقوله أحداً ولا يجامله.
وما زال أهل العلم من السلف والخلف ، يحذرون من أن تُغْشَى مجالس أهل الرئاسة والسيادة ، إلا بالنصح والإرشاد والدلالة ، مع الصبر على الأذى.
يقول الإمام مالك: أدركت بضعة عشر رجلاً من التابعين يقولون: لا تأتوهم، لأن النفوس تتشوف إلى الدنيا وتركن إليها، فيغلب على الإنسان ترك الحق، ويغلب على قلبه التساهل بالقيام بالحق، بل ربما الإغضاء عن بعض المسائل الظاهرة الجلية، طلباً لمصلحة تُزْعَم ونحو ذلك.
فالعلماء والدعاة ليسوا كغيرهم من سواد الناس، فقد يغلب على أحد من الناس مطمع من الدنيا ويركن إليه، أما العلماء والدعاة فتتعفف نفوسهم ويتجردوا لله سبحانه في أعمالهم.
قال شقيق البلخي رحمه الله: من أراد أن يعرف معرفته بالله فلينظر إلى ما وعده الله، ووعده الناس بأيهما قلبه أوثق، وقال: اتق الأغنياء فإنك متى عقدت قلبك معهم، وطمعت فيهم فقد اتخذتهم ربا من دون الله، وقال: إذا أردت أن تكون في راحة فكل ما أصبت، والبس ما وجدت، وارض بما قضى الله عليك (28).
والإنسان لا يدع الدنيا والمتعة فيها بإطلاق ، ولكنه يكون على يقين أن في غالب الركون إلى مثل ذلك يملك القلب ويأسره ويجعل الإنسان وخاصة أهل العلم بين أمرين لا ثالث لهما:
إما أن ينقلب الميزان لديه، فيرى الباطل حقاً، ولا يرى الحق إلا باطلاً، ويلتمس الأعذار يمنة ويسرة، وتغيب عن قلبه خشية الله، والقيام بأمره، وكل ذلك لو تأمله بتدبر سببه الحظوة والنظر إلى المال والجاه.
وإما أن يعرف الحق من الباطل، لكنه يُهَوِّنُ من جانب الحق، أو يجعله أمراً مرجوحاً ينبغي ألا يصار إليه.
يتبع
هامش:
-----------------------
(1) رواه البخاري رقم (2626) تعليق د. مصطفى ديب البغا
(2) رواه البخاري رقم (6474).
(3) رواه مسلم رقم (1789).
(4) أنصفنا: معناه ما أنصفت قريش الأنصار لكون القرشيين لم يخرجا للقتال بل خرجت الأنصار واحداً بعد واحد، انظر شرح النووي على مسلم (12/146، 147).
(5) رواه البخاري رقم (439).
(6) سنن النسائي بأحكام الألباني رقم (3132)، وقال الألباني حسن الإسناد.
(7) صحيح البخاري رقم (53).
(8) صحيح البخاري رقم (1332).
(9) صحيح البخاري رقم (1333).
(10) انظر فتح الباري (6/ 4) ولم يعزه ابن حجر لأحد، والحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور (4/294) وللحديث شواهد كثيرة قد يتقوَّى بها.انظر تخريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن لعلوي بن عبدالقادر السَّقَّاف ( 1/10)، والروايات التفسيرية في فتح لعبد المجيد الشيخ عبد الباري (1/534).
(11) رواه أحمد ( 3 / 322 ، 323 - 339 ) وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (1/93) هذا إسناد جيد على شرط مسلم ، ولم يخرجوه .
(12) أدب الدنيا والدين ص (98).
(13) الآداب الشرعية لابن مفلح (2/122).
(14) فيض القدير للمناوي (3/70).
(15) طبقات الشافعية الكبرى(3/460).
(16) إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة لابن حجر العسقلاني (23914).
(17) رواه ابن ماجة في سننه رقم (4105) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (950).
(18) قال العراقي في تخريج الإحياء معضل وأورده الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (32)
(19) الآداب الشرعية (2/123).
(20) رواه النسائي رقم (1953) وصححه الألباني انظر سنن النسائي بأحكام الألباني (2/58).
(21) انظر: زاد المعاد (3/323، 324)، السيرة الحلبية (3/39).
(22) الكامل في التاريخ لابن الأثير (1/433).
(23) جزء من حديث رواه البخاري في صحيحه رقم (6087)
(24) في ظلال القرآن تفسير سورة المطففين (6/3862، 3863).
(25) تاريخ الطبري (2/177) وصححه الألباني في فقه السيرة للغزالي ص ( 397)
(26) السلب: السَّلَب وهو ما يأْخُذُه أَحدُ القِرْنَيْن في الحربِ من قِرْنِه مما يكونُ عليه ومعه من ثِيابٍ وسلاحٍ ودابَّة لسان العرب (1/471).
(27) الحديث صححه الألباني انظر صحيح وضعيف سنن أبي داود رقم (2718).
(28) المدخل للعبدري فصل في التعلق بربه والسكون (3 /252).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم