اقتباس
طالت فترة الحصار حتى أن المسلمين قد بنوا البيوت والمتاجر والأسواق حول (رمطة) وفي إشارة على عزمهم الأكيد على فتح المدينة، فلما علم الإمبراطور نقفور فوكاس، أمر بتعبئة سائر جنوده، وجهز جيشًا ضخمًا بقيادة (عمانويل الخصي ) وأمره بالزحف على صقلية في شوال سنة 353هـ، وأمر الأسطول البيزنطي بالتحرك من الثغور الغربية للدولة باتجاه صقلية، واهتزت المنطقة بأسرها لخروج تلك القوات البيزنطية الجرارة.
هذه معركة من أروع المعارك البحرية والتي تشهد بمدى شجاعة وبطولة بحارة الإسلام، وبها من التفاصيل الممتعة والأحداث الشائقة، ما تجعلها واحدة من أساطير الغزوات البحرية.
صقلية تحت حكم الفاطميين:
مر بنا من قبل الحديث من قبل في ملحمة فتح جزيرة صقلية أيام دولة الأغالبة ، وكيف أن هذا الفتح كان عملية طويلة وصعبة استمرت عشرات السنين، حيث لم يستقر المسلمون في صقلية إلا بعد عناء طويل ومشقة عظيمة، وذلك أن أهلها كانوا دائمي الثورة ضد الحكم الإسلامي، وكان لقرب الجزيرة من ثغور الدولة البيزنطية أثر كبير في استمرار الاضطرابات والثورات في تلك الجزيرة الإستراتيجية.
عندما فتح المسلمون صقلية كانت تتبع دولة الأغالبة في إفريقية، وهي بدورها تتبع الخلافة العباسية، وظلت الجزيرة تتبع الأغالبة حتى سنة 304هـ، حيث استطاع الفاطميون العبيديون من الاستيلاء على الجزيرة وبالتالي نقلت تبعيتها للدولة الفاطمية التي تعتبر العدو اللدود والخصم العنيد للخلافة العباسية.
لم يكن الفاطميون أقل اهتمامًا بشئون البحر من الأغالبة، بل الإنصاف يقضي بالقول بأنهم كانوا من أكثر الناس وأكبر الدول عناية بالغزو البحري والأساطيل المقاتلة بعد الدولة الأموية، ويعتبر بناء مدينة (المهدية) سنة 303هـ أول إجراء عمل قام به الفاطميون على طريق السياسة البحرية الواسعة، وكانت (المهدية) تتمتع بموقع استراتيجي خطير، وبنى فيها الفاطميون دارًا لصناعة السفن، ولم تمر سوى سنوات قلائل حتى أصبح للفاطميين أسطول بحري ضخم، اعتقد عليه الفاطميون في تنفيذ سياستهم التوسعية ضد العالم الإسلامي شرقًا حيث الدولة العباسية، وغربًا حيث الدولة الأموية في الأندلس.وابتداءً من سنة 311هـ بدأ الفاطميون في غزو جنوب إيطاليا انطلاقًا من جزيرة صقلية، ولكن بصورة الهجمات الخاطفة التي تعود مثٌقلة بالغنائم، وقد حقق الفاطميون في هذا المضمار نجاحات كبيرة أثارت حفيظة الدولة البيزنطية، خاصة بعد أن بدأت بعض الجمهوريات الإيطالية مثل نابولي وسلرنو في الخضوع للدولة الفاطمية ودفع الجزية.
بدأت الدولة البيزنطية في تقوية أساطيلها البحرية، وقد اعتنى الإمبراطور رومانوس الثاني بالأساطيل والثغور وبالغ في دعمه للقوة البحرية، وأثمرت تلك السياسة الحربية الجديدة للبيزنطيين عن استيلائهم على جزيرة كريت سنة 350هـ بعد أن ظلت تحت الحكم الإسلامي لأكثر من مائة وثلاثين سنة، ثم نجح البيزنطيون في انتزاع جزيرة قبرص من المسلمين سنة 352هـ.
وقد أثارت تلك النجاحات البحرية البيزنطية عزيمة نصارى جزيرة صقلية الذين كانوا يحلمون باليوم الذي يطردون فيه المسلمين من صقلية، وبالفعل بدأ التنسيق بين البيزنطيين والصقليين، وفتح نصارى ثغر طبرمين أبواب قلعتهم للقوات البيزنطية سنة 351هـ فدخلوها، في تلك الأثناء كان الوالي على صقلية من قبل الدولة الفاطمية رجلاً شديد البأس وافر العزم اسمه أبو الحسين الكلبي،وكان الفاطميون يعمدون لاستعمال الأكفاء ذوي المهارات القيادية دون التقيد بالمذهب والعقيدة ، فلم يكن من شرط الولاية عندهم في غالب أحوالهم أن يكون الوالي فاطميا زنديقا مثلهم . فحشد قواته وأسرع قبل أن يمتد العدوان البيزنطي لباقي أجزاء الجزيرة، وضرب حصارًا محكمًا على مدينة (طبرمين) طيلة سبعة أشهر ونصف حتى نجح في افتتاحها سنة 351هـ وطرد البيزنطيين منها، وأطلق عليها اسم (المعزية) نسبة إلى المعز الفاطمي.
استشاط الإمبراطور البيزنطي نقفور فوكاس غضبًا للهزيمة التي لحقت بجنده في صقلية، فأعد أسطولاً كبيرًا شحنه بأربعين ألف مقاتل، ونزل به على مدينة (رمطة) في شرق صقلية، فأتاه نصارى صقلية وانضموا إليه، فأسرع والي صقلية أبو الحسين الكلبي بإعداد أسطول بحري قوي وعهد إلى قادته إلى أمهر بحارة صقلية وهو (الحسين بن عمار)، كما أعد جيشًا بريًا قويًا، وضرب حصارًا بريًا وبحريًا عنيفًا على مدينة (رمطة) في آخر رجب سنة 352هـ.
طالت فترة الحصار حتى أن المسلمين قد بنوا البيوت والمتاجر والأسواق حول (رمطة) وفي إشارة على عزمهم الأكيد على فتح المدينة، فلما علم الإمبراطور نقفور فوكاس، أمر بتعبئة سائر جنوده، وجهز جيشًا ضخمًا بقيادة (عمانويل الخصي ) وأمره بالزحف على صقلية في شوال سنة 353هـ، وأمر الأسطول البيزنطي بالتحرك من الثغور الغربية للدولة باتجاه صقلية، واهتزت المنطقة بأسرها لخروج تلك القوات البيزنطية الجرارة.
استعد ابن عمار لصد الهجوم البيزنطي المزدوج في أوائل سنة 354هـ، وبالفعل اشتبك الفريقان في قتال عنيف جدًا، واستمات المسلمون في قتال البيزنطيين وأبدوا صنوفًا رائعة في الصمود والشجاعة حتى تكسرت كل الهجمات البيزنطية على صخرة المقاومة الإسلامية الصلابة، حتى اضطر البيزنطيون في النهاية للانسحاب من القتال البري بعد أن قتل منهم عشرة آلاف جندي من بينهم القائد (عمانويل) نفسه ومعظم قادته، واقتحم المسلمون رمطة.
انتقل القتال بين الفريقين من البر إلى البحر، عندما ركب البيزنطيون أسطولهم الراسي عند جزيرة (ريو) الموجودة في ممر (مسيني) وهو الممر الفاصل بين جزيرة صقلية وجنون إيطاليا، وكان يطلق المسلمون على هذا الممر اسم (المجاز) لأن الأساطيل المسلمة كانت تجوز منه لغزو جنوب إيطاليا.
اصطدم الأسطولان الإسلامي والبيزنطي عند جزيرة ريو في ممر المجاز، وكما انتصرت الجيوش البرية، حققت الأساطيل البحرية انتصارًا باهرًا على الأساطيل البيزنطية، وشعر البيزنطيون بوطأة الهجوم الإسلامي، فحاولوا الفرار من القتال بالتوغل بحرًا ناحية الشمال، وعندها برزت كتيبة أبطال الإسلام، وكانوا مجموعة بحرية متخصصة في أعمال تخريب سفن الأعداء، وكانوا أشبه ما يكون بمجموعة من الضفادع البشرية.
قامت هذه المجموعة بالغوص تحت سفن البيزنطيين، ثم قاموا بنقبها وتخريبها حتى غرقت بمن فيها، كما قامت مجموعة أخرى باقتحام السفن البيزنطية وإحراقها، وانتهت تلك المعركة الأسطورية بهزيمة ساحقة للأسطول البيزنطي بحيث لم يبق من الأسطول البيزنطي الضخم سوى بضع سفن قلائل.
من روعة الانتصار الذي حققه المسلمون اضطر البيزنطيون إلى طلب الصلح نظير التزامهم بدفع الجزيرة، واضطر إمبراطور بيزنطة للإفراج عن أسرى المسلمين في المشرق حتى يكف مسلمو صقلية عن غزوهم البحري لسواحل بيزنطة وجنوب إيطاليا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم