اقتباس
انطلق الأندلسيون من الإسكندرية في مطلع سنة 212هـ، وقد فكروا سريعًا في العودة للغزو والجهاد في سبيل الله، وقرر قائد الأندلسيين (عمر بن شعيب البلوطي) توجيه دفة سفن المجاهدين إلى جزيرة إقريطش أو كريت، وكانت تتميز بموقعها الاستراتيجي الخطير في الحوض الأوسط للبحر المتوسط، وكان الأندلسيون على دراية كبيرة بمزايا الجزيرة
نجح المسلمون في القرن الأول الهجري في فتح العديد من الجزر الصغيرة في شرق البحر المتوسط ، مثل قبرص ورودس وأرواد، وبسيطرة المسلمين على تلك الجزر تمكنوا من وقف التهديدات البيزنطية لثغور وسواحل الدولة الإسلامية في مصر والشام، حيث كانت تلك الجزر بمثابة جبهات دفاعية متقدمة للدولة الإسلامية، ولكن ظلت جزر الحوض الأوسط والحوض الغربي بعيدة عن سيطرة المسلمين مما أكسب البيزنطيين ميزة التفوق البحري ، وظل اسم البحر المتوسط محتفظا باسم بحر الروم.
ظل الوضع على ما هو عليه خلال القرن الثاني الهجري، خاصة بعدما قامت الدولة العباسية على أنقاض الدولة الأموية سنة 132هـ، واتبعت الدولة العباسية سياسة برية واضحة منذ بداياتها، ولكن مع دخول القرن الثالث الهجري، تطورت الأحداث على المستوى العالمي إذ أخذت القوى العظمى الإسلامية منها والنصرانية في الانحدار، والاتجاه للداخل لمواجهة مشاكلها الداخلية، وفي نفس الوقت برزت العديد من الإمارات الإسلامية، والممالك الصغيرة التي حملت راية الجهاد في سبيل الله ونشر الدعوة الإسلامية شرقًا وغربًا، كما برزت القوة البحرية للدولة الأموية في الأندلس، وخلال تلك النهضة البحرية التي شهدها الحوض الغربي للبحر المتوسط حقق المسلمون عدة فتوحات هامة منها فتح جزيرة كريت أو أقريطش كما تعرف.
وتقع جزيرة كريت في الحوض الأوسط للبحر المتوسط إلى الجنوب الغربي من جزيرة صقلية، وهي كبيرة نوعًا ما، وتتميز بثرواتها الطبيعية وأشجارها الضخمة التي تصلح لصناعة السفن القوية.
بداية فتح كريت:
هناك إجماع بين المؤرخين المسلمين والبيزنطيين والأوروبيين أن الذي فتح جزيرة كريت هم الأندلسيون، ولكن وقع خلاف واسع بين نفس المؤرخين في تحديد ماهية الفاتحين الأندلسيين، وذلك إلى فريقين:
الفريق الأول: يرى أن الذي تولى فتح كريت هم جماعة من أهل الربض القبلي من قرطبة والذين نفاهم أمير الأندلس الحكم بن هشام الأموي [180هـ - 206هـ]. خارج البلاد بعد ثورتهم عليه، وأن هؤلاء الأندلسيين قد وصلوا بسفنهم إلى الإسكندرية واشتركوا في الأحداث المثيرة التي وقعت بالإسكندرية وقتها، ومن الإسكندرية انطلقوا إلى جزيرة كريت وفتوحها سنة 212هـ.
الفريق الثاني: ويرى أن الأندلسيين الذين وفدوا إلى الإسكندرية ليسوا من ثوار الربط القبلي، بل من غزاة البحر المتطوعين الذين كان الغزو حرفتهم ،ويتحركون بحرية كاملة في الحوض الغربي للبحر المتوسط، وقد وفدوا إلى الإسكندرية أيام الشتاء للتزود بالمؤمن والذخائر وبيع الغنائم.
وبالنظر في الأدلة والتواريخ وآراء كل فريق يترجح لدي المحققين رأي الفريق الثاني، وأن الأندلسيين الذين نزلوا بالإسكندرية كانوا من غزاة البحر المتطوعين.
خطوات فتح جزيرة كريت:
كان غزاة البحر الأندلسيون يلجأون إلى موانئ وثغور الشواطئ الإفريقية ومصر والشام في فصل الشتاء، نظرًا لظروف الطقس السيئة وطلبًا للاستراحة والتزود بالمؤمن وبيع الغنائم، وكانت الإسكندرية من أهم ثغور البحر المتوسط التي يلجأ إليها غزاة البحر الأندلسيون. وفي سنة 198هـ رسا أسطول أندلسي مكون من أربعين سفينة على متنها قرابة الأربعة آلاف متطوع أندلسي على شواطئ الإسكندرية، في وقت كانت الأوضاع السياسية في مصر شديدة الاضطراب، والصراع على أشده بين القبائل العربية المقيمة بالإسكندرية وما حولها من بني لحم وبني مدلج وجذام، وحاول والي مصر المطلب بن عبد الله الخزاعي تهدئة الأمور وإصلاح ذات البين عدة مرات ولكنه فشل، وزاد الطين بلة ظهور بؤرة تمرد واضطراب أخرى في منطقة «تنيس» بوسط الدلتا اسمه (عبد العزيز الجروي)، وعصفت الاضطرابات والفتن باستقرار البلاد.
دخل الأندلسيون على خط الأحداث بقوة عندما أراد بعض المتمردين الاستفادة من قوة الأندلسيين لترجيح كفته، غير أن أهل الإسكندرية رفضوا تدخل الأندلسيين في شؤونهم الداخلية وأجبروهم على الانسحاب إلى سفنهم، فحقد الأندلسيون عليهم وتحالفوا مع قبيلة لخم ومع إحدى الطرق الصوفية التي كانت في عداء مع والي الإسكندرية (ابن هلال) وانتهت الفتن بمقتل والي الإسكندرية (ابن هلال) وبعض أهله وذلك سنة 200هـ، بعدها عم الفساد وكثر القتل والنهب، بسبب أتباع الطريقة الصوفية، فتدخل الأندلسيون مرة أخرى وخلعوا الوالي الجديد واستبدوا بالأمر في الإسكندرية وأحكموا سيطرتهم عليها من سنة 200هـ حتى سنة 211هـ. حاول والي مصر عبثًا عدة مرات إخراج الأندلسيين من الإسكندرية ولكنه فشل في كل مرة.
رأى الخليفة العباسي "المأمون" أن يضع حدًا للاضطرابات الداخلية في مصر، فأرسل أمهر قواده «عبد الله بن طاهر بن الحسين» بقوة برية وبحرية كبيرة في سنة 211هـ فقضى على الفتن في بر مصر وهدأت الأوضاع في الفسطاط، وبعدها توجه إلى الإسكندرية لإخراج الأندلسيين منها، فضرب عليها حصارًا محكمًا من البر والبحر، فلم يصمد الأندلسيون سوى أسبوعين فقط لا غير، استسلموا بعدها على أن يخرجوا من الإسكندرية، وبالفعل خرج الأندلسيون في المحرم سنة 212هـ.
الأندلسيون يفتحون الجزيرة:
نستطيع أن نقول أن فترة بقاء الأندلسيين بالإسكندرية والتي زادت عن عشر سنوات كانت نقطة سوداء في حياة هؤلاء المجاهدين، حيث تخلوا عن مهمتهم المقدسة وغايتهم النبيلة في الجهاد في سبيل الله، وهكذا حال المجاهد إذا ركن إلى الدنيا، فقد انغمسوا في الصراع على المناصب واشتركوا في الأحداث المؤسفة، لذلك كان عودتهم إلى ميدانهم المفضل ووظيفتهم الأساسية فاتحة خير عليهم، وعودة على المسار الصحيح مرة أخرى.
انطلق الأندلسيون من الإسكندرية في مطلع سنة 212هـ، وقد فكروا سريعًا في العودة للغزو والجهاد في سبيل الله، وقرر قائد الأندلسيين (عمر بن شعيب البلوطي) توجيه دفة سفن المجاهدين إلى جزيرة إقريطش أو كريت، وكانت تتميز بموقعها الاستراتيجي الخطير في الحوض الأوسط للبحر المتوسط، وكان الأندلسيون على دراية كبيرة بمزايا الجزيرة وثرائها الطبيعي وخصوبة تربتها.
نزل الأندلسيون على شواطئ الجزيرة عند خليج يعرف باسم «خليد سودا» فافتتحوا حصنًا كبيرًا ثم مكثوا فيه فترة لم يتقدموا، وأخذوا في تقوية ذلك الحصن وتدعيم دفاعاته وحفروا حوله خندقًا عميقًا فعرف ذلك الحصن باسم «الخندق» وتحول الحصن بمرور الزمن إلى مدينة كبيرة، وصل اسمها إلينا اليوم معرفًا من الخندق، فهي تعرف باسم (قندية) Candia، وما إن اطمأن المسلمون لحصانة قاعدتهم حتى انطلقوا نحو استكمال فتح باقي مدن وحصون الجزيرة، واستمروا في تلك المهمة حتى سنة 230هـ أي بعد مضي 18 سنة من نزولهم بها.
ثبتت أقدام المسلمين بالجزيرة بعد أن أقبلوا على مصاهرة أهل الجزيرة والتزوج من نسائها، وعن طريق المصاهرة انتشر الإسلام في كريت، ونشأ جيل من المولدين المسلمين، وأصبحت كريت في التقسيم الإدارة للدولة العباسية تابعة لولاية مصر، ونشأت علاقات اقتصادية وتجارية قوية بين كريت ومصر، وأصبحت كريت إحدى المحطات القوية لتمويل أساطيل الدول الإسلامية، وأصبح لديها أسطول قوي بناه الأندلسيون، غزا به المسلمون جزر بحر الأرخبيل وساهم في إحكام سيطرة المسلمين وسيادتهم على الحوض الأوسط للبحر المتوسط.
أيقن البيزنطيون جسامة ضياع جزيرة كريت لصالح المسلمين، وحجم الخسارة التي أصابت الدولة البيزنطية جراء ذلك، فقرروا العمل من أجل استرجاعها، فجهز الإمبراطور ميشيل الثاني أسطولاً كبيرًا سنة 213هـ، أي بعد فتح الجزيرة بعام واحد، ولكن محاولته تلك باءت بالفشل بعد هزيمة قاسية تلقاها أسطوله على يد المسلمين، ولكنه لم ييأس وأعاد الكرة سريعًا ولكن بقوات أكبر وأفضل تسليحًا، وكادت هذه المحاولة أن تنجح في فتح الجزيرة، بعد أن حقق البيزنطيون بقيادة أمير البحر "كراتير" انتصارًا جزئيًا على المسلمين، ولكن المسلمين سرعان ما نظموا صفوفهم في نفس ليلة الهزيمة واستغلوا حالة الغفلة ونشوة الانتصار عند البيزنطيين وهجموا على معسكرهم، وأعملوا سيوفهم في المغرورين، وحولوا الهزيمة إلى انتصار مبين,
وفر "كرايتر" من أرض المعركة ولكن المسلمين قد فطنوا إلى فراره وطارده في البحر حتى أدركوه عند جزيرة (كوس) وقتلوه عندها، وبعدها يأس البيزنطيون في فتح كريت وصرفوا اهتمامهم نحو حماية ثغورهم وشواطئهم من غزوات المسلمين، وإن كانوا لم يفلحوا في ذلك المضمار بالصورة الكافية وظلت هجمات الأساطيل الإسلامية المنطلقة من كريت وصقلية تبث الرعب في سواحل أوروبا الشرقية والغربية على حد السواء، والجدير بالذكر أن غزوة تسالونيكا التي قام بها البطل الكبير ليو الطرابلسي سنة 291هـ كانت بمساعدة كبيرة من مسلمي جزيرة كريت.
ضياع كريت وعبرة التاريخ:
ظل مسلمو كريت لزيادة على قرن من الزمان يشكلون خطرًا جديًا على سواحل الدولة البيزنطية فغزوا جميع ما حول جزيرتهم من جزر صغيرة، وظلت الدولة البيزنطية عاجزة حيال القوة البحرية لمسلمي كريت حتى عهد الإمبراطور رومانوس الثاني، وكان عهده بوابة التفوق البيزنطي على الدولة العباسية، وهو العهد المعروف في تاريخ الدولة البيزنطية بعهد الأسرة المقدونية.
حشد رومانوس الثاني كل طاقاته البحرية من أجل هدف واحد وهو استعادة كريت، وأعد أسطولاً بحريًا هائلاً لم يعرف البحر المتوسط مثيلاً له، إذ بلغ تعداد سفنه ألفي سفينة حربية، و1360 سفينة إمداد وتمويل، بعض تلك السفن كان كبيرًا للغاية لدرجة أنها تحتاج إلى 250 مجدافًا موزعة على أربعة صفوف لتسييرهما، وقد عهد الإمبراطور لقيادة تلك الحملة إلى أمهر قواده والذي سيصبح بعده إمبراطورًا على بيزنطة "نقفور فوكاس" ولهذا الرجل العنيد صولات وجولات مدوية مع العالم الإسلامي، وانطلقت الحملة الجرارة في سنة 350هـ.
عندما رأى مسلمي كريت ضخامة الهجوم البيزنطي استصرخوا ملوك الإسلام المجاورين لهم، فأرسلوا إلى علي بن الأخشيد أمير مصر، وكريت كما قلنا كانت تابعة لمصر وبينهما علاقات وثيقة، فاعتذر ابن الأخشيد لضعفه وقلة حيلته وأبدى عجزه عن نصرة مسلمي كريت، فكتبوا إلى أمير الفاطميين العبيدين على الرغم من العداء الكبير بين الدولتين العباسية التي تتبعها جزيرة كريت، والفاطمية للعبيدية صاحبة العقائد الفاسدة والأفكار الباطنية.عندما وصلت استغاثات مسلمي كريت إلى أمير الفاطميين «المعز الفاطمي» أراد أن يستغل الموقف لصالحه بما يحقق له هدفه الاستراتيجي والذي يسعى له منذ زمن، وهو التدخل في شؤون مصر وإثارة القلاقل فيها تمهيدًا نحو الاستيلاء عليها – وهو ما وقع بالفعل بعد عدة سنوات من تلك الحادثة – فتظاهر (المعز الفاطمي) برغبته في نصرة مسلمي كريت والجهاد في سبيل الله، وكتب إلى أمير مصر (ابن الأخشيد) يحثه فيها على نجدة مسلمي كريت وغوثهم وإرسال الجنود والأساطيل المصرية، ووضح له فيها عن نيته في الاشتراك مع الأسطول المصري في نجدة كريت، وحدد له موضعًا تتجمع فيه الأساطيل المصرية مع الأساطيل الفاطمية وهو (مرسى طنبة) من أرض برقة لقربه من جزيرة كريت وحدد له أيضًا موعدًا لذلك التجمع وهو أول ربيع الآخر سنة 350هـ.
المعز الفاطمي لم يكن يهدف من كل تلك التحركات والمراسلات سوى إثارة الرأي العام داخل مصر ضد الأمير علي بن الأخشيد، فهو يعلم جيدًا أنه لن يرسل شيئًا لضعفه وقلة حيلته، وبالفعل جهر العامة في مصر بالإنكار على أميرهم، وسبوه وشتموه في حين أخذ عملاء الدولة الفاطمية، داخل مصر في بث الدعايات عن غيره المعز الفاطمي، وشوقه إلى الجهاد ودفاعه المسلمين، وكيف أنه سيغامر وحده ضد الأسطول البيزنطي العرمرم من أجل قضايا الأمة الإسلامية، وبالفعل وجدت الدعاية الفاطمية رواجًا عند العامة في مصر، ودعت له المنابر بالنصر على البيزنطيين.
واستكمالاً لخديعة الرأي العام المصري، أرسل المعز الفاطمي أسطولاً صغيرًا لنجدة مسلمي كريت وهو الأسطول الذي لم يستطيع أصلاً أن يقترب من المياه الإقليمية لجزيرة كريت أو يشتبك في أي قتال مع السفن البيزنطية، وانسحب الأسطول الفاطمي دون أي قتال بعد محاولته الاستعراضية لنجدة مسلمي كريت، وبعد أن حقق المعز الفاطمي أهدافه في إثارة القلاقل والفتن بأرض مصر تمهيدًا لدخولها.
أما مسلمو كريت فقد أجمعوا رأيهم على التوكل على الله وحده والاستعانة به ضد عدوهم الكثيف، واستبسلوا في الدفاع عن جزيرتهم طوال الشتاء، ولم ينجح نقفور فوكاس في اقتحام مدينة الخندق إلا بعد شهور طويلة، وبعد هجوم قاسي في غاية الضراوة استبسل فيه مسلمو كريت استبسالاً أسطوريًا، ولكن سقطت المدينة في النهاية وبسقوطها تداعت باقي مدن الجزيرة، وخرب البيزنطيون الجوامع والمساجد والمدارس والآثار الإسلامية، وسبوا النساء، وكان سقوط كريت حدثًا هامًا في تاريخ الصراع الإسلامي البيزنطي، فقد غير دفة الصراع لصالح البيزنطيين مرة أخرى، وتعطلت حركة الجهاد البحري فترة طويلة من الزمان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم