سلسلة ‘معارك غيرت وجه التاريخ‘ (1)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

ويرى بعض المؤرخين المسلمين مثل ابن إياس والمقريزي أن السبب المباشر للمعركة هو استعادة الإسكندرية، ويقال إن الروم قد اجتمعوا عند إمبراطورهم قنسطانز الثاني وقالوا له: أنترك الإسكندرية في أيدي العرب وهي مدينتنا الكبرى؟ لا بد من استرجاعها، فقال: اخرج معكم على أن تبايعوني على الموت، فوافقوا وخرجوا في أسطول ضخم.

 

 

 

 

واحدة من أشهر المعارك البحرية في تاريخ المسلمين والبشرية كلها، وهي أولى معارك المسلمين الضخمة في المجال البحري، ونقطة تحول كبرى في مسيرة العمليات البحرية وحركة الجهاد البحري والفتوحات الإسلامية.

 

وقد اختلف المؤرخون المسلمون والبيزنطيون في تحديد الأسباب الدافعة لحدوث هذا الصدام البحري الضخم بين القوة البحرية البيزنطية بما لها من تاريخ وثقل وخبرة والقوة البحرية الإسلامية الناشئة والتي لم يمر عليها سوى بضع سنوات في العمل البحري، ومنشأ الخلاف يعود للاختلاف على تحديد الطرف المهاجم والطرف المدافع ، وعلى أساسه اختلف المؤرخون، وسوف نعرض لوجهة نظر كل فريق،  مع الترجيح بينهما لتحديد السبب الحقيقي للمعركة التي قدر لها أن تكون أشهر معارك المسلمين البحرية.

 

الفريق الأول: البيزنطيون هم الطرف المهاجم

 

وهذا الذي عليه كثير من المؤرخين من الجانبين الإسلامي والبيزنطي، وكان الدافع للهجوم البيزنطي هو تدمير القوة البحرية الإسلامية الناشئة قبل أن يستفحل خطرها أكثر من ذلك، فلقد حقق المسلمون من سنة 25هـ حتى سنة 34هـ انتصارات بحرية متتالية، فلقد أحبطوا هجوم (منويل الخصى) على الإسكندرية، ثم فتحوا طرابلس، ثم غزوا جزيرة قبرص، وأصبح خطر المسلمين قريبًا من السواحل البيزنطية.

 

وساق هذا الفريق مبررات أخرى تعتبر مترابطة مع المبرر الأول وهي الرغبة في استعادة المستعمرات البيزنطية في مصر والشمال الإفريقي، بعد أن نجح والي مصر عبد الله بن أبي السرح في هزيمة البيزنطيين في "سبيطلة" بتونس، ومن هذه المبررات أيضًا أن الإمبراطور قنسطانز بن هرقل قرر الهجوم على سواحل الشام لمنع المسلمين من التفكير في الهجوم على القسطنطينية.

 

ويرى بعض المؤرخين المسلمين مثل ابن إياس والمقريزي أن السبب المباشر للمعركة هو استعادة الإسكندرية، ويقال إن الروم قد اجتمعوا عند إمبراطورهم قنسطانز الثاني وقالوا له: أنترك الإسكندرية في أيدي العرب وهي مدينتنا الكبرى؟ لا بد من استرجاعها، فقال: اخرج معكم على أن تبايعوني على الموت، فوافقوا وخرجوا في أسطول ضخم.

 

 الفريق الثاني: المسلمون هم الطرف المهاجم

 

وهذا الرأي عليه بعض مؤرخي الإسلام مثل ابن عبد الحكم أقدم من كتب في فتوح مصر ويسوق عدة أدلة تعضد وجهة نظره التي ربما لا تتفق مع التفاوت الكبير بين القوتين البحريتين البيزنطية والإسلامية، من هذه الأدلة:

 

1- اشتراك معاوية وأهل الشام في المعركة مع أهل مصر، مما يؤكد على أن المعركة كانت هجومية وليست دفاعية، وأن المستهدف هو العاصمة القسطنطينية.

 

2- خروج عبد الله بن أبي السرح والي مصر بنفسه على رأس الأسطول الإسلامي، ولم يعهد أن يخرج الوالي إلا في الغزوات الكبرى.

 

3- موقع المعركة يؤكد على صفة الهجومية فيها، إذ وقعت تلك المعركة عند ثغر فونيكس قرب شواطئ ليكيا بآسيا الصغرى، أى قبالة سواحل الدولة البيزنطية، وهذا على الراجح من كلام غالبية المؤرخين المسلمين والبيزنطيين، مع العلم أن بعض المؤرخين أن المعركة قد وقعت عند ثغر فونيكه غرب الإسكندرية.

 

4- هناك فريق من المؤرخين يعتقد أن المسلمين وإن كانوا هم الطرف المهاجم، إلا إن الهدف من الهجوم كان الحصول على مصدر جديد للأخشاب القوية اللازمة لصناعة السفن مثل خشب البلوط الصلد، وخشب التنوب الكيليكي الذي ينمو في آسيا الصغرى، وشجر العرعر الشبيه بشجر الأرز، ويستدل هذا الفريق على كلامه برواية الطبري وفيها «فركب عبد الله بن أبي السرح في مركب وحده ما معه إلا القبط حتى بلغوا ذات الصواري، فلقوا جموع الروم في خمسمائة مركب أو ستمائة» وعليه فإن تسمية موضع المعركة بذات الصواري لكونه مصدرًا لأخشاب تصنع منها الصواري.

 

 

والراجح في المسألة أن البيزنطيين كانوا يخططون لعمل بحري ضخم ضد قوة المسلمين الناشئة في البحر بهدف إحكام السيطرة البيزنطية على البحر، وإجهاض تلك القوة من التنامي لأكثر من ذلك ومنعها من نقل عملياتها البحرية من الحوض الشرقي إلى الحوض الغربي، وهذا يفسر ضخامة الأسطول البيزنطي الذي لم تر بيزنطة مثله من قبل، وأن أخبار الهجوم البيزنطي قد وصلت للمسلمين عبر عيونهم في قبرص وسوريا، فقرروا الخروج بسرعة للقاء الأعداء خارج المياه الإقليمية للسواحل الإسلامية، ومن باب سياسة أن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع، ولعل رواية الطبري المذكورة نفسها توضح هذا الرأي، وفيها أن المسلمين قد خرجوا بسرعة وعلى عجل حتى أن الوالي نفسه عبد الله بن أبي السرح لم يكن في مركبه عند الخروج سوى الأقباط فقط.

 

 أحداث المعركة:

 

خرج المسلمون في مصر والشام في مائتي مركب تحت قيادة والي مصر عبد الله بن أبي السرح لرد العدوان البيزنطي قبل أن يصل إلى السواحل الإسلامية، وكانت مراكب المسلمين وقتها خفيفة ومتوسطة الحجم فوصلت بسرعة  إلى ثغر فونيكس من شاطئ ليكيا إلى الغرب من الدولة البيزنطية، وكان الأسطول البيزنطي راسيًا بها استعدادًا للهجوم المرتقب.

 

ارتاع المسلمون لأول وهلة من ضخامة الأسطول البيزنطي، إذ بلغت أعداد سفنه قرابة الألف سفينة أي خمسة أضعاف أسطول المسلمين، فبدأ عبد الله بن أبي السرح في استشارة الناس، وطرح القضية أمامهم لاتخاذ قرار حاسم، وبعد تفكير ونظر قام أحد القبط الذين دخلوا في الإسلام حديثًا وحمس الناس وطالبهم بالبدء بالهجوم فورًا وقرئ عليهم قوله عز وجل: ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ) [البقرة: 249].

 

استعد المسلمون للقتال على الرغم من قلة عدد سفنهم وقلة الرجال أيضًا، لأن نصف القوات كانت قد خرجت مع بسر بن أرطاة في البر، لذا ركب في كل مركب نصف سكنته، ولنترك المؤرخ الكبير المقريزي ينقل لنا تفاصيل المعركة بصورة دقيقة كأننا نراها فيقول «فلقوهم فاقتتلوا بالنبل والنشاب وتأخر ابن هرقل لئلا تصيبه الهزيمة، وجعلت الأخبار تختلف إليه بالأخبار، فقال: ما فعلوا، قالوا: اقتتلوا بالنبل والنشاب، فقال: غلبت الروم، ثم أتوه فقال: ما فعلوا؟ قالوا: نفذ النبل والنشاب، فهم يرمون بالحجارة، فقال: غلبت الروم، ثم أتوه فقال: ما فعلوا؟ قالوا: نفدت الحجارة وربطوا المراكب بعضها ببعض ويقتتلون بالسيوف، فقال: غُلبت الروم».

 

وصدق ابن هرقل فلقد كان تحويل المعركة البحرية لمعركة برية بربط السفن بعضها ببعض إيذانًا بتفوق المسلمين المعروفين بالبسالة والشجاعة في القتال المباشر، ومن شدة القتال كاد الإمبراطور قنسطانز الثاني نفسه أن يقتل لولا تضحية أحد الجنود البيزنطيين بنفسه لينجو قائده، وقد انتهت المعركة بفوز عالمي وهائل للمسلمين على الرغم من كثرة من قتل من المسلمين إلا أن أعداد قتلى الروم كانت تخرج عن الحصر، حتى أن البحر من موضع المعركة إلى شاطئ ليكيا قد اصطبغ باللون الأحمر من كثرة القتلى.

- نتائج المعركة:

 

لقد كانت موقعة ذات الصواري نصرًا بحريًا رائعًا للمسلمين، وقد وصفها المؤرخ اليوناني فيوفانس بأنها كان يرموكًا ثانيًا على الروم، بل إن بعض المؤرخين يعتبرون ذات الصواري أعظم موقعة حربية شهدها البحر المتوسط منذ معركة أكتيوم البحرية سنة 31 بل الميلاد، وقد تركت أثارًا ونتائج بعيدة المدى على العالم القديم منها:

 

1- انتهاء السيطرة البيزنطية على الحوض الشرقي للبحر المتوسط.

 

2- تغير سياسة الروم تجاه المسلمين، فقد أدركوا عبثية أي محاولات برية أو بحرية لاسترداد مصر والشام، وبالتالي توقفت محاولات الاسترداد الفاشلة.

 

3- تعاظم القوة البحرية للمسلمين بعد ذلك الانتصار العالمي، ولقد استفادت مصر بالأخص من ذلك الانتصار، لأن أسطولها قد تضخم عدة مرات بما غنمه من السفن البيزنطية حتى صار الأسطول المصري أقوى أساطيل البحر المتوسط واعتمد عليه الأمويون كثيرًا في صراعهم ضد الروم.

 

4- حدوث تغير جذري في السياسة الداخلية للدولة البيزنطية تمثل في قيام الإمبراطور قنسطانز الثاني بنقل عاصمة دولته إلى صقلية حتى يمنع هجوم المسلمين على أملاك الدولة البيزنطية في جنوب أوروبا، ومنع تقدم المسلمين البحري نحو الحوض الغربي للبحر المتوسط، وإن كانت تلك السياسة لم تدم طويلاً، إذ لم تحل دون سقوط جزر البحر المتوسط مثل رودوس وأرواد، كما أن أهل صقلية أنفسهم قد ثاروا على قنسطانز الثاني وقتلوه سنة 49هـ.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات