سلسلة فتوح العراق - معركة ذات السلاسل (القتال حتى الموت)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

كان أول وقود المعركة -وكما هو معتاد وقتها أيام الحروب أن يخرج القواد للمبارزة- كان أول الوقود عندما خرج القائد الفارسي (هرمز) لمبارزة القائد المسلم (خالد بن الوليد)، وكان (هرمز) كما أسلفنا شديد الكفر والخيانة؛ فاتفق مع مجموعة من فرسانه على أن يهجموا على (خالد) ويفتكوا به أثناء المبارزة، وبالفعل خرج المسلم للقاء الكافر، وبدأت المبارزة، ولم يعهد أو يعلم عن (خالد بن الوليد) أنه هزم قط في مبارزة طوال حياته قبل الإسلام وبعده، وقبل أن تقوم مجموعة الغدر بجريمتهم الشريرة فطن أحد أبطال المسلمين الكبار لذلك، وهو البطل المغوار (القعقاع بن عمرو)، صنو (خالد بن الوليد) في البطولة والشجاعة؛ فخرج...

 

 

 

 

الأحداث ــ المحرم سنة 12 هجرية

 

أمة الإسلام  أمة جهادية، جعل الله -عز وجل- رزقها تحت ظل رمحها، وجعل الصغار على من خالفها، وهى -أيضاً- أمة خاتم الرسل، وهى مكلفة بنشر الإسلام في ربوع المعمورة، وإزالة كل قوى الكفر و الشر التي تحول دون سماع دعوة الحق، تلك القوى التي تحارب الدعاة لدين الله -عز وجل-، وتضع العوائق والحواجز؛ ليبقى الناس في ظلمات الشرك والجهل، وقد أدرك الصحابة -رضوان الله عليهم- ذلك الأمر تماماً؛ فانطلقوا في ربوع ما علموه من المعمورة يدعون لدين الله، ويحاربون كل قوى الكفر والشر؛ ليرفعوا راية (لا إله ألا الله)، لا يعبد على الأرض سواه، وهذه واحدة من سلسلة طويلة من الفتوحات الإسلامية التي تجلت فيها عظمة المنهج الإسلامي، ومنزلة الصحابة -رضوان الله عليهم-، ودورهم في نشر الدين.

 

 الخليفة أبو بكر وأرض العراق:

 

بعد أن انتهى الخليفة (أبو بكر) من القضاء على حركة الردة الشريرة التي نجمت بأرض العرب، قرر أن يتفرغ للمهمة الأكبر: وهى نشر دين الله بعد أن مهد الجبهة الداخلية، وقضى على هذه الفتنة، وكان (أبو بكر) يفكر في الجبهة المقترحة لبداية الحملات الجهادية عملاً بقوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[التوبة:123]، وكانت الدولة الإسلامية تقع بين فكي أقوى دولتين في العالم وقتها ؛ دولة (الفرس) المجوسية من ناحية الشرق بأرض العراق وإيران، ودولة ( الروم ) الصليبية من ناحية الشمال بأرض الشام والجزيرة، وكان ( أبو بكر ) يفضل الجبهة الشامية على الجبهة العراقية، ولكنه رأى البدء بدولة  ( الفرس )؛ لقوتها و شدة بأسها، وأيضاً؛ لكفرها الأصلي، فهي أشد كفراً من دولة ( الروم ) الذين هم أهل كتاب، وأخيراً استقر رأي الخليفة على البدء بالجبهة العراقية.

 

فبعد أن انتهى القائد الكبير (خالد بن الوليد) من حربه على المرتدين من (بنى حنيفة) –أتباع مسيلمة الكذاب– جاءته الأوامر من الخليفة أبي بكر بالتوجه إلى الأراضي العراقية، مع عدم إكراه أحد من المسلمين على مواصلة المسير معه إلى العراق، ومن أحب الرجوع بعد قتال المرتدين فليرجع؛ فانفض كثير من الجند، وعادوا إلى ديارهم، ليس خوفاً ولا فراراً من لقاء (الفرس)، ولكن تعباً وإرهاقاً من حرب الردة؛ فلم يبقى مع (خالد) سوى ألفين من المسلمين.

 

 وما قام به (أبو بكر) هو عين الصواب والبصيرة الثاقبة؛ فإنه لن ينصر دين الله إلا من كان عنده الدافع الذاتي؛ والرغبة في ذلك، مع الاستعداد البدني والنفسي لذلك فمن تعلق بشواغل الدنيا، أو كان خاطره وقلبه مع بيته وأهله لا يصمد أبداً في القتال، كما أن هذا الجهاد جهاد طلب، وهو فرض كفاية كما قال أهل العلم

 

  العبقرية العسكرية:

 

وضع الخليفة (أبو بكر) خطة عسكرية هجومية؛ تجلت فيها عبقرية (الصديق) الفذة؛ حيث أمر قائده (خالد بن الوليد) أن يهجم على العراق من ناحية الجنوب، وفى نفس الوقت أمر قائداً آخر –لا يقل خبرة عن (خالد بن الوليد) -وهو (عياض بن غنم الفهري) أن يهجم من ناحية الشمال، في شبه كماشة على العدو، ثم قال لهما (من وصل منكما –أولاً- إلى (الحيرة) واحتلها؛ فهو الأمير على كل الجيوش بالعراق؛ فأوجد بذلك نوعاً من التنافس الشريف والمشروع بين القائدين؛ يكون الرابح فيه هو الإسلام.

 

كانت أول مدينة قصدها ( خالد بن الوليد ) هي مدينة ( الأُبًلّة )، -بضم الألف والباء، وتشديد اللام، وهي ميناء البصرة الآن بالعراق-  وكانت ذات أهمية استراتيجية كبيرة، حيث إنها ميناء (الفرس) الوحيد على الخليج العربي، ومنها تأتي كل الإمدادات للحاميات الفارسية المنتشرة بالعراق، وكانت هذه المدينة تحت قيادة أمير فارسي كبير الرتبة اسمه (هُرمز): وقد اشتق من اسمه اسم المضيق القائم حالياً عند الخليج العربي، وكان رجلاً شريراً متكبراً، شديد الكره للإسلام والمسلمين، وللجنس العربي بأسره، وكان العرب بالعراق يكرهونه بشده، ويضربون به الأمثال فيقولون: " أكفر من هُرمز "، "أخبث من هُرمز "، فلما وصل ( خالد ) بالجيوش الإسلامية هناك، وكان تعداد هذه الجيوش قد بلغ ثمانية عشر ألفا بعد أن طلب الإمدادات من الخليفة، أرسل برسالة للقائد ( هرمز )؛ تبين حقيقة الجهاد الإسلامي، وفيها أصدق وصف لجند الإسلام؛ حيث جاء في الرسالة : " أما بعد فأسلم تسلم، أو اعتقد لنفسك ولقومك الذمة، واقرر بالجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك؛ فلقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة".

 

وهذا أصدق وصف لجند الإسلام؛ وهو الوصف الذي جعل أعداء الإسلام يهابون المسلمين، وهي النفحة الغالية التي خرجت من قلوب المسلمين، وحل محلها (الوهن)، الذي قال عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم-أنه سبب في تكالب الأمم علينا، وهم كما عرفه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "حب الدنيا وكراهية الموت ".

 

  حرب الاستنزاف ـ وكيف ترهق عدوك؟

 

(هُرمز) يرفض الرسالة الإسلامية التي تدعوه إلى الإسلام أو الجزية، ويختار بيده مصيره المحتوم، ويرسل إلى كسرى يطلب منه الإمدادات، وبالفعل يرسل كسرى إمدادات كبيرة جداً، ويجتمع عند (هرمز) جيش جرار، عظيم التسليح، ويبني (هرمز) خطته على الهجوم على مدينة (كاظمة) ـوتقع الآن على سيف الخليج العربي بدولة الكويت- ظناً منه أن المسلمين سوف يعسكرون هناك، ولكنه يصطدم أمام العقلية العسكرية الفذة للقائد (خالد بن الوليد).

 

فقد قام ( خالد بن الوليد ) بما يعرف في العلوم العسكرية الحديثة بحرب استنزاف، ومناورات مرهقة للجيش الفارسي؛ فقام (خالد) وجيشه بالتوجه إلى منطقة (الحفير) -منطقة في صحراء العراق الجنوبية بها نهر كبير جف ماؤه-، ودخل ( هرمز) إلى (كاظمة) فوجدها خالية وأخبره الجواسيس أن المسلمين قد توجهوا إلى (الحفير)؛ فتوجه (هرمز) بسرعة كبيرة جداً إلى (الحفير) حتى يسبق المسلمون، وبالفعل وصل هناك قبل المسلمون، وقام بالاستعداد للقتال، وحفر خنادق، وعبأ جيشه، ولكن البطل (خالد) يقرر تغيير مسار جيشه ويكر راجعاً الى مدينة (كاظمة)، ويعسكر هناك ويستريح الجند قبل القتال.

 

تصل الأخبار إلى (هرمز) فيستشيط غضباً، وتتوتر أعصابه جداً، ويتحرك بجيوشه المرهقة المتعبة الى مدينة (كاظمة) ليستعد للصدام مع المسلمين، وكان (الفرس) أدرى بطبيعة الأرض وجغرافية المكان من المسلمين؛ فاستطاع (هرمز) أن يسيطر على منابع الماء بأن جعل نهر الفرات وراء ظهره؛ حتى يمنع المسلمين منه، وصدق الحق عندما قال: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ... ) [البقرة:216]، فقد كان ذلك سبباً لاشتعال حمية المسلمين وحماستهم ضد الكفار، وقال (خالد بن الوليد) كلمته الشهيرة تحفيزا للجند: "ألا انزلوا وحطوا رحالكم؛ فلعمر الله ليصيرن الماء لأصبر الفريقين، وأكرم الجندين".

 

وقبل أن يصطدم (هرمز) – قائد الجيوش الفارسية -مع جيوش المسلمين أرسل بصورة الوضع الى كسرى، الذي قام بدوره بإرسال إمدادات كبيرة يكون دورها الحفاظ على مدينة (الأبلة) في حالة هزيمة (هرمز) أمام المسلمين؛ لأهمية هذه المدينة كما أسلفنا.

 

سلاسل الموت:

 

كان (هرمز) رجلاً متكبراً أهوجاً، لا يستمع إلا لصوت نفسه فقط، حيث رفض الاستماع لنصائح قواده، وأصر على أن يربط الجنود (الفرس) أنفسهم بالسلاسل؛ حتى لا يفروا من أرض المعركة، كناية عن القتال حتى الموت؛ وذلك فقد سميت المعركة بذات السلاسل.

 

والمسلمون أولى بهذا الصبر والثبات؛ لأنهم على الحق والدين، وعدوهم على الباطل والكفر، وشتان بين الفريقين.

 

كان أول وقود المعركة  -وكما هو معتاد  وقتها أيام الحروب أن يخرج القواد للمبارزة-  عندما خرج القائد الفارسي (هرمز)؛ لمبارزة القائد المسلم (خالد بن الوليد)، وكان (هرمز) -كما أسلفنا- شديد الكفر والخيانة؛ فاتفق مع مجموعة من فرسانه على أن يهجموا على (خالد) ويفتكوا به أثناء المبارزة، وبالفعل خرج المسلم للقاء الكافر، وبدأت المبارزة، ولم يعهد أو يعلم عن (خالد بن الوليد) أنه هزم قط في مبارزة طوال حياته قبل الإسلام وبعده، وقبل أن تقوم مجموعة الغدر بجريمتهم الشريرة فطن أحد أبطال المسلمين الكبار لذلك، وهو البطل المغوار (القعقاع بن عمرو)، صنو (خالد بن الوليد) في البطولة والشجاعة؛ فخرج من بين الصفوف مسرعاً، وانقض كالأسد الضاري على مجموعة الغدر فقتلهم جميعاً، وفي نفس الوقت أجهز (خالد بن الوليد) على الخائن (هرمز) وذبحه كالنعاج، وكان لذلك الأمر وقعاً شديداً في نفوس (الفرس)، حيث انفرط عقدهم، وانحل بأقفيتهم، وقتل منهم أكثر من ثلاثين ألفاً، وغرق الكثير في نهر الفرات، وقتل المربطون بالسلاسل عن بكرة أبيهم، وكانت هزيمة مدوية على قوى الكفر وعباد النار، وفر باقي الجيش لا يلوي على شيء.

 

الفزع الكبير: ونصرت بالرعب!

 

لم تنته فصول المعركة عند هذا الحد؛ فمدينة (الأبلة) لم تفتح بعد، وهناك جيوش قوية ترابط للدفاع عنها حال هزيمة جيوش ( هرمز) وقد كانت، ووصلت فلول المنهزمين من جيش (هرمز) وهي في حالة يرثى لها من هول الهزيمة، والقلوب فزعة ووجلة، وانضمت هذه الفلول إلى جيش الفرس المكلف بحماية مدينة (الأبلة)، وأخبروهم بصورة الأمر فامتلأ قلب قائد الفرس  هو الآخر فزعاً ورعباً من لقاء المسلمين، وأصر على الخروج من المدينة للقاء المسلمين خارجها، وذلك عند منطقة (المذار) -وتقع شرق نهر دجلة وعلى بعد 175 كيلو متر من البصرة شمالاً -، وإنما اختار تلك المنطقة -تحديداً- لأنها كانت على ضفاف نهر دجلة، وكان قد أعد أسطولاً من السفن استعداداً للهرب لو كانت الدائرة عليه، وكانت فلول المنهزمين من جيش (هرم ) ترى أفضلية البقاء داخل المدينة والتحصن بها، وذلك من شدة فزعهم من لقاء المسلمين في الميدان المفتوح.

 

كان القائد المحنك (خالد بن الوليد) يعتمد في حروبه على سلاح الاستطلاع الذي ينقل أخبار العدو أولاً بأول، وقد نقلت له استخباراته أن (الفرس) معسكرين بـ (المذار)، فأرسل (خالد) للخليفة (أبي بكر) يعلمه بأنه سوف يتحرك (للمذار)؛ لضرب المعسكرات الفارسية هناك؛ ليفتح الطريق الى (الأبلة)، ثم انطلق (خالد) بأقصى سرعة للصدام مع (الفرس)، وأرسل بين يديه طليعة من خيرة الفرسان، يقودهم أسد العراق (المثنى بن حارثة)، وبالفعل وصل المسلمون بسرعة لا يتوقعها أحد من أعدائهم.

 

الفطنة العسكرية:

 

عندما وصل المسلمون إلى منطقة المذار أخذ القائد (خالد بن الوليد) يتفحص المعسكر، وأدرك بخبرته العسكرية، وفطنته الفذة أن الفزع يملأ قلوب (الفرس)، وذلك عندما رأى السفن راسية على ضفاف النهر، وعندها أمر (خالد) المسلمين بالصبر والثبات في القتال، والإقدام بلا رجوع، وكان جيش الفرس يقدر بثمانين ألفاً، وجيش المسلمين بثمانية عشر ألفاً، وميزان القوى المادي لصالح (الفرس).

 

خرج قائد ( الفرس ) ( قارن) وكان شجاعاً بطلاً، وطلب المبارزة من المسلمين فخرج له رجلان: (خالد بن الوليد) وأعرابي من البادية، لا يعلمه أحد ؛ اسمه (معقل بن الأعشى) الملقب بـ (أبيض الركبان)؛ لمبارزته، وسبق الأعرابي (خالداً)، وانقض كالصاعقة على ( قارن ) وقتله في الحال، وخرج بعده العديد من أبطال (الفرس) وقادته، فبارز (عاصم بن عمرو) القائد (الأنوشجان) فقتله، وبارز الصحابي الجليل (عدي بن حاتم) القائد (قباذ) فقتله في الحال، وأصبح الجيش الفارسي بلا قيادة.

 

كان من الطبيعي أن ينفرط عقد الجيش الفارسي بعد مصرع قادته، ولكن قلوبهم كانت مشحونة بالحقد والغيظ من المسلمين؛ فاستماتوا في القتال على حنق وحفيظة، وحاولوا بكل قوتهم صد الهجوم الإسلامي، ولكنهم فشلوا في النهاية تحت وطأة الهجوم الكاسح، وانتصر المسلمون انتصاراً مبيناً، وفتحوا مدينة (الأبلة)، وبذلك استقر الجنوب العراقي بأيدي المسلمين، وسيطروا على أهم موانئ (الفرس) على الخليج، وكان هذا الانتصار فاتحة سلسلة طويلة من المعارك الطاحنة بين (الفرس) والمسلمين على أرض العراق كان النصر فيها حليفاً للمسلمين في جملتها، وانتهت بسقوط مملكة عباد النار.

 

أهم الدروس والعبر:

 

1-جند الله الذين ينصرون الله هم المخلصون الصادقون الذين عندهم روح ذاتية تدفعهم للقتال في سبيل الله، ويرون أن الموت في سبيل الله هو أسمي أمانيهم.

2-أهمية الصبر والثبات وقت الشدائد.

3-الحرب خدعة وفطنة وفهم لنفسية العدو.

4-أهمية الاستشارة وطاعة ولاة الأمور.

5-العامل النفسي هو العنصر الحاسم في القتال.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات