سلسلة فتوح العراق – معركة أُلِّيس (نهر الدم)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

حمي المسلمون في القتال، وازدادت قوتهم خاصة مسلمي قبيلة (بكر بن وائل) – حيث كانوا أشد الناس على نصارى قبيلتهم، بسبب خيانتهم وكفرهم وتحالفهم مع عباد النار، على الرغم من أنهم يدعون أنهم أتباع دين سماوي (مما يبين حقيقة فهم المسلمين الأوائل لعقيدة الولاء والبراء، حيث تنقطع كل الروابط: من رحم، وقرابة، ومصاهرة، وجوار أمام رابطة الإسلام وحبل العقيدة.

 

 

 

 

هذه المعركة رسالة شديدة الوضوح، ظاهرة الدلالة لهؤلاء الحمقى والمغفلين الذين يتحدثون عن الوثن الكبير المسمى بـ (القومية العربية) إلى هؤلاء الأشقياء الذين يقولون: "إن الدين يفرقنا، والعروبة تجمعنا"، والذين جعلوا القومية العربية بديلاً عن عقيدة الولاء والبراء الناصعة، التي تجمع تحت لوائها كل مسلم في شتى بقاع الأرض، وإن ناءت دياره، واستعجم لسانه، وتطرد عنها غير المسلم، وإن كان من ذوي الأرحام، أو من أقرب الجيران، هذه المعركة تظهر المشاعر الحقيقة لغير المسلمين تجاه المسلمين، وإن كانوا من بني جلدتهم، ويتحدثون بلسانهم، ولا عزاء للقوميين العرب في كل مكان وزمان.

 

التحالف المجوسي الصليبي:

 

بعد الانتصار الباهر الذي حققه المسلمون على (الفرس) في معركة (ذات السلاسل) و (المذار)، وسقوط مدينة (الأُبُلّة) –منفذ الفُرْسِ الوحيد على الخليج العربي–؛ أمرت القيادة العليا لفارس بإعداد جيشين من أقوى الجيوش الفارسية يقودها أمهر القادة (الفرس)، وهما: 1-(الأندر زغر). 2-(بهمن جاذويه)، وأمرهما كسرى بالتوجه سريعاً الى منطقة (الوَلَجَة) ـ بفتح الواو واللام والجيم، وتقع غرب نهر الفرات ناحية الصحراء، بإقليم كسكر العراقي الآن؛ للوقوف في طريق ( خالد بن الوليد )؛ حتى لا يستولي على  الحيرة (عاصمة العراق العربية)، وقد انضمت قبائل ( بكر بن وائل ) العربية– وأغلبها نصارى - إلى الجيش الفارسي، وانضم نصارى ( الحيرة، ونصارى قبيلة تغلب) للجيش الفارسي.

 

استطاعت الاستخبارات العسكرية أن تنقل الأخبار للقائد (خالد بن الوليد) عن حقيقة المخطط الفارسي الذي يقوم على فكرة الكماشة، وتلك المعلومات جعلت (خالد) يعيد ترتيب أوراقه، ويغير خطط السير؛ حيث سلك طرقاً مختلفة، ويعكس اتجاه السير عدة مرات؛ حتى لا يتضح اتجاه سيره، ثم اتجه إلى الجنوب، ووضع الحاميات القوية في المناطق المفتوحة، وأمرهم أن يقوموا بحماية ظهره من العدو.

 

الغلطة العسكرية: عاقبة التسرع والغرور:

 

كانت الخطة التي رسمها (كسرى) لجيوشه تقتضي أن يتبع (بَهمَن) الطريق الذي يسير فيه (الأندر زغر)، والاتحاد عند الاصطدام مع المسلمين، ويقدر الله -عز وجل- أن يرتكب القائد ( بَهمَن )  غلطة عسكرية شنيعة؛ حيث يخالف الأوامر، ويسلك طريقاً مخالفاً للخطة، على أمل أن يوقع المسلمين في الكماشة، ولكن (خالداً) بذكائه العسكري الفذ؛ استطاع أن يفلت من هذه المصيدة، ويسلك طريقاً طويلاً، ولكنه خال من الكمائن الفارسية، في حين أن (بهمن جاذويه) بمحاولته هذه قد سار في طريق بعيد عن (الولجة)، مما سهل لـ (خالد) مهمته في الانفراد بجيش (الأندر زغر).

 

كان جيش (الأندر زغر) عظيم التسليح، ضخم الحجم، يوجد به معظم نصارى العراق، وقد دفعه غروره، وضخامة جيشه إلى التفكير في محاولة استرجاع المناطق المفتوحة من قبل المسلمين، ووصلت هذه الأخبار إلى القائد الفطن (خالد بن الوليد) عبر سلاح الاستخبارات الإسلامية.

 

(وهذا يوضح أهمية الحذر، والأخذ بالأسباب، والفطنة الدائمة لقادة المسلمين في تعاملهم مع عدوهم – ليس حال الحرب فقط ولكن حال السلم أيضاً – عملاً بقوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا)[النساء:71]، قام (خالد) بتعبئة جيوشه، ونصب كمينين خلفه من ناحية اليمين واليسار، وطلب منهما ألا يدخلا في القتال إلا قبل النهاية بقليل، وعندما تظهر بوادر الضعف على (الفرس)، واستطاع (خالد) بخطته العسكرية العبقرية أن ينفرد بجيش (الأندر زغر) ويصطدم معه في  22 صفر سنة 12 هـ، وثبت (الفرس) ثباتاً هائلاً أمام الصدمة الإسلامية، حتى خشي المسلمون من الهزيمة، وفى اللحظة الحاسمة ينقض الكمين الإسلامي  من ناحية اليمين ثم الشمال، ويقع (الفرس) بين فكي الأسد، ويفر الكثيرون من أرض المعركة هائمين على وجهوهم في الصحراء، وعلى رأسهم القائد  (الأندر زغر) الذي مات عطشاً في الصحراء، وقتل كثير من النصارى في هذا الصدام: منهم ابني أكبر زعماء النصارى العرب (جابر بن بجير) و (عبد الأسود).، وقد شبه المؤرخون انتصار روسيا والحلفاء على نابليون في معركة واترلو سنة 1815م ميلادية بانتصار المسلمين في الولجة للتشابه الكبير بين خطة الانتصار في المعركتين، ولنا –بالطبع- أن نتخيل من قلد من!!.

 

    الحقد الصليبي:

 

كانت الصدمة  والصفعة الشديدة التي نالها النصارى من المسلمين في القتال السابق قاسية، لدرجة أن صوابهم قد طاش، من كثرة ما فقدوه من القتلى، من خيرة شبابهم، فاشتعلت قلوبهم حقداً وغلاً على المسلمين –رغم رابطة العروبة والجوار– إلا أنهم فضلوا الانضواء تحت لواء (الفرس) على الرغم من أنهم  كانوا يحتقرون العرب جداً، ورغم ذلك فضلوا الانضمام إليهم لا لشيء إلا لعداوتهم للإسلام، وقرر زعماء نصارى العراق التجمع بأعداد كبيرة، واستغاثوا بكسرى، وطلبوا منه الإمدادات؛ فانتعشت آمال كسرى وفرح لكتاب نصارى العراق له، وكتب لقائده (بهمن جاذويه) –وقد بقى بالمنطقة مرابطاً بجيشه بعد غلطته الفظيعة، والتي أتت على جيش (الأندر زغر) –للانضمام إلى نصارى العراق في حربهم ضد المسلمين، ثم عاد كسرى وطلب من (بهمن جاذويه) أن يعود سريعاً إلى (المدائن)؛ لوجود اضطرابات داخلية بها، وعين مكانه في قيادة الجيش القائد (جابان)، وكان رجلاً محنكاً ولكنه ضعيف الشخصية.

 

    عاقبة الغرور:

 

كانت الإمدادات الفارسية أقرب إلى منطقة تجمع الجيش الصليبي بـ (أُلّيس) ـ بضم الألف وتشديد اللام ـ وهي على نهر صغير متفرع من نهر الفرات في وسط العراق الآن-  من جيوش المسلمين؛ فوصلت قبلها، ورتب (جابان) ترتيباً جيداً، واستعد للقتال، وكان الجيش (المجوصليبي) كبير العدد جداً، حيث بلغ عدد مقاتليه مائة وخمسون ألفاً: مما جعل الغرور يملأ القلوب والنفوس، وكذا جعل الثقة بحتمية النصر أكيدة، ووصل المسلمون بجيوشهم التي لا تتجاوز الثمانية عشر ألفاً، وصادف قدوم المسلمين وجود الجيوش  (المجوصليبي) على موائد الطعام في وقت الغداء، وفي الحال أمرهم القائد العام (جابان) بترك الطعام والتهيؤ للقتال ضد المسلمين، ولكن الغرور والكبر منعهم من الاستماع لصوت العقل، وظنوا أنهم لا يغلبون؛ فخالفوا أمر قائدهم العام، واستمروا في تناول الطعام، ثم عاد (جابان) وأمرهم بوضع السم في الطعام؛ فإذا دارت الدائرة عليهم، وغنم المسلمون الطعام وأكلوه ماتوا من السم – وهو رأي لا يصدر إلا من رجل داهية حقاً– ولكن أيضاً خالفوه وتكبروا وسول لهم الشيطان سوء أعمالهم، وبخلوا حتى بطعامهم!.

 

نهر الدم:

 

أدرك (خالد) وجنوده أن عدوهم مغرور ومتكبر؛ فأصدر (خالد) أوامره المباشرة بالهجوم فورًا وبكل القوة والثقل على هؤلاء المغترين، وبالفعل هجم المسلمون عليهم، وهم مازالوا على موائدهم الأخيرة، وبدأ القتال، الذى صار ينتقل من طور إلى آخر، ومن حال الى آخر أشد منه؛ لقوة وشراسة الحقد الصليبي على المسلمين، وأيضاً صبر (الفرس) في القتال، على أمل أن يصل القائد (بهمن جاذويه) بالإمدادات من المدائن، ولقي المسلمون مقاومة عنيفة جداً من التحالف (المجوصليبي)، عندها دعا القائد (خالد بن الوليد) ربه، ونظر إلى السماء  وقال: "اللهم إن لك عليَّ إنْ منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحداً قدرنا عليهم، حتى أجري نهرهم بدمائهم ".

 

حمي المسلمون في القتال، وازدادت قوتهم خاصة مسلمي قبيلة (بكر بن وائل) – حيث كانوا أشد الناس على نصارى قبيلتهم، بسبب خيانتهم وكفرهم وتحالفهم مع عباد النار، على الرغم من أنهم يدعون أنهم أتباع دين سماوي (مما يبين حقيقة فهم المسلمين الأوائل لعقيدة الولاء والبراء، حيث تنقطع كل الروابط: من رحم، وقرابة، و مصاهرة، وجوار أمام رابطة الإسلام وحبل العقيدة، كما قال الحق في محكم التنزيل: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[المجادلة:22].

 

لم يطل الأمر كثيراً حتى انتصر المسلمون انتصاراً باهراً، وأمر (خالد) بإمساك الأسرى، وأخذهم  جميعاً عند نهر ( أليس ) وسد عنه الماء، ومكث يوماً وليلة يضرب أعناقهم؛ حتى يجري النهر بدمائهم، وفاء بنذره لله -عز وجل-، ومع ذلك لم يجر النهر بدمائهم؛ فقال له (القعقاع بن عمرو): " لو أنك قتلت أهل الأرض جميعاً لم تجر دماؤهم – ذلك لأن الدم سريع التجلط كما هو معروف -طبياً – فأرسل الماء على الدماء؛ يجري النهر بدمائهم وتكون قد وفيت بنذرك" ففعل (خالد) ذلك فسمي النهر من يومها ( نهر الدم ) وقتل يومها أكثر من سبعين ألفاً من جنود التحالف (المجوصليبي).

 

وليس في ذلك قسوة ولا دموية كما قد يظن البعض؛ لأن هؤلاء كانوا مجرمي حرب، وليس لهم أن يدخلوا الحرب أصلاً ضد المسلمين، فهي ليست حربهم ولا هم طرف فيها، وهو الذين بدأوا المسلمين بالعداوة، واتحدوا مع عباد النار من أجل إفناء المسلمين بأيديهم، ومن يقع من المسلمين بأيديهم كانوا يمثلون بجثته، ويقتلونه شر قتله، فهؤلاء وأمثالهم ممن تمتلأ قلوبهم بكره وبغض المسلمين ينطبق عليهم قول الله -عز وجل-: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)، وقوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[التوبة:123].

 

عندما وصلت الأخبار بالنصر للخليفة (أبي بكر الصديق) قال كلمته الشهيرة: " يا معشر (قريش) عدا أسدكم –يعنى (خالداً)– على الأسد –يعني كسرى– فغلبه على خراذيله – أي على فريسته – عجزت النساء أن ينشئْن مثل (خالد).

 

أهم الدروس والعبر:

 

1-سقوط وهم القومية العربية.

2-أعداء الأمة كلهم بشتى طوائفهم يد واحدة على المسلمين.

 

3-صبر المسلمين وصدق إخلاصهم وتمسكهم بدينهم هو سبب انتصاراتهم العالمية على خصومهم.

 

4-الشدة والغلظة على أعداء الدين حل أمثل مع هؤلاء الذين يستهدفون إبادة الأمة والدين.

 

المصادر والمراجع:

 

1 ـ تاريخ الطبري.

2ـ الكامل في التاريخ.

3ـ البداية والنهاية.

4ـ المنتظم.

5ـ تاريخ خليفة بن خياط.

6ـ الطبقات.

7ـ صفة الصفوة.

8ـ تاريخ الخلفاء.

9ـ فتوح البلدان.

10ـ التاريخ الإسلامي.

11ـ تاريخ الخلفاء الراشدين.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات