سلسلة دول الشيعة2 (1-2) الدولة البويهية في العراق وإيران

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

ومع هذه الفضائل والنقائص المختلفة، كان شيعياً غالياً متأثراً بأسلافه المجوس معظماً لهم أيما تعظيم، ففي عام 363 هجرية، أمر عضد الدولة بنصب لوحٍ على تخت جمشيد وهو أحد الآثار المجوسية القديمة، خطت عليه أسماء الأئمة الاثني عشر، مع عبارات السلام والتحيات عليهم. وهذا يدل على أنه كان مبجّلاً ومعظّماً لملوك المجوس. وكتابته لأسماء الأئمة الاثني عشر على تخت جمشيد، يلمح إلى اعتقاده بوجود علاقة بين حبّه وتعظيمه للملوك المجوس الفرس، وللأئمة الاثني عشر، وكأنه يرى في الأئمة استمراراً لملك هؤلاء كما يعتقد غالبية الرافضة حتى اليوم..

 

 

 

 

ظلت بلاد العراق وإيران معقلاً لأهل السنّة والجماعة طوال عقود ثلاثة لهم فيها الأغلبية الساحقة، كلمتهم فيها نافذة، وحكمهم فيها دائم، ممثلاً في دولتين سنيتين قويتين متتابعتين: الأموية والعباسية، في حين لم يكن للشيعة -الذين يمثلون الأقلية البسيطة- ذكر ولا أثر، لا يجرؤ الواحد منهم على إظهار شعائر دينه القائم على البدع والضلالات والسب والتكفير واللعن، وظلت هذه الممارسات الرافضية الخبيثة الضالة لا تجد لها متنفسا ولا معلنا، حتى ظهرت الدولة البويهية الخبيثة التي كانت أول من أخرج الدين والفكر الشيعي عموماً والرافضي خصوصاً إلى حيز العلن، لذلك فالشيعة جميعاً على اختلاف مذاهبهم يدينون لهذه الدولة بالفضل على الرغم من كون تشيعها كان من جنس تشيع الأعراب كما سنعرف من خلال سرد تاريخ هذه الدولة.

 

أولاً: أصل البويهيين:

 

اختلف الكثير من المؤرخين في أصل نسب البويهيين، فيذكر ابن خلكان، أن الصابي ذكر في كتابه (التاجي) إنهم يرجعون في نسبهم إلى بهرام جور بن يزدجر الملك الساساني، أما ابن الأثير فيرى أن نسبتهم إلى قوم الديلم بسبب طول مقامهم ببلادهم، في حين أن الأصفهاني الذي هو أكثر المؤرخين معرفة بأصول ملوك الفرس، فرغم أنه يجعل للبويهيين أصلاً يعود إلى الملك الساساني بهرام غور، إلا إنه يعود ويذكر إن علي بن بويه كان زعيماً لإحدى قبائل الديلم تسمى شيرذيل أوندن، تقيم في قرية كياكاليش في ديلمان، وهذا تضارب اعتدناه من الأصفهاني الغالي في تشيعه. والحق أن ادعاء نسب البويهيين إلى ملوك كسرى كذبة اعتادها كل من حكم الإيرانيين، فإن ادعاء النسب إلى الملوك العظماء، كان عادة التزمها كل من حكم إيران في القرون الأولى، إذ أن عهد الساسانيين قريب، والشعب لم يزل معظماً لملوكهم ولتراثهم، وتواقاً لعودة المجد القديم البائد، فادعاء النسب إلى الملوك، يقوّي من شأن الحاكم ويعضده بالرجال. وهذا ما فعله الطاهريون عند تأسيس دولتهم الطاهرية، والصفاريون في دولتهم الصفارية، والسامانيون في دولتهم السامانية، وكذلك البويهيون.

 

فالبويهيون -على الأرجح- ينتسبون إلى الديلم سكان المنطقة الجبلية في مقاطعة جيلان من بلاد فارس (إيران)، وكانوا على دين المجوس حتى سنة 250هـ حتى بدأ الإسلام يغزوهم بعد قيام الدولة الزيدية في طبرستان سنة 250هـ، فبداية إسلامهم كان على التشيع فلم يعرفوا غيره، وكان من بين من خرج مع ملك الديلم ناصر الدين الأطروش، هو علي بن بويه وكان صياداً فقيراً، وعندما تولى الحسن بن القاسم الداعي، خلافة الناصر، أرسل ولديه أحمد وجعفر لمقاتلة السامانيين فكان من بين الذين برزوا في قتال السامانيين (أبو شجاع بويه بن فناخسروا)، وكان لأبي شجاع ثلاثة أولاد قامت على أكتافهم فيما بعد الدولة البويهية وهم: علي، الحسن، أحمد.

 

ثانياً: تأسيس الدولة:

 

إن قصة بني بويه تشبه الخرافات والأساطير، وأي إنسان يقرأ أن رجلاً فقيراً لا يملك، ولا يقدر على شيء وينقل الحطب على رأسه من الجبال إلى البيوت ليحصل على الرغيف يقفز من حاله هذه إلى الملك الطويل العريض، والسيطرة على بلاد العرب والعجم، أي إنسان يقرأ هذا، ولا يراه أسطورة وخرافة؟ ولكن هذا ما حصل بالفعل لآل بويه.

 

كان في أوائل القرن الرابع الهجري في بلاد الديلم رجل فقير يدعى (أبو شجاع بويه) ماتت زوجته، وخلفت له ثلاثة بنين، وهم أبو الحسن علي، وأبو علي الحسن، وأبو الحسن أحمد، فاشتد حزنه، وضاقت به الأرض، فقال له أحد أصحابه يعزيه ويسليه: ارفق بنفسك، وأولادك هؤلاء المساكين، ثم أخذه مع أولاده إلى منزله، وهيأ لهم الطعام، وشغل أبا شجاع عن مصابه وآلامه.

 

قال ابن الأثير في حوادث سنة 321 : "فبينما هم كذلك إذ مر رجل يصيح ويقول عن نفسه: مفسر منامات.

فدعاه أبو شجاع، وقال له: رأيت في منامي كأنني أبول، فخرج من ذكري نار عظيمة استطالت وعلت، حتى كادت تبلغ السماء، ثم صارت ثلاث شعب، وتفرع عن كل شعبة عدة شعب، فأضاءت الدنيا بتلك النيران، ورأيت البلاد والعباد خاضعين لها. فقال المنجم: "هذا منام عظيم لا أفسره إلا بخلعة".فقال له أبو شجاع : "واللّه لا أملك إلا الثياب التي على جسدي، فإن أخذتها بقيت عرياناً".قال المفسر: فعشرة دنانير. قال أبو شجاع: واللّه لا أملك ديناراً واحداً. قال المفسر: اعلم أنه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومن عليها، ويعلو ذكرهم في الآفاق، كما علت تلك النار، ويولد لهم ملوك بقدر ما رأيت من تلك الشعَب.

 

وكانت بداية الظهور البويهي، عندما قلد مرداويج بن زيار مؤسس الدولة الزيارية في جرجان وطبرستان علي بن بويه ناحية الكرج (جورجيا الآن) سنة320هـ/932م، ولقد أتاحت له صفاته كقائد يسعى للملك والسيطرة بأي ثمن وبأية وسيلة لأن يؤسس دولته المستقلة. فتخوف مرداويج من نفوذ علي بن بويه شهرته في الإقليم وحب الناس له بسبب حسن سياسته، فعمل على الكيد له وحاول اغتياله عدة مرات، مما جعل علي بن بويه يحتاط من مؤامراته، ويعمل على استمالة قواد مرداويج بالعطايا والهدايا، وكان قادة مرداويج يكرهونه بسبب غلظته وشدته وجبروته، فقد كان مسلماً في الظاهر مجوسياً في الباطن، وكان متعلقاً بالآداب الفارسية القديمة، ومراسيم المذهب الزرادشتي. ولهذا كان شديد الكره للخليفة العباسي وولاته العرب، وكان يحتفل بأعياد المجوس. وشعر مرداويج بما يدبره على بويه فبعث إليه بعزله عنها ويستدعيه إليه فامتنع من القدوم عليه وصار إلى أصبهان فحاربه نائبها فهزمه علي بن بويه هزيمة منكرة واستولى على أصبهان وإنما كان معه سبعمائة فارس فقهر بها عشرة آلاف فارس وعظم في أعين الناس فلما بلغ ذلك مرداويح قلق منه فأرسل إليه جيشاً كبيراً فأخرجوه من أصبهان فقصد أذربيجان فأخذها من نائبها وحصل له من الأموال شيء كثير جداً. بعدها قام بعض قادة مرداويج بقتله في الحمام، فانتهز علي بن بويه وأخوته الفرصة وتابعوا فتوحاتهم في الهضبة الإيرانية، ففي هذه الأثناء كان الأخ الثاني الحسن قد احتل تقريباً كل إقليم الجبال، عقب مقتل مرداويج سنة 323هـ، فيما أخذ الأخ الثالث أحمد في غزو كرمان، وتم له فتحها سنة 324هـ، ثم اتجه نحو خوزستان مستفيداً من صراع ابن رائق والبريدي وكلاهما من قادة الدولة العباسية، الأمر الذي فتح أمامه الطريق إلى بغداد بسهولة، خاصة بعد أن تمكن أحمد البويهي من السيطرة على الأهواز بصورة نهائية سنة 326هـ.

 

وفي ظل تدهور الوضع ومساوئ حكم القادة العسكريين الأتراك الذين تسلطوا على الخلافة العباسية واستياء طبقات العامة وتمردهم عليه، في هذه الأثناء زحف أحمد البويهي من الأهواز قاصداً بغداد، فاضطربت المدينة واختفى الخليفة العباسي المستكفي وابن شيرادار، وانسحب الجند الأتراك إلى الموصل، وبعد مفاوضات أجراها أبو محمد المهلبي صاحب أحمد البويهي، دخل الأخير إلى بغداد في جمادى الثاني 334هـ حيث لقي الخليفة العباسي المستكفي وتبايعاً، ولقبه الخليفة بـ(معز الدولة)، ولقب أخاه الأكبر علي بـ(عماد الدولة وأخاه الثاني الحسن بـ(ركن الدولة)، ومنذ هذا التاريخ وقعت الخلافة العباسية تحت سيطرة الأسرة البويهية، ولغاية تاريخ دخول السلاجقة بغداد وسيطرتهم بدورهم على الخلافة سنة447.

 

ثالثاً: عوامل نجاح الدولة البويهية:

 

عندما بدأ البويهيون في الظهور على مسرح الأحداث في العشرينات من القرن الرابع الهجري، ما كان لأحد أن يتوقع نجاحهم في إقامة دولة تسيطر على الخلافة العباسية وأراضيها، والواقع إن كتب التاريخ لا تجد ما تبرر به بروز علي بن بويه وبخاصة في الوصول إلى ما وصل إليه، سوى صفاته الشخصية: العسكرية والخلقية. فمسكوية يفسر نجاحات علي، بسماحته وسعة صدره وشجاعته، كذلك يفعل ابن الأثير وابن خلكان.

 

إلا أن البعض من المؤرخين لا يرون في تلك الصفات لوحدها مهما بلغت أهميتها في أن تكون أسباب نجاحات بن بويه، هؤلاء يرون أن ظروفاً وعوامل معينة لعبت دوراً أساسياً في تمكينه من تثبيت حكمه في فارس، ولاحقاً فتحت أمامه أبواب بغداد على مصراعيها، ومن هذه العوامل:

 

1-تدهور دولة الخلافة العباسية: لقد بدأ المشروع البويهي وتطور، في مرحلة من أسوأ المراحل التي مرت بها الخلافة العباسية، بسبب فساد القادة العسكريين للخلافة وجلهم من الأتراك والموالي وصراعهم على الحكم والنفوذ والثروات، مما ادي لتدهور مكانة الخلافة وقوتها، والذي تجلى في فشل ولاة الخليفة كياقوت وابنيه في القضاء على البويهيين الذين كانوا لا يشكلون وقتها خطراً على الخلافة كالذي يهددها من جانبي القرامطة أو مرداويج بن زيار. فالخلافة العباسية التي أنهكتها فترة حكم أمير الأمراء، وجدت في البويهيين الذين بات دخولهم بغداد أمراً واقعاً، الأمل الذي سيخلصها من حالة التدهور التي وصلت إليها البلاد آنذاك.

 

2-مقتل مرداويج بن زيار: وهو أقوى ملوك فارس وإيران والذي كان عقبة كؤود أمام الطموحات البويهيية. فقد شكلت الدولة الزيارية بقيادة مرداويج خطراً حقيقياً على المشروع السياسي لعلي بن بويه الذي حاول جهد إمكانه مداهنة مرداويج بأساليب شتى؛ لكي يمنع المواجهة العسكرية معه أو يؤجلها، وكأنه كان يدرك إن أية مواجهة حاسمة مع مرداويج، كفيلة بالقضاء عليه، لذلك ارتضى أن يخطب له في فارس، وأن يضع أخاه الحسن رهينة لديه، أما مرداويج فقد ارتضى هذه المصالحة وفي نيته مهاجمة علي بن بويه في العام التالي. إلا أن مقتل مرداويج المفاجئ وتضعضع قوة خلفائه، أعطى للبويهيين فرصة كبيرة للانطلاق في ترسيخ وتوسيع رقعة سيطرتهم.

 

3-عدم الصدام مع الخلافة: لم يقع البويهيون في ذلك المطب الصعب الذي وقع فيه الكثير من الحركات الكبرى (إعلان العداء والمواجهة)، والذي كان أحد أسباب فشلها والقضاء عليها، على إن الخلافة العباسية ما كانت لتتساهل حتى في أقصى مراحل ضعفها مع الذين يظهرون نواياهم في القضاء عليها، وكما حصل مع بابك الخرمي أو مزيار، والقرامطة والصفاريين، واستقرار أمر الطاهريين والسامانيين ومن ثم البويهيين.كان أول ما فعله علي بن بويه إثر استيلائه على بلاد فارس الحصول على اعتراف الخليفة به، أي تأمين الغطاء الشرعي لسلطته، وإقراره بسلطة الخلافة الاسمية على إمارته، وعندما راودت معز الدولة (أحمد البويهي) إثر دخوله بغداد، فكرة الإطاحة بالخلافة العباسية، سرعان ما نهاه عنها بشدة وزيره ورجال دولته، مخافة أن يؤدي ذلك إلى زوال الدولة البويهية نفسها. وقد حرص البويهيون على إظهار كل تعظيم وتقدير وطاعة للخليفة العباسي، في المناسبات العامة، وأمام مواطنيهم، فيما هم في الحقيقة قد انتزعوا منه كل صلاحياته.

4-الموقع الاستراتيجي: فقد شكلت فارس تلك القاعدة الصلبة التي ارتكز عليها البويهيون لتثبيت ملكهم وتوسيعه، فبالإضافة إلى موقعها القريب من عاصمة الخلافة بغداد، فقد كانت أغنى مقاطعات الخلافة اقتصادياً وأكثرها استقراراً. والواقع أن هذه الأسباب مجتمعة بالإضافة إلى شخصية علي بن بويه وما تمتع به من قدرات عسكرية وسياسية وإدارية، هي التي مكنت البويهيين من الاستيلاء على فارس وترسيخ سلطته عليها، وبالتالي إخضاع الخلافة العباسية لسيطرتهم.

 

رابعاً: الحياة السياسية في عهد الدولة البويهية:

 

كان دخول البويهيين إلى بغداد حاضرة الخلافة العباسية سنة 334هـ إيذاناً بالوفاة الفعلية لمقام الخليفة العباسي، حيث انتهت صلاحياته بصورة شبه كلية، وغدا منصبه شرفياً دينياً فقط لا غير، وحدث تغيير كامل في الجهاز الإداري للدولة العباسية، فاستحدثت مناصب جديدة، وألغيت أخرى، وقبض البويهيون على ناصية الأمور بعدة إجراءات من أبرزها:

 

1-منع الخليفة العباسي من التصرف بأموال الدولة، وتحديد راتب معين له، وكان استيلاء أمير الأمراء على موارد بيت المال (سابقاً) لعهد البويهيين، فعلى سبيل المثال خصص معز الدولة البويهي للخليفة العباسي المستكفي بالله (كل يوم خمسة آلاف درهم)، وبعد خلع المستكفي خفضه إلى ألفي درهم يومياً، كما إن الضياع السلطانية الخاصة بالخليفة لم تسلم من سيطرة البويهيين عليها.

 

2-انتقال السلطة إلى الوزراء وكتاب الأمير البويهي دون وزراء الخليفة وكتابه.

 

3-إلزام الخليفة بزيارة الأمراء البويهيين في بعض المناسبات خلافاً للقاعدة المتبعة من قبل.

 

4-مشاركة الأمراء البويهيين في بعض الامتيازات الخاصة بالخلفاء (رغم معارضة الخلفاء لذلك)، فمثلاً:

 

أ-راح يذكر اسم الأمير بعد اسم الخليفة في صلاة الجمعة في العاصمة، وضرب الطبول على أبوابهم خلال أوقات الصلاة، وهذين الامتيازين –بالذات- لم يفعله الخلفاء لأي أمير من الأمراء قبل العهد البويهي.

 

ب-طلب الأمراء البويهيون في أن تضرب ألقابهم وأسمائهم على العملة النقدية، وبالفعل فمثلاً الخليفة المستكفي أمر أن تضرب ألقابهم وكناهم على الدنانير والدراهم.

 

ج-عدم إشراك الخلفاء والاستنارة برأيهم في قضايا ذات علاقة بسيادة الخليفة، فمثلاً: إن الأمراء البويهيون كانوا –أحياناً- يعقدون معاهدات صلح دون علم الخليفة أو توقيعه على تلك المعاهدات.

 

أما أهم وأبرز قادة البويهيين السياسيين:

 

1-علي بن بويه عماد الدولة: وهو أول من ملك من البويهيين علي بن بويه، أكبر أولاد أبي شجاع، وكان يلقب بعماد الدولة، وكان ابتداء سلطانه في شيراز عام 321 هجري، ثم امتد إلى إيران والعراق، وغيرها من بلاد بني العباس. قال آدم متز في الجزء الأول من (الحضارة الإسلامية): "كان سبب ارتفاع علي بن بويه سماحته وشجاعته، وسعة صدره، وحسن سياسته، فمن ذلك أنه استمال الحسين بن محمد الملقب بالعميد. ولاطف قواد مرداويج، وأفضل عليهم، حتى أوجبوا طاعته، وكان ذا فضل يتسامع به الناس، فيميلون إليه، فلا عجب –إذن-أن يسهل عليه الانتصار، على جيش الخليفة، حتى استولى على جنوب إيران، وكان بنو بويه إلى جانب هذا يحسنون معاملة الأسرى، ويعفون عنهم، ويؤمنونهم من جميع ما يكرهون، حتى يطمئنوا إليهم، على حين كان أعداؤهم يعدون للأسرى قيوداً وبرانس؛ ليشهروهم بها، ولقد ظفر علي بن بويه بأعداء له، معهم هذه الآلات، فعدل عن العقاب إلى العفو، وابتعد عن الطغيان. وهو الذي يرجع إليه الفضل فيما بلغه بيت بني بويه من قوة وعزة". وقال ابن الأثير في حوادث 322هـ: "حين استولى علي على شيراز نادى في الناس الأمان، وبث العدل". وقد ساعده الحظ في أمور، منها: أن الجند طلبوا أرزاقهم منه، ولم يكن عنده ما يعطيهم، فكاد ينحل أمره، فقعد في غرفة دار الإمارة بشيراز، يفكر في أمره، وأصابه غم شديد، فبينما هو مستلقٍ على ظهره، وقد خلا للفكر والتدبير إذ رأى حية، قد خرجت من موضع في سقف الغرفة، ودخلت في ثقب، فخاف أن تسقط عليه، فدعا الفراشين، ففتحوا الموضع، فرأوا وراءه باباً، فدخلوه إلى غرفة أخرى، فوجدوا فيها عشرة صناديق مملوءة مالاً ومصاغاً، فأنفقه في رجاله، وثبت ملكه بعد أن أشرف أمره على الانحلال".

 

2-معز الدولة أحمد بن بويه: كان سلطان معز الدولة بالعراق مبدأ خرابه بعد أن كان جَنَّة الدنيا، فإنه لما استقرت قدمه فيه شغب الجند عليه وأسمعوه المكروه، فضمن لهم أرزاقهم في مدة ذكرها لهم، فاضطر إلى ضبط الناس وأخذ الأموال من غير وجوهها، ولم تمضِ سنة حتى اشتد الغلاء ببغداد، فأكل الناس الميتة والسَّنَانير والكلاب، وأكل الناس خروب الشوك، فقد كانوا يسلقون حَبَّه ويأكلونه؛ فلحق الناس أمراض وأورام في أحشائهم، وكثر فيهم الموت حتى عجز الناس عن دفن الموتى، فكانت الكلاب تأكل لحومهم، وانحدر كثير من أهل بغداد إلى البصرة، فمات أكثرهم في الطريق، وبيعت الدور والعقارات بالخبز. وكان أهل بغداد قبل الدولة البويهية على مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، فلما جاءت هذه الدولة وهي متشيعة غالية؛ نما مذهب الشيعة ببغداد، ووجد له من قوة الحكومة أنصارًا، فقد كُتِب على مساجد بغداد سنة 351هـ ما صورته: "لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من غصب فاطمة فَدَكًا، ومن منع من أن يُدفن الحسن عند قبر جَدِّه صلى الله عليه وسلم، ومن نفى أبا ذر الغفاري، ومن أخرج العباس من الشورى". فأما الخليفة فكان محكومًا عليه، لا يقدر على المنع، وأما معز الدولة فبأمره كان ذلك. وفي عاشر المحرم سنة 352هـ أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يُظهِروا النِّياحة، ويلبسوا قبابًا عملوها بالمسوح، وأن يخرج النساء منشَّرات الشعور، مسودات الوجوه، قد شققن ثيابهن، يدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي الله عنهما. ففعل الناس ذلك، ولم يكن لأهل السُّنَّة قدرة على المنع لكثرة الشيعة؛ ولأن السلطان معهم، وكان ذلك التاريخ مبدأ استعلان الشيعة الرافضة بشعائرهم وبدعهم وضلالاتهم، وكان أيضا فاتحة الشرور على أهل العراق حتى وقتنا الحالي. 

 

3-عضد الدولة فناخسرو بن بويه : شيطان بني بويه وعلمهم المقدم وأقوى ملوكهم، جمع النقائض والعجائب كلها، فهو أول من تسمى من ملوك الإسلام باسم شاهنشاه ومعناها ملك الملوك وقد ثبت في الصحيح أن أوضع اسم وفي رواية أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الملوك، فباء بها هذا الرجل عليه من الله ما يستحق، كان أول أمره أميراً على بلاد فارس ولكن طموحه دفعه لئن تربص بابن عمه بختيار أمير العراق الدوائر حتى ألجأه لأن يخلع نفسه ويتنازل عن سلطنة العراق لعضد الدولة ولم يكتف بذلك بل عمل على قتل ابن عمه بختيار حتى قتله سنة 367هـ واستولى على مقاليد الأمور في العراق. وكان عضد الدولة متجاوزاً في حدود السياسة الشرعية فتراه يعسف بشدة ويضع العيون لتأتيه الأخبار أولاً بأول حتى إن رجلاً من أهل مصر شتمه يوماً في مصر فأرسل من يأتي به حتى أوقفه بين يديه ووبخه بما قال فاحترز الناس في كلامهم حتى مع نسائهم وغلمانهم، أحب يوماً جارية فألهته عن تدبير المملكة فأمر بتغريقها، وسرق غلام له بطيخة من أحد الفلاحين فضرب غلامه بالسيف فقطعه نصفين. وقد طهر السبل من اللصوص، ومحا أثر قطاع الطريق، وقد دس على اللصوص في إحدى القوافل بغلاً يحمل حلوى مسمومة، فأكلوا منها فهلكوا، وكانت هذه أعظم مكيدة، وأعاد النظام إلى صحراء جزيرة العرب، وصحراء كرمان، وكانت مخيفة، وكان سكانها يضعون الضرائب على قوافل الحج، فارتفعت، وتحقق الأمن، وأقام للحجاج السواقي في الطريق، واحتفر لهم الآبار، واستفاض الينابيع، وأدار السور على مدينة الرسول، وأمر بعمارة منازل بغداد وأسواقها.

 

وابتدأ بالمساجد الجامعة، وكانت في نهاية الخراب، وهدم ما كان مستهدماً بنيانها وأعادها جديدة قوية، وألزم أرباب العقارات بالعمارة، فمن قصرت يده أقرضه من بيت المال (بنك التسليف للإنشاء والتعمير). وفي عهده امتلأت الخرابات بالزهر والخضر والعمارة بعد أن كانت مأوى الكلاب، ومطارح الجيف والأقذار، وجُلبت إليها الغروس من فارس وسائر البلاد. وكانت الأنهار ببغداد قد دفنت مجاريها، وعفيت رسومها، فأمر بحفرها من جديد، وأقام القناطر والجسور، وعُملت عملاً محكماً، وحضّر كثيراً من أهل البادية، فزرعوا وعمروا البرية، ومع هذا لم تكن العراق مركز الدولة، بل كان مركزها في فارس، وبنى سوقاً للبزازين (تجار الأقمشة) وكان ينقل إلى بلاده ما لا يوجد فيها من الأصناف، وشيد مارستاناً كبيراً ببغداد، وأمر بإدرار الأرزاق على قوّام المساجد والمؤذنين وأئمة الصلاة، والقراء، وإقامة الجرايات لمن يأوي إليها من الغرباء والضعفاء، وتجاوزت صدقاته أهل الإسلام إلى أهل الذمة، وأذن للوزير في عمارة البيع لليهود، والأديرة للنصارى، وإعطاء الأموال لكل محتاج، وإن لم يكن مسلماً. وكان يتصدق كل جمعة بعشرة آلاف درهم على الضعفاء والأرامل، ويصرف كل سنة ثلاثة آلاف دينار ثمن أحذية للحفاة من الحجاج، وعشرين ألف درهم كل شهر لتكفين الموتى، واستحدث ثلاثة آلاف مسجد وخان للغرباء، ولم يمر بماء جار إلا بنى عنده قرية، وكان ينفق على أهل مكة والمدينة وطرقهما ومصالحهما مائة ألف دينار كل سنة، وكان يبذل مالاً كثيراً على عمارة المصانع، وتنقية الآبار، ويعطي سكان المنازل التي في الطرقات، ليقدموا العلف لدواب المسافرين.وكان يحب العلم والعلماء، ويجري الأرزاق على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، والمفسرين والنحاة والشعراء، والنسابين والأطباء، والحساب والمهندسين، وأفرد لأهل الاختصاص من العلماء والحكماء موضعاً يقرب من مجلسه، وأنشأ مكتبة تحتوي على كل كتاب صنف إلى وقته من جميع أنواع العلوم.

 

 ومع هذه الفضائل والنقائص المختلفة، كان شيعياً غالياً متأثراً بأسلافه المجوس معظماً لهم أيما تعظيم، ففي عام 363 هجرية، أمر عضد الدولة بنصب لوحٍ على تخت جمشيد وهو أحد الآثار المجوسية القديمة، خطت عليه أسماء الأئمة الاثني عشر، مع عبارات السلام والتحيات عليهم. وهذا يدل على أنه كان مبجّلاً ومعظّماً لملوك المجوس. وكتابته لأسماء الأئمة الاثني عشر على تخت جمشيد، يلمح إلى اعتقاده بوجود علاقة بين حبّه وتعظيمه للملوك المجوس الفرس، وللأئمة الاثني عشر، وكأنه يرى في الأئمة استمراراً لملك هؤلاء كما يعتقد غالبية الرافضة حتى اليوم. وقد حرص عضد الدولة البويهي على توثيق الروابط بينه وبين الخليفة الفاطمي العزيز بالله في مصر، وقد أشار ابن تَغري بَرْدِي إلى الرسائل الوُدِّية المتبادلة بين العاهلين في سنة 369هـ/ 979م. وقد اعترف الملك البويهي في خطابه للعزيز بإمامة الفاطميين، وبفضل أهل البيت، مُظهِرًا طاعته ومحبته له، وردَّ العزيز بالله على عضد الدولة برسالة كلها شكر وتقدير وامتنان للملك البويهي. والجدير ذكره في هذا المجال هو أن رسالة الخليفة الفاطمي قُرِئت في حضرة الخليفة العباسي، كما أرسلت رسالة عضد الدولة إلى مصر بعلم الخليفة، فإن دلَّ ذلك على شيء إنما يدل على مدى ضعف الخلفاء العباسيين زمن سيطرة البويهيين، فقد كانوا رمزًا لا حول لهم ولا قوة. لما تعاظم ملكه واتسعت أراضيه وكثر ماله وازينت له الدنيا فظن نفسه قادراً عليها فأنشد يوماً أبياتاً تبين مكنون قلبه عندما خرج من بستان له يوماً فقال: "أود لو جاء المطر " فنزل المطر فوسوس له شيطانه أن يقول هذه الأبيات:

 

مبرزات الكأس من مطلعها ***مستقيات الخمر من فاق البشر

 

عضد الدولة وابن ركنها ***مالك الأملاك غلاب القدر

 

قبحه الله وقبح شعره فلم يكد أن يقول مالك الأملاك غلاب القدر حتى ضربه الله -عز وجل- بالصرع الذي أحال حياته إلى جحيم فتزايد عليه الصرع حتى كان يصرخ في مرض موته، وهو على هذه الحالة من الظلم والطغيان ومعاداة الله -عز وجل-، وقد دفنوه في القبة الذهبية الضخمة التي بناها على المشهد المزعوم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالكوفة التي يطلق عليها اسم النجف اليوم، وهذا المشهد يعتبر قدس الأقداس عند الشيعة، ومنزلته أعلى من منزلة الكعبة المشرفة، وبفرضون الحج إليها سنوياً على القادر منهم.

 

يتبع...

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات