سلسلة دول الشيعة (2-2) الدولة البويهية في العراق وإيران

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

لم تتأثر الحالة العلمية في العراق وفارس بالتغيرات السياسية الكبرى التي وقعت في عهد البويهيين، وليس هذا بجديد على الحالة العلمية في الدولة الإسلامية على مر عصورها -عدا عصور الانحطاط والوقوع في براثن الاحتلال الأوروبي- فدائماً يحتفظ النشاط العلمي بثباته وكيانه وديمومته رغم التوترات السياسية. وقد شهد عصر البويهيين إزدهارا علميا وأدبيا في عهد البويهيين وبرز الكثير من العلماء في كل فن وعلم، دلّ عليه أن عضد الدولة أمر بتوزيع الجرايات على الفقهاء والمحدِّثين والمتكلمين والمفسرين والنحاة والشعراء والنَّسَّابين..

 

 

 

خامساً: الحالة الدينية في الدولة البويهية:

 

كان الإسلام قد عم فارس، وثبت أقدامه منذ زمن بعيد، وكان أهل السنة هم الأكثرية، فيما كان الشيعة أقلية صغيرة بفارس انحصرت أماكن تواجدهم على ساحل الخليج المقابل لمناطق الجزيرة العربية التي كانت إحدى مراكز الحركات الشيعية، وخلال الحكم البويهي لم يطرأ أي تغيير على انتماءات السكان الدينية رغم تشييع الأسرة البويهية الحاكمة، إذ ظلت فارس مقاطعة سنية. ويبدو أن أنصار المذهب الشيعي انحصروا في فئة محدودة، كذلك كانت حالة المعتزلة الذين عادوا للانتعاش خلال الحكم البويهي، وتولى الكثير منهم مراكز مهمة في الدولة بسبب تشيع الدولة القريب من الفكر الاعتزالي. الوقائع كشفت إن مواقف وسياسات البويهيين تجاه سائر القضايا، والعلاقات مع الأطراف الداخلية كانت محكومة بالواقعية السياسية. فرغم تشيع البويهيين الموصوف بالغلو إلا إنهم لم يفرضوا مذهبهم (الشيعي) كمذهب رسمي للدولة، ولم يدفعوا السكان إلى الالتزام به، فالذكاء السياسي لدى مؤسس الدولة "علي بن بويه" جعله يتروى في فكرة فرض التشيع كما فعلت دول بعده مثل الدولة الصفوية، وكان المكسب الأساسي للمذهب الاثني عشري، من وجود البويهيين في السلطة، هو حريتهم في التحرك والعمل بصورة علنية، ووثوقهم بوجود سلطة تحميهم وتدافع عنهم. ولكن سياسة البويهيين المرنة في هذا المجال غابت أيام حكم معز الدولة لبغداد، فقد كان معز الدولة شيعياً غالياً يحاول بكل قوة نشر التشيع وفرضه على الناس، لذلك شهدت أيامه صحوة الشيعة، كما شهدت صراعات دينية بين الغالبية السنية والأقلية الشيعية بسبب غلو وانحياز معز الدولة.

 

كما كان من الملاحظ أن الشيء الذي تمسك به الخلفاء العباسيون، ولم يسمحوا بإعطائه أو تقليده للأمراء البويهيين هو قضاء القضاة، كونه يعد أكبر منصب ديني بعد الخلافة، ولذا فقد حرم منه رجال وقادة الشيعة، على اعتبار أن ذلك يؤدي إلى إضعاف مركز الخليفة الديني، وتجريده من السيطرة على أكبر جهاز له أهميته في نزاع الخليفة مع الأمير البويهي (الشيعي) من أجل استعادة السلطة الزمنية منه.

 

والأمر اللافت للانتباه هو أن البويهيين رغم كونهم من الشيعة إلا أنهم فشلوا في إكساب ثقة وتعاون الأمراء الشيعة داخل البلاد العراقية؛ لأن البويهيين، كما يظهر في تعاملهم مع الأمراء الشيعة، أمثال عمران بن شاهين وبنو مزيد في الحبة وبنو حمدان في الموصل وحلب، عن أي حاكم سني في بغداد، ذلك لأنهم كانوا يجعلون الاعتبارات السياسية فوق الاعتبارات المذهبية.

 

كما أن آل بويه أسكنوا الشيعة في المشاهد المقدسة عندهم، وخصصوا لهم الرواتب. وأقاموا الأبنية الضخمة، وعليها القباب الرفيعة لتلك الأضرحة الكريمة، حتى إن عضد الدولة أقام في المشهد العلوي هو وجنده قريباً من سنة؛ ليشرف على تعمير القبر بنفسه، وبنى حوله الدور والرباطات، وأجزل للعلويين العطاء، وللمجاورين، والخدمة، وأوجد القناة المعروفة بقناة آل بويه، وفعل مثل ذلك في المشهد الحسيني بكربلاء، ومن المؤرخين من اعتراف بانتشار التشيع في عهد البويهيين، وتكثر الشيعة في دولتهم.

 

سادساً: الحالة العلمية في عهد البويهيين:

 

لم تتأثر الحالة العلمية في العراق وفارس بالتغيرات السياسية الكبرى التي وقعت في عهد البويهيين، وليس هذا بجديد على الحالة العلمية في الدولة الإسلامية على مر عصورها -عدا عصور الانحطاط والوقوع في براثن الاحتلال الأوروبي- فدائماً يحتفظ النشاط العلمي بثباته وكيانه وديمومته رغم التوترات السياسية. وقد شهد عصر البويهيين إزدهارا علميا وأدبيا في عهد البويهيين وبرز الكثير من العلماء في كل فن وعلم، دلّ عليه أن عضد الدولة أمر بتوزيع الجرايات على الفقهاء والمحدِّثين والمتكلمين والمفسرين والنحاة والشعراء والنَّسَّابين والأطباء والحسَّاب والمهندسين، كما بالغ في إكرام العلماء والإنعام عليهم حتى تضاعفت في أيامه المصنَّفات الرائعة في مختلف العلوم، مثل: كتاب الحجة في القراءات السبع لأبي علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي، والكناش العضدي في الطب لعلي بن العباس المجوسي، وكتاب التاجي في أخبار بني بويه لأبي إسحاق إبراهيم الصابي الذي لم يجد في تاريخ الديالمة من المفاخر والأمجاد ما يرضي كبرياء بني بويه؛ فعمد إلى التلفيق واصطناع الأخبار المزيفة ليرضي عضد الدولة، وكان هذا من أسباب غضب السلطان عضد الدولة عليه فيما بعد وسجنه. وصنَّف له الشيخ أبو علي الفارسي كتاب الإيضاح والتكملة في النحو، كما عمل له العالم الفلكي أبو الحسين بن عمر الرَّازي كرة تمثِّل السماء بما فيها من أجرام ونجوم. وكان عضد الدولة فاضلاً محبًّا للعلماء؛ فقصده فحول الشعراء في عصره، ومدحوه بأحسن المدائح، منهم أبو الطيب المتنبي، وَرَد عليه وهو بشيراز في جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وفيه يقول من جملة قصيدته المشهورة الهائية. وعمل الوزراء في دولة بني بويه على تشجيع الحركة العلمية في البلاد، ومن هؤلاء الوزراء أبو الفضل بن العميد (ت 360هـ)، فقد وَزَر ابن العميد للملك ركن الدولة صاحب الرَّيِّ وهمذان وأصفهان، فأشرف على تربية وتعليم ولده عضد الدولة، الذي لقبه الأخير بالأستاذ الرئيس.

 

وازدهر الفن زمن البويهيين في كل مجالاته وبرع الفنانون الفرس في دقة مزج الألوان وإتقان النقوش الهندسية وكانت شهرتهم في فن النقش لها صداها في سائر البلدان حتى وصلت عبقرية المصورين عند بعضهم إلى وضع رسوم المنسوجات وخاصة على السجاد العجمي الشهير، فأتقنوا  صنعها وتفننوا في زخارفها حتى وصلت درجة النبوغ الفني عندهم  في الهندسة المعمارية مرتبة الأستاذية الفائقة وتجلت معالمها في روعة العمائر الفخمة وفي بهاء المنائر الدينية وعظمة  القبب المطعمة بنقوش الفسيفساء الملون،  والتي لازالت  بغداد تزخر  ببعض آثارها حتى  يومنا هذا رغم مرور أكثر من ألف عام على إنشائها.

 

أما أعظم إنجازات الدولة البويهية فتمثل في البيمارستان العضدي الذي أنشأه عضد الدولة أقامه سنة (371هـ) في الجانب الغربي من بغداد، وزوده بما يحتاج إليه من الأطباء والممرضين والخدم والطباخين والأدوات والأدوية، وألحق به بيمارستانًا للمجانين، وكان يعمل به ما يزيد عن ستين طبيبًا في مختلف الاختصاصات، استقدم عضد الدولة بعضهم للعمل في البيمارستان في أماكن مختلفة، وبين هؤلاء الأطباء: جبرائيل بن عبيد الله بختيشوع، وأبويعقوب الأهوازي، وأبوعيسى بقية، والكحال أبونصر الرحبي، وكان يتولى رئاسة الأطباء في البيمارستان أبوالحسن ثابت بن سنان. والبيمارستان كلمة فارسية الأصل تعني المستشفى أو دار المرضى، وهي مركبة من كلمتين: بيمار وتعني المريض، وستان وتعني الدار. وقد تحولت الكلمة مع مرور الزمن إلى "مارستان" التي لا تزال تطلق الآن على مستشفى الأمراض العقلية. ويعد البيمارستان العضدي واحدا من أشهر المؤسسات العلاجية التي أنشئت في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية. وكانت تلك البيمارستانات تسير وفق نظام دقيق وترتيب غاية في الإحكام، فهي تنقسم إلى قسمين منفصلين، أحدهما للذكور والآخر للإناث، ويضم كل قسم قاعات فسيحة لمختلف التخصصات الطبية كالأمراض الباطنية، والجراحة، والكحال (الرمد)، والتجبير (العظام). ولكل قسم من هذه الأقسام مجموعة من الأطباء الاختصاصيين في مختلف فروع الطب يتناوبون العمل فيما بينهم، ويقوم على كل طائفة منهم رئيس لإدارتها وتفقد أحوال المرضى، ويعاون الأطباء مساعدون من الممرضين والمشرفين والخدم يقومون على خدمة المرضى وتقديم الطعام والعلاج لهم. وإلى جانب هذا النظام الداخلي لعلاج المرضى كان يوجد عيادات خارجية تقوم على خدمة المرضى وعلاجهم مما لا تحتاج حالتهم إلى استبقائهم داخل البيمارستان، فكان الطبيب يجلس على دكة، يكتب لمن يرد عليه من المرضى أوراقًا يعتمدون عليها، ويأخذون بها الأدوية والأشربة من صيدلية البيمارستان ليتابع العلاج في بيته، وهي تعد جزءًا مهمًا من مرافق البيمارستانات يقوم عليها الصيادلة، وتحتوي على أنواع مختلفة من الأدوية والأشربة والمعاجين.

 

سابعاً: حروب البويهيين:

 

خلال عهد الدولة البويهية تمرد أمراء المقاطعات على الحكومة المركزية في بغداد بعدما تبين لهم  ضعف الخلفاء وتضعضع الأوضاع السياسية فيها  وأصبحوا هم حكامها الفعليين رغم كونهم بقوا محتفظين باعترافهم  لسلطة  الخليفة العباسي السياسية والدينية،  وقد حاول الفقهاء تبريراً شرعياً للنظام القائم، وتوصلوا إلى إيجاد صيغة توافق بينهما ووضعوا أسسها مما جعل السلطة الدينية من اختصاص الخليفة العباسي بينما السلطة الدنيوية تبقى ضمن امتياز الأمير  البويهي، لكن رغم كل ذلك  تمادى  البويهيون مطالبين الخليفة مشاركتهم في امتيازات الخلافة وشاراتها الدينية والزمنية معاً.  لتشمل صلاحية الإشراف على إدارة النفقات العامة ودفع رواتب الجند ومراقبة أمور الدولة، فأجابهم  الخليفه الراضي بالله بأنه قد قلدهم  قيادة الجيش وأفضى عليهم لقب أمير الأمراء وفوضهم  إدارة أمور المملكة كما أمر لهم  أن تذكر أسماؤهم  من على المنابر في صلاة الجمعة، معنى ذلك أن الخليفة اعترف ضمناً بالوجود المادي للمحتل الذي يزاحمه  في حكم الخلافة الإسلامية وإقراره على ضعف سلطة الخلافة وتحويلها  التدريجي إلى السلطة العسكرية البويهية،  فقد غدا الخليفة العباسي ألعوبة بيد الفرس الغزاة حتى تقلصت امتيازاته آخر المطاف واقتصرت على إدارة مطابخ قصر الخلافة ومنح العطايا ليس إلا،  رغم ذلك استمرت المضايقات وتضاعفت إلى حد أصبح الخليفة عاجزاً على  مواجهتها.

 

هذا الاختلال البين في مكانة الخلافة ومقامها جعل أمراء الأطراف والولايات يستقلون بما تحت أيديهم، فظهرت عدة دويلات، والعجيب أن أغلبها كان شيعياً، مثل الدولة الحمدانية، وبنو أسد في الحلة، وبنو مزيد، وعمران بن شاهين، وغيرهم. وكان أبو القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي أميرًا على البصرة باسم معز الدولة، ولكن نفسه كانت تطمح إلى الاستقلال بها، فكان لا يرسل إلى معز الدولة خراجًا. وفي سنة 335هـ اختلف معز الدولة بن بويه وأبو القاسم البريديّ والي البصرة، فأرسل معز الدولة جيشًا إلى واسط، فسيَّر إليهم البريدي جيشًا من البصرة في الماء، وعلى الظهر، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم أصحاب البريدي، وأُسر من أعيانهم جماعة كثيرة. وفي سنة 336هـ سار معز الدولة ومعه المطيع لله إلى البصرة لاستنقاذها من يد أبي القاسم البريدي، وسلكوا البرية إليها، فأرسل القرامطة من هَجَر إلى معز الدولة ينكرون عليه مسيره إلى البرية بغير أمرهم، وهي لهم، فلم يجبهم عن كتابهم، وقال للرسول: قل لهم من أنتم حتى تُستأمروا؟! وليس قصدي من أخذ البصرة غيركم، وستعلمون ما تلقون مني. ولما وصل معز الدولة إلى الدرهمية استأمن إليه عساكر أبي القاسم البريدي، وهرب أبو القاسم إلى هَجَر، والتجأ إلى القرامطة، وملك معز الدولة البصرة.

 

كما كان معز الدولة وناصر الدولة بن حمدان يتنازعان السلطان، وكلٌّ يريد الإغارة على ما بيد الآخر؛ ففي سنة 337هـ سار معز الدولة من بغداد إلى الموصل قاصدًا الاستيلاء عليها، فلما سمع ناصر الدولة بذلك سار عن الموصل إلى نصيبين، ووصل معز الدولة فملك الموصل في شهر رمضان، وظلم أهلها وعسفهم، وأخذ أموال الرعايا، فكثر الدعاء عليه. وأراد معز الدولة أن يملك جميع بلاد ناصر الدولة، فأتاه الخبر من أخيه ركن الدولة أن عساكر خراسان قد قصدت جرجان والرَّيّ، ويستمده ويطلب منه العساكر؛ فاضطر إلى مصالحة ناصر الدولة، فترددت الرُّسل بينهما في ذلك، واستقر الصلح بينهما على أن يؤدِّي ناصر الدولة عن الموصل وديار الجزيرة كلها والشام كلَّ سنةٍ ثمانية آلاف ألف درهم، ويخطب في بلاده لعماد الدولة، وركن الدولة، ومعز الدولة بني بويه، فلما استقر الصلح عاد معز الدولة إلى بغداد.

 

كما حدثت قوة جديدة زادت من متاعب معز الدولة ومشاغله، وهي قوة عمران بن شاهين (329- 369هـ) الذي كان في أول الأمر جابيًا؛ فقد جَبَى جبايات ثم هرب إلى البَطِيحة، وهي أرض واسعة بين واسط والبصرة، جاء إليها عمران بن شاهين خوفًا من السلطان فتحصَّن بها، ثم صار يقطع الطريق على من يسلك البطيحة، واجتمع إليه جماعة من الصيادين واللصوص، فقَوِي بهم وحمى جانبه من السلطان. فلما اشتدَّ أمره سيَّر معز الدولة إليه جيشًا بقيادة وزيره أبي جعفر الصَّيْمرِيّ، فانتصر أبو جعفر على عمران انتصارًا باهرًا، وكاد يأخذ عمران لولا أن شغل معز الدولة بوفاة أخيه الأكبر عماد الدولة، فاضطر إلى أن يأمر وزيره بقصد شيراز لإصلاحها، ففارق البطيحة، وكان ذلك متنفسًا لعمران الذي زادت قوته، ولم تستطع جيوش معز الدولة بعد ذلك الانتصار عليه. واضطر معز الدولة إلى مصالحته، ثم قلَّده البطائح، فقوي واستفحل أمره، وقد استمر ملك عمران بن شاهين بالبطيحة من سنة (329هـ- 369هـ)، أي أربعين سنة، كان فيها شَجًا في حَلْق بني بويه، لا يقدرون منه على شيء، وانتقل الملك منه إلى أعقابه ومواليهم إلى سنة 408هـ.

ثامناً: سقوط الدولة البويهية:

 

اتسمت علاقة بلاد فارس بالبويهيين، بعلاقة تبادلية، فكما نجح البويهيون في توفير الأمن وأجواء التسامح وتسهيل متطلبات الحركة التجارية وتوفير متطلبات النمو الاقتصادي، وفوق كل ذلك ضبط الجيش وإبعاده عن صراعاتهم الداخلية، أعطتهم بالمقابل لكل متطلبات استمرار حكمهم لها. لكن أحوال فارس أخذت فيما بعد بالتدهور منذ أيام صمصام الدولة، أي منذ أن نقل البويهيون صراعاتهم إلى داخلها، وكان نظام الوراثة المتبع لديهم أحد أسباب تلك الصراعات، ومنذ أن فقد أمراء فارس القدرة على ضبط الجيش بصراعاته وانقساماته وتعدد ولاءاته وبأعماله مثلما كان عليه جيش العراق.

 

أما أبر أسباب انهيار الحكم البويهي وسقوط الدولة البويهية فتتحدد بالآتي:

 

1-خضوع مقاطعات المملكة البويهية (فارس والعراق) لنظام الإقطاع العسكري وانعكاس أضراره على مجمل قطاعات ونشاطات المجتمع، وخاصة النشاط الاقتصادي. وفي ظل سيطرة طبقة العسكر نشأت إمارة الأمراء في العراق، وبالتالي انتقال الإدارة المدنية للبلاد إلى الإدارة العسكرية، وتحديداً أمير الأمراء وقواده العسكريين. فخربت البلاد، وهجر المزارعون أراضيهم، وتعطلت السبل، وعمّ الغلاء، وشحت الأقوات.

 

2-تزايد ظاهرة الصراعات والانقسامات داخل كتل وأجهزة الدولة البويهية، وهذا سبب تدهور الوضع الأمني بشكل عام، وانتشار مظاهر الفساد والسرقة والرشوة وجرائم القتل.

 

3-نجاح الفاطميين في سنة 391هـ من تحويل تجارة المحيط الهندي، من الخليج إلى البحر الأحمر، وإلحاق الضرر الاقتصادي والتجاري الفادح باقتصاد الدولة البويهية.

 

4-سيطرة الغزنويين على خطوط المواصلات البرية المؤدية إلى الهند والصين، وهذا الأمر أضعف التجارة البرية لبلاد فارس.

 

5-التهديد العسكري والحربي الذي تمثل بالسلاجقة، وحالة الذعر والفوضى التي عمت إيران نتيجة التقدم السلجوقي، ومن ثم استيلائهم على كل مناطق المملكة البويهية؛ ليضيق الخناق على فارس التي كانت تعيش أسوأ لحظاتها مع أسوأ أمراءها (فلاستون)، الذي لم يستطع أن يقف بوجه إحدى قبائل الأكراد المحلية (شبنكارة) التي نشرت الفوضى والدمار بأرجاء فارس، ثم أطاحت بـ فلاستون، ونصب رئيسها فضلويه، أصغر إخوة فلاستون أميراً، فيما هو الحاكم الفعلي لفارس.

 

6-سوء التصرف بخزانة الدولة وعائداتها المالية وما يتصل بالنفقات، كما صارت أموال النواحي والولايات تحمل إلى خزائن الأمراء فيأمرون وينهون فيها، وفي الوقت ساد فيه الاضطراب على الحالتين المالية والإدارية، فإن الضرائب هي الأخرى كانت عاملاً إضافياً زاد في سوء الأحوال.

 

تاسعاً: البويهيون والمجوس:

 

البويهيون ينتمون إلى عشيرة الديلم التي كانت تسكن في جبال طبرستان وجرجان، وكانوا قبل الإسلام على المجوسية، وظلوا يؤدون الجزية إلى الدولة الإسلامية حتى دخل الإسلام فيهم على المذهب الزيدي الشيعي ابتداءً من سنة 250هـ. وابتداء خروج علي بن بويه  -أكبر أبناء بويه- كان عندما قدم مع إخوته على (مرداويج)، وكان هذا الأخير قائداً لـ (أسفار بن شيرويه) الذي أقام ثورته سنة 316 هجرية، وملك الجيل وطبرستان، واستولى كذلك على جرجان، وقزوين، والري، وقم.  ولم يكن قد أسلم بعد، وكان مجوسياً متعصّباً لدينه، وكان يسيئ معاملة المسلمين، حتى إنه أمر ذات يومٍ أن يلقي بمؤذن كان يؤذن للصلاة من فوق المنارة، وأمر بخراب المساجد. وكان (مرداويج) أحد أتباعه، وقادته العسكريين. ولم يكن مرداويج في الأصل مسلماً، فكان مسلماً في الظاهر مجوسياً في الباطن، وكان متعلقاً بالآداب الفارسية القديمة، ومراسيم المذهب الزرادشتي. ولهذا كان شديد الكره للخليفة العباسي وولاته العرب، وكان يحتفل بأعياد المجوس، وخاصة عيد النيروز. فإضافة إلى قرب عهدهم بالمجوسية، فإن احتفاء مرداويج بهم، وتسليمهم ولاياتٍ، وثقته بهم، تبعث على الريبة في معتقدهم. فإذا كانت اليهود والنصارى لا ترضى عنا حتى نتبع ملتهم، فكيف بالمجوس؟ ولم يكن لهذا القائد المحنك أن يضع ثقته فيهم، ويسلّمهم الولايات، لولا ما علم من أمر تقاربه معهم، في الفكر والدين والعقيدة. ولو التمس منهم حسن إسلامهم لما كان لهم الحظوة عنده، ولما فرح بقدومهم عليه.

وهذا يشير إلى مدى الثقة التي كانت تجمعه بهم، وقد علمنا حاله وشأنه ومجوسيته، فلا نستبعد أن يكونوا كلهم مجوساً.

 

وما يشهد لذلك أيضاً، ويؤكد ميل البويهيين للمجوس؛ هو سعيهم في الحفاظ على بيوت النار المجوسية، وعمارتها، ورعايتها. وكانت بيوت النار كثيرة ومنتشرة في فارس، في ذلك الوقت، مما مكّنهم من الحفاظ على دينهم، ووحدتهم، وتماسك أتباعهم، مستفيدين من رعاية حكام بني بويه لهم. فبالرغم من ضآلة عدد الزرادشتيين المجوس، إلا أن بيوت النار انتشرت بشكل كبير في فارس في ذلك الوقت مما يدلل على الحظوة الكبيرة التي تمتعوا بها في العصر البويهي، حيث ذكر الجغرافيون أن معظم هذه البيوت بقيت في حوزة أتباعها، كما بقيت كتبهم وديانتهم محفوظة لهم. ولا شك أن كثيراً منها كان موجوداً من قبل الفتح الإسلامي المبارك، إلاّ أن انتشار بيوت نارهم بعد ثلاثة قرون من الفتح -مع ما يستتبع ذلك من قلة عددهم وانحسارهم- يدل على رعاية مميزة حظوا بها في ظل العهد البويهي، مكنتهم من إعادة إعمار كثير من بيوت النار، وترميمها وإصلاح ما خرب منها. وذكر الاصطخري الفارسي في مشاهداته لفارس، أنها امتلأت ببيوت النار والمجوس، فلم تخل ناحية، ولا مدينة بفارس منها. وقال في موضع آخر: "وأمّا بيوت نيران فارس، فتكثر عن إحصائي وحفظي، إذ ليس من بلد، ولا رستاق، ولا ناحية، إلّا وبها عدد كثير من بيوت النيران"، وقد عاصر الاصطخري الفارسي الدولة البويهية، وتوفي سنة 346 هجرية. ويبعد كل البعد أن تكون كل هذه البيوت من قبل الفتح الإسلامي، بمعنى أنه مضى عليها أكثر من ثلاثة قرون من الزمان، ولو كانت هذه البيوت من أطلال بيوت النار التي وجدت من قبل الفتح الإسلامي العمري المبارك، لخربت واندرست معالمها، وضاعت آثارها، ونُسيت أسماؤها.

 

ولعل ما يعزز هذه الشواهد أيضاً؛ أن حكام بني بويه قد التزموا الأسماء المجوسية الفارسية، فاسم عضد الدولة هو (خسرو)، وهو اسم مجوسي فارسي بامتياز، ويحب الإيرانيون والمجوس هذه الأسماء؛ لأنها تذكرهم بدينهم القديم، وأمجاد ماضيهم. واسم ابنه (مزربان)، واسم ابنه الآخر (فيروز شاه)، واسم ابنه الثالث (شيرذيل)، وعز الدولة ابن أحمد معز الدولة، اسمه (بختيار)، واسم ابنه بهاء الدولة (خسرو فيروز)، كما نجد أيضاً من أسماء بنيهم (فولادستون)، و(اسفنديار). وهؤلاء كلهم أمراء حكموا الدولة البويهية، وأسماؤهم أعجمية مجوسية، وليست عربية إسلامية، مما يكشف عن تأثرهم الواضح بالديانة المجوسية، وماضي الفرس العريق.

ولا شك أن مجرّد التسمي بهذه الأسماء الأعجمية لا يشكّل لوحده دليلاً على فساد الدين، وذلك لورود بعض الأسماء الأعجمية لرجال حسُن إسلامهم، إلاّ أن تسمية حكام بني بويه بأسماء أعجمية فارسية، لها رمزية خاصة في الدين المجوسي، مع حداثة عهدهم بالإسلام، قد يعزز شواهد اعتناقهم أو ميلهم إلى المجوسية، إذا اقترن ذلك بما ثبت عنهم من ميلٍ ومحاباةٍ للمجوس.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات