سلسلة دول الإسلام في أعالي البحار (7) البحرية الإسلامية والحملات الصليبية ‘2‘

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

كان المماليك يتحرقون غيظًا وشوقًا للهجوم على قبرص والانتقام لمجزرة الإسكندرية والقضاء على ذلك المركز الصليبي الخطير، ولكن لم يتمكنوا من ذلك إلا بعد ستين سنة من واقعة الإسكندرية، وفي عهد السلطان الأشرف سيف الدين برسباي (825هـ -842هـ) الذي استغل حادثة هجوم القراصنة البرتغاليين على سفينة هدايا مصرية متجهة نحو السلطان العثماني مراد الثاني سنة 827هـ، فشن ثلاث حملات بحرية خلال الفترة...

 

 

 

 

تكلمنا في الجزء الأول عن البحرية الإسلامية في عهد الفاطميين والأيوبيين ضد الحملات الصليبية، وفي هذا الجزء سوف نتكلم عن البحرية الإسلامية في عهد المماليك.

 

البحرية الإسلامية في عهد المماليك:

 

تدهورت الأوضاع السياسية في أواخر الدولة الأيوبية؛ مما أدى لتدهور أجهزة الدولة وكفاءتها، فقلَّ الاعتناء بالأسطول، وأصاب الإهمال شتى أجهزته، وأخذ الناس ينصرفون عن الالتحاق بالبحرية؛ حتى استفحل الأمر، ووصل لئن يُقتاد الناس اقتيادًا للخدمة في الأسطول، ويُقبض عليهم في الطرقات، ويعاملون أسوأ معاملة، بل أشد من معاملة أسرى الأعداء، ووصل الأمر لئن تعتبر الخدمة في الأسطول عارًا يُسب به الرجال، فإذا قيل لرجل "يا أسطولي" غضب غضبًا شديدًا، بعدما كان خدام الأسطول يقال لهم «المجاهدون والغزاة» ويتبرك بدعائهم.

 

فقد المسلمون سيطرتهم على البحر المتوسط-منذ قيام الحركة الصليبية-بالتدريج بحيث صار بحرًا أوروبيًا؛ لانشغال المسلمين بمواجهة الحملات الصليبية، ومقاومة الإمارات الصليبية التي قامت بالشام، ورغم الانتصارات الباهرة التي حققها المسلمون على الصليبيين في المجال البحري، إلا إنها-في النهاية-كانت حروباً دفاعية ومعاركَ من أجل البقاء، وطرد الاحتلال.

 

وعلى الرغم من أن المماليك كانوا فرسانًا وأصحاب خيل وقوتهم القتالية في البر؛ إلا أنهم قد نجحوا نجاحًا بحريًا فاق كل من سبقهم، وحققوا الإنجاز الأكبر بطرد الصليبيين للأبد من بلاد الإسلام، وأحبطوا محاولات الصليبيين-المتكررة-للعودة إلى سواحل الشام ومصر، وحققوا نقلة متقدمة في الصراع البحري ضد الصليبيين الذين حاولوا التجمع في جزر البحر المتوسط مثل: قبرص ورودس؛ لمعاودة الهجوم على العالم الإسلامي.

 

وعلى الرغم من أن المماليك قد نجحوا في تطهير سواحل الشام من فلول الصليبيين سنة 691هـ إلا أن الصراع بين المماليك والصليبيين استمر طوال مدة الدولة المملوكية (648هـ-922هـ)، وهذا الصراع كان على مرحلتين:

 

1-الصراع بين الصليبيين والمماليك البحرية (648هـ -792هـ).

 

2-الصراع بين الصليبيين والمماليك الجراكسة (792هـ -922هـ).

 

 أولاً: الصراع البحري بين الصليبيين والمماليك البحرية (648هـ -792هـ)

 

كان السلطان الظاهر "بيبرس" (658هـ-676هـ) أول سلاطين المماليك اهتمامًا بإنشاء قوة بحرية فاعلة في الصراع مع أعداء الدولة، وكان الظاهر بيبرس معروفًا بالشجاعة والجراءة والبساطة في نفس الوقت، فقد كان يشرف بنفسه على بناء الأساطيل، وكان كثيرًا ما يجلس في دار صناعة؛ السفن ليتابع سير العمل، حتى أنه-ذات مرة-استقبل سفراء ملك صقلية في دار صناعة مصر، فدخلوا عليه وهو جالس بين الأخشاب والصناع والأمراء بين يديه تحمل آلات الشواني كما قال المؤرخ المقريزي، فراعهم ما شهدوا.

 

وقد اهتم الظاهر بيبرس بتحصين الثغور، وحفظ السواحل، وتعمير الجسور المؤدية إليها، كما ردم فرع النيل-عند دمياط-وسده بصخور ضخمة؛ ليحول دون مرور سفن الصليبيين، حيث كانت دمياط الهدف المفضل للحملات الصليبية الأخيرة، كما شيد برجًا للمراقبة في ثغر رشيد، وعمَر أسوار الإسكندرية، ونصب عليها مائة منجنيق؛ للدفاع عنها، واهتم بيبرس بثغر الإسكندرية اهتمامًا بالغًا؛ حتى أنه قد زاره أربع زيارات وتقرب من أهلها.

 

في بداية عهد الدولة المملوكية، اتبع الصليبيون في الشام سياسة ماكرة خبيثة، ذلك لأنهم-مع فشلهم المتكرر في الهجوم على العالم الإسلامي-أخذوا في التعاون مع القوة الغاشمة الجديدة وهم المغول، فلقد كان يعمل الصليبيون أدلاَّء ومرشدين للجيوش المغولية المغيرة على بلاد الشام، حتى إن بعض الإمارات الصليبية مثل: طرابلس، وأنطاكية قد سمحت للحاميات المغولية بالنزول في حصونها من باب التعاون العسكري ضد المسلمين.

 

لذلك اتسمت سياسة السلطان بيبرس نحو الصليبيين بالشدة والحسم والإصرار على تطهير بلاد الإسلام منهم، وابتداءً من سنة 663هـ دخل بيبرس في حرب مفتوحة واسعة النطاق ضد الإمارات الصليبية، بدأها بالاستيلاء على قلعة "صفد" التي كانت قاعدة لفرسان المعبد في حزمة قاسية، أرغمت الكثير من الأمراء الصليبيين للمسارعة بمهادنة الظاهر بيبرس، ودفع الجزية، ولكن لم تُوقِفْ هذه المهادنة الظاهر بيبرس عن مواصلة خططه الرامية؛ لإنهاء الوجود الصليبي بالشام، فهاجم إمارة طرابلس سنة 669هـ بغية تحريرها، ولكنه اضطر لرفع الحصار عنها؛ لنجدة مدينة عكا من حملة صليبية إنجليزية بقيادة الأمير إدوارد.

 

وكان الملك هيو الثالث (ملك جزيرة قبرص) معروفًا بأطماعه الصليبية وعداوته الشديدة للمسلمين، وتكررت اعتداءاته على سواحل الشام، والقوافل التجارية البحرية، فأعد الظاهر بيبرس أسطولاً بحرية سنة 669هـ لغزو قبرص، وقد استخدم قائد الحملة الريس بن حسون حيلة غريبة للهجوم على الجزيرة، حيث لبس ملابس النصارى ورسم الصلبان على الأشرعة واصطحب الخنازير، وكره المجاهدون تلك الحيلة، وبقدر الله-عز وجل-هبت عاصفة بحرية عنيفة؛ حطمت الأسطول الإسلامي وفشلت الحملة.

 

بعد رحيل الظاهر بيبرس، حمل الراية من بعده السلطان المنصور قلاوون (678هـ - 689هـ) ففتح إمارة أنطاكية، ثم فتح طرابلس الشام، وقام بنقلها من على السواحل إلى الداخل، وأقام مكانها عددًا من الأبراج على طول الساحل حول الميناء.وخلف قلاوون على عرش الدولة المملوكية ابنه الأشرف خليل (689هـ - 693هـ) الذي وجه كل اهتمامه نحو القضاء على آخر البؤر الصليبية في الشام وهي عكا، وهو ما نجح فيه بالفعل سنة 691هـ، بعدها وجه الأشرف خليل اهتمامه نحو بناء بحرية قوية تقوم بواجب الحماية للثغور والسواحل الإسلامية في الشام ومصر، وبعد مقتل الأشرف خليل-غدرًا على يد بعض الأمراء-واصل أخوه السلطان الناصر محمد الاهتمام بالبحرية للدفاع عن سواحل العالم الإسلامي، خاصة وأن بعض فلول الصليبيين المطرودة من الشام قد استقرت في جزيرة "أرواد" الواقعة على بعد ثلاثة أميال في البحر أمام بلدة أنطوسوس شمال طرابلس الشام، فأعد الناصر محمد أسطولاً قويًا وأطبق على الجزيرة في سنة 702هـ وقضى على الوجود الصليبي العدائي بها.

 

لم يبق مصدر للخطورة الصليبية على العالم الإسلامي سوى جزيرة قبرص التي ستلعب دورًا خطيرًا في استمرار دفة الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، خاصة وأن ملوك قبرص كانوا يضطرمون بحقد صليبي ضخم ضد العالم الإسلامي عامة والمماليك خاصة، وخلال حكم المماليك البحرية، كانت التجارة البحرية مزدهرة بعد أن تم تطهير سواحل الشام من الوجود الصليبي، وازدادت القوة الاقتصادية للمماليك، ففكر ملك قبرص بطرس الأول (1350م – 1369م) في الهجوم على الإسكندرية، وكانت أهم ثغر تجاري وأكبر مورد مالي للدولة، وبالفعل أعد حملة صليبية بحرية كبيرة؛ هجم بها على الإسكندرية سنة 767هـ - 1365م، فعاث فيها فسادًا وتخريبًا ولكنه لم يستطع أن يمكث بها أكثر من أسبوع، وسوف نتعرض لتلك الحملة بنوع من التفصيل في أشهر المعارك البحرية.

 

ثانيًا: الصراع البحري بين الصليبيين والمماليك الجراكسة (792هـ -922هـ)

في أواخر عهد المماليك البحرية؛ سادت البلاد فوضى سياسية؛ نتيجة التصارع على الحكم، وبالتالي تعطلت معظم أجهزة الدولة ومن ضمنها الأساطيل البحرية، حتى استلم الظاهر برقوق السلطنة سنة 792هـ، فبدأ الاستقرار يعود لقطاعات وأجهزة الدولة.

 

وفي المقابل ظلت اعتداءات القبارصة الصليبيين على السواحل الإسلامية، والقوافل التجارية مستمرة دون انقطاع، وأصبحت سواحل قبرص المتعرجة؛ مأوى للكثير من القراصنة الأوربيين، وقد شجعهم ملوك قبرص على الاعتداء على كل ما هو إسلامي.

 

كان المماليك يتحرقون غيظًا وشوقًا للهجوم على قبرص والانتقام لمجزرة الإسكندرية والقضاء على ذلك المركز الصليبي الخطير، ولكن لم يتمكنوا من ذلك إلا بعد ستين سنة من واقعة الإسكندرية، وفي عهد السلطان الأشرف سيف الدين برسباي [825هـ - 842هـ] الذي استغل حادثة هجوم القراصنة البرتغاليين على سفينة هدايا مصرية متجهة نحو السلطان العثماني مراد الثاني سنة 827هـ ، فشن ثلاث حملات بحرية خلال الفترة من سنة 827هـ حتى سنة 829، نجحت في نهايتها لإخضاع قبرص، وأسر ملكها، والقضاء على أوكار القراصنة بها، وأصبحت قبرص ولاية مملوكية تتبع سلطان مصر والشام.

 

لم يبق من فلول الصليبيين-بعد سقوط قبرص-سوى دولة الفرسان الاستبارية، أو فرسان القديس يوحنا في جزيرة "رودوس" وقد قامت تلك الدويلة بمساعدة ملوك قبرص ونتيجة لذلك قام نوع من التعاون السياسي والعربي المشترك ضد المسلمين، وصار تاريخ قبرص ورودس شديد الارتباط، والأسطول القبرصي الذي أغار على الإسكندرية سنة 767هـ كان يضم عددًا كبيرًا من فرسان رودس، كما شارك الروادسة إخوانهم القبارصة في الدفاع عن جزيرة قبرص عندما هاجمها المماليك.

 

وبعد سقوط قبرص أيقن فرسان رودس أن غزو المماليك لجزيرتهم مسألة وقت، فاستعدوا لذلك بتحصين دفاعات الجزيرة، فأقاموا القلاع والحصون والأسوار، وبثوا الجواسيس في مصر والشام لمعرفة نوايا السلطان، وابتداءً من سنة 843هـ وفي عهد السلطان "جقمق" شن المماليك ثلاث حملات قوية؛ كي يفتحوا رودس ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، واتجه فرسان "رودس" بعدها لمهادنة المماليك تارة، ومعاداتهم تارة، حتى استولى العثمانيون على الجزيرة نهائيًا سنة 927هـ.

 

 الصراع البحري بين المماليك الجراكسة والبرتغاليين:

 

خفت حدة الغارات الصليبية على السواحل الإسلامية في أعقاب فتح جزيرة قبرص سنة 843هـ، والهجوم على جزيرة "رودوس" الذي قلَّم أظافر فرسان المعبد الصليبي، ولكن لاح في الأفق عدو صليبي جديد أشد ضراوة وأعظم خطرًا وأكثر صليبية، وهم البرتغاليون الذين سيتولون قيادة دفعة الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، منذ مطلع القرن العاشر الهجري.

 

كان المماليك يتحكمون في طريق التجارة العالمية في المشرق إلى المغرب والعكس، حيث لم يكن لتجارة الهند والشرق الأقصى طريق سوى البحر الأبيض المتوسط، وكذلك تجارة أوروبا كانت لا بد أن تمر عبر البحر المتوسط، ولذلك حقق المماليك أرباحًا هائلة ساهمت في تدعيم وتقوية مركز الدولة أمام خصومها.

 

وقد أثارت تلك الأرباح الطائلة حقد وحسد أوروبا الصليبية، وكان البرتغاليون أكثرهم حقدًا وحسدًا، وأيضًا كانوا مهرة وخبراء في ركوب البحر بحكم موقعهم الجغرافي المطل على ساحل المحيط الأطلسي، ففكر ملك البرتغال هنري الثالث الملقب "بهنري الملاح" في إطلاق فكرة "الكشوف الجغرافية"؛ للوصول إلى بلاد الهند عن طريق غرب القارة الإفريقية بدلاً من شرقها، وبدأ في إرسال الحملات البحرية الواحدة تلو الأخرى؛ حتى نجح البحار البرتغالي (فاسكو دى جاما) بمساعدة البحار العربي (أحمد بن ماجد) في اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، وقد اعتمد ابن ماجد على كتاب عربي قديم اسمه "رهماني" قد وضعه البحارة العرب الأوائل في علم البحار.

 

كان ذلك الاكتشاف إيذانًا بإطلاق سلسلة حملات صليبية برتغالية بحرية على جنوب العالم الإسلامي ناحية اليمن وعمان والخليج العربي، تحت قيادة الطاغية البرتغالي الشهير (ألفونسو بوكرك)؛ من أجل السيطرة على التجارة العالمية، ومحاربة العالم الإسلامي، وتمكن البرتغاليون من السيطرة على جنوب الخليج، وعاثوا في الأرض فساداً، وذبحًا وتنكيلاً، ووصلت حملاتهم إلى جنوب غرب الهند، فاحتلوا الكوجرات وأقاموا مراكز تجارية على سواحلها.

 

في تلك الفترة كان الأسطول المملوكي يعتبر أكبر قوة بحرية في المنطقة، لذلك توجهت الأنظار إليه، فأرسل السلطان "مظفر شاه" ملك الكوجرات الهندي، والسلطان "عامر" ملك اليمن يطلبان من السلطان المملوكي "قنصوه الغوري" المساعدة سنة 913هـ للتصدي للطغيان البرتغالي، كما تدخل تجار البندقية في الصراع ضد البرتغاليين؛ بسبب الضرر الشديد الذي أصاب تجارتهم على يد البرتغاليين.

 

دارت معارك بحرية طاحنة بين الأسطول المصري بقيادة "حسين الكردي" وبين الأساطيل البرتغالية في مياه الخليج العربي ثم في مياه الساحل الهندي، وخلال تلك المعارك تبادل المصريون والبرتغاليون النصرَ؛ حتى كانت في النهاية معركة "ديو البحرية" سنة 915هـ والتي انجلت عن نصر برتغالي حاسم، خرجت به القوة البحرية لدولة المماليك من حلبة الصراع للأبد، إذ لم تلبث الدولة أن سقطت بالكلية على يد السلطان سليم الأول العثماني سنة 922هـ.

 

ولكن يبقى أن نعلم أن البحر الأحمر بقي تحت سيطرة البحرية المملوكية-بلا منازع-وفشل الأسطول البرتغالي في السيطرة عليه عدة مرات.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات