اقتباس
حققت البحرية العثمانية نجاحًا كبيرًا سنة 979هـ بفتح جزيرة قبرص الإستراتيجية وكانت من أملاك البندقية وقتها، وقام العثمانيون بنقل أعداد كبيرة من سكان الأناضول إلى الجزيرة وما زال أحفادهم مقيمين حتى الآن بها ويطلق عليهم اسم القبارصة الأتراك.
يبدأ تاريخ الدولة العثمانية في آخر سنة من القرن السابع الهجري، تحديدًا سنة 699هـ على يد مؤسس الدولة عثمان الأول بن أرطغول في آسيا الصغرى – الأناضول – أي أن قيام الدولة العثمانية كان قريبًا من قيام الدولة المملوكية في مصر، ولكن مع الفارق أن المماليك قد ورثوا دولة كبيرة عن سلفهم الأيوبيين، في حين أن العثمانيين قد وسعوا رقعة دولتهم بأيديهم شيئًا فشيئًا حتى صارت أكبر وأقوى دولة في العالم وقتها.
الدولة العثمانية في بدايتها كانت دولة حبيسة أي ليس لها سواحل أو ثغور، محاطة بالإمارات التركمانية في الأناضول من كل اتجاه، لذلك كان من الطبيعي ألا يكون للدولة قوة بحرية لعدم الحاجة إليها، حتى استطاع الأمير عثمان الأول أن يجد لدولته منفذًا على بحر مرمرة، وفي سنة 758هـ اجتاز الأمير سليمان بن أورخان مضيق "الدردنيل" ليلاً مع أربعين رجلاً واستولوا على أسطول بيزنطي صغير كان راسيًا على الضفة الغربية وعادوا به إلى الضفة الشرقية وكان ذلك أول أسطول يمتلكه العثمانيون، وقد استخدم الأمير سليمان هذا الأسطول في فتح ميناء قلعة "ترنب" و "جاليبولي" وكان ذلك الفتح أول انتصار بحري تحققه العثمانيون.
الدولة العثمانية قام على أساس هدف إستراتيجي شديد الأهمية وهو فتح مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية التي جاءت الآثار النبوية المخبرة بفتحها والثناء الكبير على فاتحيها، والقسطنطينية مدينة بحرية تطل على البحر الأسود، وتقع في البرين الأوروبي والآسيوي، ولها تحصينات دفاعية بحرية متينة وقوية، لذلك بدأ العثمانيون في التفكير في بناء قوة بحرية قادرة على اختراق تلك التحصينات القوية.
انشغل العثمانيون طويلاً بصراعهم داخل الأناضول مع الإمارات التركمانية، ثم الصدمة العنيفة التي تلاقها العثمانيون من تيمورلنك سنة 803هـ، ثم الصراع الداخلي بين أبناء السلطان بايزيد الصاعقة، وهي أمور شغلت العثمانيين كثيرًا على بناء قوة بحرية على الرغم من امتلاكها لكثير من الموانئ والثغور في آسيا وأوروبا، حتى أن السلطان مراد الثاني ورغم قوة الدولة في عهده [824هـ - 855هـ]، استأجر الأسطول الجنوي لينقل جيشه الذي يبلغ أربعين ألف جندي من البر الأسيوي إلى البر الأوروبي سنة 848هـ أثناء معركة فارنا الشهيرة ضد التحالف الصليبي بقيادة ملك المجر الغادر [لاديسلاسي].
دور البحرية العثمانية في فتح القسطنطينية:
حاول العثمانيون فتح القسطنطينية عدة مرات أيام السلطان بايزيد الصاعقة ومراد الثاني، ولكن لغياب القوة البحرية لم يتمكن العثمانيون من فتحها، ولقد أدرك السلطان محمد الثاني الملقب بالفاتح تلك الحقيقة فعمل على بناء أسطول كبير وقوي يكون مؤهلاً للقيام بدوره في فتح القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يمكن فتحها برًا فقط، وقد بلغ عدد سفن الأسطول العثماني أربعمائة سفينة من كل الأحجام والأنواع.
كانت القسطنطينية محاطة بالماء من ثلاث جهات، مضيق البسفور، وبحر مرمرة، والقرن الذهبي والأخير كان محميًا بسلسلة حديدية ضخمة لمنع السفن المغيرة على المدينة، إضافة إلى ذلك الكثير من الأبراج والقلاع والأسوار المنيعة التي تجعل المدنية من أشد مدن العالم تحصينًا ومناعة.وعندما عزم السلطان محمد الفاتح على فتح المدينة وأمر أساطيله بالانتشار في المحيط المائي للمدينة، وحاولت تلك الأساطيل تخطى السلاسل الضخمة التي تتحكم في مدخل القرن الذهبي ولكنها فشلت، كما فشلت أيضًا في منع وصول الإنجدادات الأوروبية التي جاءت من إيطاليا بحرًا، مما أدى لغضب السلطان محمد علي قائد الأسطول [بالطة أوغلى] وعزله من منصبه بعد تعنيفه بشدة، وجعل مكانه حمزة باشا والحق أن ضعف الخبرة البحرية اللازمة لمثل هذا الفتح الكبير كان السر وراء فشل دور الأسطول في تلك المرحلة من الفتح.
كان للفشل البحري المتكرر للعثمانيين في اختراق دفاعات المدينة أثر واضح في معنويات المقاتلين حتى تعالت بعض الأصوات المنادية بالانسحاب والعدول عن الاستيلاء على المدينة، لكن السلطان محمد الفاتح أصر على مواصلة الفتح وتوصل لفكرة عبقرية لإدخال الأسطول الإسلامي إلى القرن الذهبي من غير أن يمر على السلاسل الحديدية الضخمة، تلك الفكرة تعتمد على نقل سفن الأسطول من مرساها في بشكطاس إلى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين المينائين ويقدر بثلاثة أميال، باستخدام ألواح خشبية ضخمة مدهونة بالزيت والشحم، وقد نجحت الفكرة الفذة نجاحًا رائعًا بحيث تمكنوا من نقل سبعين سفينة في ليلة واحدة تحت جنح الظلام دون أن يشعر البيزنطيون بشيء، وكان لدخول السفن العثمانية إلى القرن الذهبي أثر فعال في فتح المدينة.حاول الإمبراطور البيزنطي قسطنطين العاشر تنظيم عمليات حربية لتدمير الأسطول العثماني في القرن الذهبي ولكنها فشلت جميعًا، وقامت مدفعية الأسطول بقصف أسوار المدينة، كما شاركت في حصار المدينة وقطعت عنها الإمدادات التي كان يأتي بها الأوروبيون مما أسهم في النهاية في سقوط المدينة بعد أيام من الحصار البحري.
البحرية العثمانية في عصر القوة (918هـ - 974هـ):
يبدأ عصر القوة للدولة العثمانية من تسلم السلطان سليم الأول السلطة سنة 918هـ إذ كان يحمل عقلية عسكرية توسعية، ويميل إلى الخيار العسكري كحل وحيد في تصفية مشكلات الدولة وخصومها، وقد أدخل سليم الأول تغييرًا كبيرًا في السياسة العسكرية للدولة، إذ قرر نقل عملياته العسكرية ناحية المشرق لاعتبارات كثيرة ليس للحديث عنها مجال في هذا الموضع، ولكن الخلاصة أن سليم الأول كان يخطط للقضاء على الدولة الصفوية في إيران ودولة المماليك في مصر والشام.
ورغم انتصار سليم الأول على الصفويين في معركة جالديران سنة 920هـ إلا أنه لم يقض عليها بالكلية، في حين استطاع أن يقضي على دولة المماليك سنة 922هـ ودخلت أملاكها – مصر والشام والحجاز واليمن – في أملاك العثمانيين، وبالتالي أصبح العثمانيون والبرتغاليون وجهًا لوجه في جنوب الخليج والبحر الأحمر والمحيط الهندي.
كان البرتغاليون في تلك الفترة في أوج قوتهم البحرية وأساطيلهم تمخر عاب البحار والمحيطات، وتسيطر على ممرات التجارة العالمية، وأصبح لهم الكثير من المراكز والقواعد في المغرب الأقصى وجنوب الخليج وغرب الهند وشرق إفريقيا، وبالتالي كانت المواجهات البحرية بين البرتغاليين والعثمانيين شديدة وحامية، البعد الديني حاضرًا فيها بقوة، لمجاهدة البرتغاليين المجاهرين بنواياهم الصليبية، وخططهم الرامية لتطويق العالم الإسلامي واقتحام الأماكن المقدسة في مكة والمدينة.
الأخوان عروج وخير الدين بربروسا:
كان للنهضة العسكرية التي تمت في عهد السلطان سليم الأول العثماني ونقله لحركة التوسع العثماني ناحية الشمال الإفريقي أثر بالغ في تطور البحرية الإسلامية في مطلع القرن العاشر الميلادي، وأغرت تلك النهضة العثمانية العديد من الأسماء اللامعة في سماء البحرية من قادة البحر المتطوعين الذين كانوا يحاربون القوى الأوروبية الصليبية في البحر المتوسط، وأبرز هؤلاء القادة كان الأخوان عروج وخير الدين بربروسا.
يرجع أصل الأخوين عروج وخير الدين إلى جزيرة "مدللي" إحدى جزر أرخبيل البجر التيراني، وقيل عنهما أنهما من النصارى وقد اشتغلا في القرصنة، ثم أسلما بعد ذلك وأضفوا الصبغة الإسلامية على قرصنتهم ضد القوى الأوروبية، ولكن هذا الكلام لا يصح وهو من أكاذيب مؤرخي أوروبا الصليبية، والراجح بالأدلة والقرائن أنهما من أصول تركية وأمهما أندلسية من نسل الأندلسيين الذين أجبروا على الرحيل من الأندلس، وهي التي دفعت بهما في طريق الجهاد البحري ضد أسبانيا والبرتغال للانتقام من مصاب المسلمين بالأندلس.
ذاع صيت الأخوين عروج وخير الدين في الحوض الأوسط للبحر المتوسط حيث قادا جموع المتطوعين ضد أوروبا الصليبية، ومع سطوع نجم الدولة العثمانية واستيلائها على مصر والشام والحجاز واليمن، رأى الأخوان الدخول تحت لواء الدولة العثمانية لتوحيد الجهود ضد أوروبا الصليبية، وقد بدأ دخول الأخوين في تحالف مع العثمانيين قبل سقوط الدولة المملوكية وذلك سنة 920هـ/1514م عندما أرسل السلطان سليم الأول أسطولاً عثمانيًا لدعم الأخوين في جهادهما ضد الأسبان وحلفائهم الحفصيين ملوك تونس، وسالم التومي حاكم الجزائر الموالي للأسبان وكان لتلك المساعدة أثر كبير في انتصار الأخوين على أعدائهما.
لم يلبث القائد عروج حتى استشهد في الجهاد ضد الأسبان سنة 924هـ/1518م وبعده حمل خير الدين الراية وزاد تعاونه مع العثمانيين، وطالب الجزائريون السلطان سليم الأول بوصفه أعلى سلطة إسلامية في العالم الإسلامي وقتها أن يعين خير الدين بربروسا واليًا عليهم وذلك سنة 925هـ/1519م، فوافق السلطان وأصبحت الجزائر من يومها ولاية عثمانية يحكمها القائد خير الدين بربروسا.
أبان خير الدين بربروسا عن حنكة وخبرة وكفاءة قيادية عالية وتغلب على كثير من المصاعب والمشكلات الداخلية، وأصبحت الجزائر في عهده بابًا قويًا يتصدى للأطماع الصليبية من أسبانيا والبرتغال، بل يوجه ضربات قوية لهاتين الدولتين العدوتين، وفي سنة 940هـ/1533م استدعى السلطان سليمان القانوني القائد خير الدين بربروسا إلى استانبول وأنعم عليه برتبة قبودان باشا البحرية العثمانية – بمثابة وزير البحرية – وكلفه بوضع خطة لمهاجمة أسبانيا واستعادة الأندلس.
كانت مرحلة قيادة خير الدين بربروسا للبحرية العثمانية هي أزهى وألمع فترات البحرية العثمانية وحققت خلالها أروع الانتصارات والفتوحات، وبرز في تلك الفترة العديد من الأسماء اللامعة في عالم البحار مثل القائد طرغوت باشا، وسنان باشا وحسن الطوشي والحاج بكير وحسن خير الدين وقلج علي وغيرهم كثير، وحدث اهتمام واسع النطاق بعلوم البحار وفنونه، حتى أن الريس بيري أحد أهم القادة البحريين في عهد سليمان القانوني قد رسم خرائط بحرية بالغة الدقة عن أماكن لم يتم اكتشافها إلا بعد عدة قرون مثل المحيط القطبي الشمالي والجنوبي.
ولقد اهتم السلطان سليمان القانوني بأمر الثغور المصرية فرتب نظامًا مخصوصًا لإدارة السواحل المصرية والأمور البحرية فيها، وعين ثلاثة قبودانات لمصر، أحدهم لثغر دمياط، والثاني لثغر السويس، والثالث لثغر الإسكندرية، وعلى اعتبار أنها أبواب القطر المصري، وكان لتلك الأساطيل دور كبير في التصدي للعدوان البرتغالي على جنوب الخليج وسواحل الهند، وهو العدوان الذي آثر بشدة على التجارة العالمية، ودارت العديد من المعارك البحرية الطاحنة بين الأساطيل المصرية والأساطيل البرتغالية في مياه الخليج وغرب الهند من أشهرها معركة هرمز سنة 958هـ, وقد سار سلاطين الدولة العثمانية على خطى سليمان القانوني في الاعتناء بالأسطول المصري حتى أنهم قد خصصوا له فرقتين عسكريتين من فرق الدولة وعددهم سبعة، وكان من أعمال تلك الفرقتين حفظ الثغور والقلاع الحامية وتوفير رجال الأسطول والذخيرة اللازمة لعمل تلك الأساطيل.
البحرية العثمانية في عصر التراجع (974هـ - 1026):
اتفق جمع من المؤرخين أن قوة الدولة العثمانية وسيادتها على دول العالم قد انتهت بوفاة السلطان سليمان القانوني سنة 974هـ، واستقبلت بعده الدولة عهد بداية الضعف والتراجع أمام أوروبا الصليبية، ولكن بقت الدولة في مجملها قوية ومحتفظة بأقاليمها وسيادتها على أملاكها في القارات الثلاثة – آسيا وأفريقيا وأوروبا.
وكان السر وراء ذلك وجود قادة ووزراء أكفاء على رأسهم الصدر الكبير محمد الصقلي باشا وسنان باشا والقبودان قلج علي وغيرهم ممن أسهموا بقوة في احتفاظ الدولة بهيبتها أمام عدائها، وقد شهد عهد سليم الثاني [974هـ - 982هـ] بداية الصراع بين العثمانيين والروس بسبب الطموحات الروسية ضد العالم الإسلامي.
حققت البحرية العثمانية نجاحًا كبيرًا سنة 979هـ بفتح جزيرة قبرص الإستراتيجية وكانت من أملاك البندقية وقتها، وقام العثمانيون بنقل أعداد كبيرة من سكان الأناضول إلى الجزيرة وما زال أحفادهم مقيمين حتى الآن بها ويطلق عليهم اسم القبارصة الأتراك.
كان ذلك الفتح جرس إنذار شديد لأوروبا الصليبية مما حدا بالبابا "بيوس الخامس" بتشكيل حلف صليبي كبير ضد الدولة العثمانية ضم "فليب الثاني" ملك أسبانيا والبنادقة وإيطاليا "وشارل التاسع" ملك فرنسا على الرغم من ارتباطه بمعاهدات مع العثمانيين مما يؤكد على حقيقة أعداء الأمة أنهم لم ولن يلتزموا أو يوفوا يومًا بتعهدات أو اتفاقيات.
وفي خليج كورنت بالبحر الأدرياتيكي سنة 979هـ دارت معركة هائلة بين الأساطيل العثمانية وأساطيل التحالف الصليبي الكبير، وبقدر الله عز وجل وبسبب خطأ عسكري للقائد العام للأساطيل العثمانية "علي باشا" وقعت الهزيمة على الأساطيل العثمانية وقد أطلق على هذه المعركة اسم معركة ليباني، وكان لها أثر كبير على مجريات الأحداث العالمية وقتها، إذ مثلت بداية انهيار الأسطورة العثمانية عن الأساطيل والجيوش التي لا تقهر، وبدأت السيطرة العثمانية على البحر المتوسط تزول، وتزعزعت هيبة الدولة أمام أعدائها، فظهرت أطماع فرنسا في الشمال الإفريقي، واحتلت أسبانيا تونس، وشقت الزيود عصا الطاعة باليمن، فاضطر العثمانيون لمواجهة كل هؤلاء العداء، فاندلعت الحروب والحملات على كل الجبهات.
البحرية العثمانية في عصر الانحطاط (1026هـ - 1171):
وكان أبرز ما يميز هذا العهد التدخل السافر والكبير لقادة الانكشارية في أمور الدولة حتى أصبحوا يتحكمون في عزل وتولية السلاطين، حتى تولى منصب السلطنة أطفال في السابعة "السلطان محمد الرابع " من العمر، وأفسد الانكشارية في الأرض إفسادًا كبيرًا تضعضعت به مكانة الدولة العثمانية أمام أعدائها، وكان من سمات هذا العصر أيضًا ظهور العديد من الحركات الانفصالية أغلبها بدعم من الدولة الصفوية الخصم العنيد للدولة العثمانية.ورغم اضطراب الأمور الداخلية للدولة العثمانية إلا أنها ظلت تقارع أعدائها في المشرق والمغرب، ولولا تخاذل الجنود الانكشارية في القتال لكان النصر حليفًا للعثمانيين في معظم حروبهم ضد الأوروبيين، ذلك أن تلك الفترة كانت تشهد أيضًا انقسامات عميقة وحروب داخلية على الجانب الأوروبي.
أما عن أبرز انجازات البحرية العثمانية في هذا العصر هو فتح جزيرة كريت سنة 1055هـ ، وكانت تتبع البندقية، غير أن البنادقة قد ردوا على ذلك باحتلال جزيرتي "تفيدوس" و"لمنوس" وهما مفتاح مضيق الدردنيل، ومنعوا وصول المواد الغذائية إلى العاصمة إسطنبول. وعلى الرغم من كثرة المعارك والحروب في تلك الفترة إلا إنها كانت حروب برية لأن معظمها دار على الجبهة الشرقية ضد بولندا والروس والنمسا، ولم يكن للأساطيل البحرية دور لافت في تلك الحروب.
البحرية العثمانية في عصر الانهيار (1171هـ - 1342هـ]:
هذا العصر تميز بوجود عدد من الخلفاء الأقوياء ولكن لم تفد قوتهم كثيرًا بسبب الضعف الشديد والانحطاط الذي عم أجهزة الدولة كلها، وأضف لذلك أن أوروبا قد استقبلت عهدًا جديدًا من النهضة الصناعية والتقدم والرقي مع احتفاظ أوروبا بروحها الصليبية تجاه العالم الإسلامي، كما تميز هذا العصر بوضوح أثر الهزيمة النفسية، وأصبح تقليد أوروبا أمرًا محمودًا ورائجًا بين القادة والساسة والطبقة العليا في الدولة العثمانية.
تعرض الأسطول العثماني لكارثة بحرية سنة 1183هـ في نهر الدينستر أثناء قتاله ضد الروس في رومانيا، ثم تعرض لحادثة إحراقه على يد بعض المخربين في العام التالي وهو راس بالمياه اليونانية، وسنة 1185هـ قام الروس بالاتصال بوالي مصر علي بك الكبير واتفقوا معه على الثورة ضد العثمانيين، وقام الأسطول الروسي بالتوغل في مياه البحر المتوسط لتغطية التحركات الحربية للثائر علي بك الكبير.
وفي عهد السلطان سليم الثالث [1203هـ - 1222هـ]، بدأت الإصلاحات تدخل على الأساطيل العثمانية وتم إدخال الطرق الأوروبية في صناعة السفن خاصة الفرنسية منها، وتم صب مدافعها على أيدي رجال من السويد، وحصل صراع على المصالح بين إنجلترا وفرنسا وروسيا، دخلت على أثره الأساطيل الإنجليزية مضيق الدردنيل وطالبت السلطان سليم الثالث أن يسلم الإنجليز القطعات البحرية العثمانية المرابطة في المضيق وتدخل الأسطول الفرنسي لنجدة الدولة العثمانية فانسحب الإنجليز خوفًا من الحصار في بحر مرمرة، وحتى يمحو الإنجليز فشلهم أرسل القائد الإنجليزي حملة بحرية بقيادة فريزر إلى مصر لاحتلالها سنة 1222هـ ولكنها فشلت فشلاً ذريعًا.
في عهد السلطان "محمود الثاني "1223هـ - 1255هـ وقعت أحداث جسام في الدولة العثمانية وبرزت قوة محمد علي باشا والي مصر الذي استطاع تكوين قوة عسكرية برية وبحرية متقدمة وماهرة حقق بها انتصارات لافتة على خصوم الدولة، فلقد استطاعت الأساطيل المصرية أن تنتصر على ثورة اليونانيين سنة 1239هـ، مما أدى لاشتعال الروح الصليبية الأوروبية ضد الدولة العثمانية وتحالف الروس والإنجليز ضدها وأجبروها على توقع معاهدة "أق كرمان" سنة 1242هـ ومن أهم شروطها: إعطاء روسيا حق الملاحة بكل حرية في البحر الأسود، ومرور سفنها من المضايق العثمانية دون تفتيش، غير أن النية كانت مبيتة لضرب القوة البحرية المصرية التي قمعت ثورة اليونان، وفي سنة 1243هـ ضربت الأساطيل الإنجليزية والفرنسية والروسية الأسطول المصري في نافارين باليونان، فدمرته بالكلية هو والأسطول العثماني الموجود معها وقتل ما يزيد عن ثلاثين ألف جندي مصري وعثماني، فأصدر السلطان محمود الثاني منشورًا دعا فيه المواطنين للدفاع عن عقيدتهم ضد الحرب الصليبية التي تشنها روسيا وإنجلترا عليهم.في سنة 1255هـ سار قائد البحرية العثمانية أحمد باشا بقطعاته إلى الإسكندرية وسلمها إلى محمد علي باشا، فارتعبت أوروبا من خلو الدولة من قوة بحرية أو حتى برية تدافع عنها ضد أطماع محمد علي، وخشيت أوروبا من عودة القوة للدولة العثمانية، لو تقدم محمد علي واستولي علي عرش القسطنطينية ، كما خافت أوروبا من تقدم الروس واحتلالها لاسطنبول، واتفقت الدول الأوروبية على الضغط على الخليفة عبد المجيد الأول ، من أجل تقليم أظافر محمد علي التي طالت،وتحركت الأساطيل الإنجليزية والفرنسية على سواحل بلاد الشام للتحريض ضد محمد علي.
في سنة 1270هـ اندلعت حرب القرم بسبب التنافس الاستعماري بين إنجلترا وفرنسا من ناحية وروسيا من ناحية أخرى، وفيها دمرت الأساطيل الروسية في البحر الأسود القطعات البحرية العثمانية في ميناء "سينوب" العثماني، وتدخلت الأساطيل الإنجليزية والفرنسية في القتال خوفًا على مصالحها، وقصفت ميناء أوديسا الروسي ودمرته، ثم حاصرت ميناء "سيباستبول" فأحرقه الروس وغادروه وتوغلت الجيوش العثمانية داخل الأراضي الروسية ، في الوقت التي كانت البحرية الإنجليزية والفرنسية تقصف الموانئ الروسية.
انشغلت الدولة العثمانية بالثورات الداخلية التي قام بها أهل البلقان في الصرب والجبل الأسود وبلغاريا وثورة الأرمن، وكانت الدول الأوروبية تقف خلف تلك الثورات لمزيد من الإضعاف للدولة التي أطلق عليها اسم الرجل المريض، وقام حكم الاتحاديين 1328هـ وتم توريط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وأمر وزير الحربية أنور باشا الأسطول العثماني بالتحرك إلى البحر الأسود وضرب مرافئ روسيا فيه، فضربت مرفأ أوديسا وأغرقت طرادًا روسيًا فكان ذلك إيذانًا بدخول الدولة العثمانية في حرب لا ناقة فيها ولا جمل، وقد انتهت بضياع الدولة العثمانية وانحسارها في دائرة ضيقة بالأناضول وطويت بعدها بسنوات قلائل صفحة هذه الدولة وأصبحت في ذاكرة التاريخ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم