اقتباس
لم تكن هناك بحرية أندلسية بالمعنى النظامي المعروف منذ بداية الفتح سنة 92هـ حتى عهد عبد الرحمن الأوسط الأموي سنة 230هـ، على الرغم من الجغرافية البحرية لبلاد الأندلس فهي شبه جزيرة يحيط بها الماء من ثلاثة جوانب، ومهارة أهلها في ركوب البحر، وكذلك مهارة الفاتحين المسلمين لها الذين عبروا البحر من أجل فتحها وذلك لعدة أسباب..
تعتبر دولة الإسلام في الأندلس من أطول الأمم والممالك الإسلامية عمرًا، فلقد فتحت الأندلس سنة 92هـ وسقطت غرناطة آخر حصون الأندلس سنة 897هـ، أي ما يزيد على ثمانية قرون كان للإسلام دولة بالأندلس، تلك الدولة العريقة تقلبت لعدة أدوار وتناوب على كرسي القيادة فيها العديد من الأسر الحاكمة كما يلي:
1- مرحلة الفتح والولاة 92هـ - 138هـ.
2- مرحلة الدولة الأموية 138هـ - 366هـ.
3- مرحلة الدولة العامرية 396هـ - 399هـ.
4- مرحلة الصراع والفوضى 399هـ - 422هـ.
5- مرحلة ملوك الطوائف 422هـ - 492هـ.
6- مرحلة الدولة المرابطة 492هـ - 544هـ.
7- مرحلة الدولة الموحدية 544هـ - 636هـ.
8- مرحلة الدولة النصرية "بني الأحمر" 36هـ - 897هـ (سقوط غرناطة).
لم تكن هناك بحرية أندلسية بالمعنى النظامي المعروف منذ بداية الفتح سنة 92هـ حتى عهد عبد الرحمن الأوسط الأموي سنة 230هـ، على الرغم من الجغرافية البحرية لبلاد الأندلس فهي شبه جزيرة يحيط بها الماء من ثلاثة جوانب، ومهارة أهلها في ركوب البحر، وكذلك مهارة الفاتحين المسلمين لها الذين عبروا البحر من أجل فتحها وذلك لعدة أسباب:
1- انشغال الفاتحين بتصفية الجيوب المتبقية من فلول الأسبان الذين اجتمعوا في الشمال من أجل محاربة المسلمين.
2- اشتعال الفتن المقيتة والعصبيات الجاهلية بين العرب والبربر من جهة، وبين القبائل العربية قيسية ويمانية من جهة أخرى.
3- محاولة بعض الولاة شغل الناس عن الفتن الداخلية باستكمال حركة الفتح الإسلامي في الشمال بغزو ما وراء جبال البرانس وجنوب فرنسا على الجبهات البرية.
4- الثورات الداخلية العنيفة التي أعقبت قيام الدولة الأموية في الأندلس سنة 138هـ. من القيسية تارة ومن القحطانية تارة، ومع الممالك النصرانية في الشمال تارة، ومع الدولة العباسية أيام أبي جعفر المنصور تارة أخرى.
5- توقيع اتفاقيات ومعاهدات مع الدولة البيزنطية أيام حكم الأمويين، وهو الأمر الذي أدى لهدوء نسبي على الجبهة البحرية وتأمين السواحل الشرقية للأندلس.
التاسع الميلادي بعد أن تزايدت أعدادهم وتضاءلت مواردهم، فخرجوا على اتجاهين: شرقي وغربي، أما الشرقي فتوغل في قلب روسيا مع نهر الفولجا، لذلك أطلق عليهم بعض المؤرخين مثل اليعقوبي والمسعودي اسم "الروس"، في حين اتجه الفريق الآخر ناحية الغرب وهاجم سواحل إنجلترا وأيرلندا، واحتل جنوب غربي إنجلترا لفترة طويلة .هاجم النورمان أو الفايكنج ساحل أشبونة [لشبونة الآن] قاعدة الثغر الأعلى في الأندلس في مستهل ذي الحجة سنة 229هـ، وظلوا طيلة شهرين يعيشون في شواطئ الأندلس فسادًا وتخريبًا وتقتيلاً، ووصلت غاراتهم حتى ضواحي إشبلية، وبعد مجهود كبير وخسائر فادحة أخرجهم المسلمون من الأندلس.
أخذت البحرية الأندلسية في النمو والازدهار حتى أصبح للأندلس أسطولان: شرقي في البحر المتوسط وقاعدته "المرية"، وغربي في المحيط الأطلس [بحر الظلمات] وقاعدته أشبونة، وفي عهد عبد الرحمن الناصر [300هـ-350هـ] ستصبح البحرية الأندلسية صاحبة اليد العليا في الحوض الغربي للبحر المتوسط، وبالتالي اكتملت سيادة المسلمين على البحر المتوسط كله، ففي الشرق قامت أساطيل مصر والشام، وفي الوسط أسطول الأغالبة، وفي الغرب أساطيل بني أمية في الأندلس، وفي حماية تلك البحرية القوية نشطت حركة العمران والتبادل التجاري والسفر الآمن وبناء الموانئ والمراسي ودور الصناعة.
إنجازات البحرية الأندلسية الأموية:
أولاً: رد العدوان الخارجي، وكان متصلاً في تلك الفترة في غارات النورمان الفايكنج من ناحية السواحل الغربية والذي كان هجومهم في الأساس سببًا لقيام البحرية الأندلسية في العصر الأموي، وقد حاول النورمان معاودة الهجوم عدة مرات بعد هجومهم الأول سنة 229هـ، ولكنهم فشلوا فيها جميعًا بسبب اليقظة البحرية، والسواحل محروسة بقوة حتى أنهم لم يجرءوا على النزول من مراكبهم، ومرة سنة 355هـ وثالثة سنة 385هـ فلم يستطيعوا أن يقوموا بأكثر من غارات وضربات سريعة على السواحل ثم الفرار بسرعة قبل أن تدركهم الأساطيل الأندلسية.
ثانيًا: فتح جزر البليار، جزر البليار أو جزر الأندلس الشرقية من البقاع السحرية في البحر المتوسط، إذ كان المسيطر عليها يستطيع تهديد جنوب أوروبا بأسره وقطع الطريق على التجارة البحرية في الحوض الغربي للبحر المتوسط، وهي أربع جزر: ميورقة ومنورقة ويابسة وفرنتيرة، وقد فتحها في بادئ الأمر القائد عبد العزيز بن موسى بن نصير سنة 94هـ ولكن الوجود الإسلامي لم يترسخ بها، مما جعل غزاة البحر المسلمين يعاودون غزوها عدة مرات، ولم تتضح تبعتيها للأندلس، مما جعل المؤرخين الأوروبيين يثبتون تبعيتها لمملكة الفرنجة، فلما قامت البحرية الأندلسية لم يكن لأمراء بني أمية هم سوى فتح الجزر الشرقية، فحاولت الأساطيل الأموية فتحها عدة مرات حتى تم ذلك الفتح الكبير سنة 290هـ، عندما توجه أسطول أندلسي بقيادة عصام الخولاني ففتح الجزر دون صعوبة وأخذ في نشر الطابع الإسلامي بالجزر، فتكاثر المسلمون فيها وأقبل أهلها على الإسلام، وفي الجزر الشرقية قامت واحدة من أكبر القواعد البحرية بالحوض الغربي للبحر المتوسط، والتي انطلق الكثير من الأساطيل الإسلامية تغزو شواطئ فرنسا وإيطاليا.
ثالثًا: قيام قواعد بحرية قوية، من دلائل النهضة البحرية الأندلسية في العصر الأموي وازدياد النشاط البحري على السواحل الشرقية للأندلس قيام جماعة من البحريين الأندلسيين بإناء مركز تجاري كبير في بجانة يشبه الجمهوريات التجارية الإيطالية التي ظهرت في بداية القرن الحادي عشر الميلادي مثل جنوة وأمالفي والبندقية، وأشهر القواعد الأندلسية التي قامت في تلك الفترة :
قاعدة بجانة، وبجانة كانت قرية صغيرة على نهر أندرش إلى الشمال من مدينة المرية الحالية في جنوب شرق الأندلس، كان عبد الرحمن الأوسط قد أقطعها لجماعة من العرب اليمنيين في مقابل حراستهم لساحل البحر من ناحيتهم، واليمنيون كما هو معروف مهرة في ركوب البحر، فأقاموا نشاطًا بحريًا ملحوظًا بالمنطقة، وأقاموا الرباطات على الساحل واشتغلوا بالتجارة مع المغرب، ومع التبادل التجاري زاد العمران بالمدينة واتسعت حتى صارت من المراكز التجارية المشهورة في الحوض الغربي للبحر المتوسط، واشتغل أهل بجانة بصناعة نسج الحرير واشتهروا بها، واختاروا من بينهم مشيخة من رؤسائهم ليتولوا إدارة شئونهم، وفي عهد الأمير عبد الله بن محمد الأموي [275هـ - 300هـ] استأذنوه في توسيع منطقتهم فأذن لهم، وقد خاف أهل بجانة من عدوان الخارجين في كورة تدمير فبنوا سلسلة من الحصون الأمامية القوية، واستمر أهل بجانة في نشاطهم البحري حتى ظهور قاعدة المرية التي أخذت مكانتهم شيئًا فشيئًا حتى فحل أثرهم وذكرهم.
البحرية الأندلسية في عهد ملوك الطوائف:
بعد سقوط الخلافة الأموية والتالية لها الدولة العامرية سادت الفوضى أرجاء الأندلس، واختل ميزان الأمن والنظام في البلاد، وتفتت الوحدة السياسية للبلاد، وتجزأت الأندلس إلى دويلات مستقلة حافظت كل منها على استقلالها في حدود إمكانياتها، ولم تعد هذه الدويلات تحتفظ بأساطيل قوية كما هو الحال أيام الأمويين والسلطة المركزية في قرطبة، ولم تلعب هذه الدويلات دورًا ذا قيمة في الصراع البحري يومئذ في الحوض الغربي للبحر المتوسط باستثناء ثلاث دويلات وهي دولة بن عباد في إشبلية، ودولة بني صمادح بالمرية، ودولة مجاهد العامري في دانية والجزر الشرقية والذي يعتبر أكثر ملوك الطوائف جميعًا عناية بالبحر، وهو من أشهر بحارة الإسلام.
البحرية الأندلسية في عهد المرابطين:
سقطت دولة ملوك الطوائف المشئومة وذهبت أيامها السوداء على الأندلس، واستقبلته البلاد عهدًا جديدًا كان الجهاد هو الشعار الأول له، المرابطون هم قوم من قبائل صنهاجة البربرية الكبيرة، ظهروا لأول مرة في صحراء موريتانيا من أجل رسالة دينية سامية وهي جهاد المارقين عن الإسلام من قبائل البربر الذين ارتدوا عن الإسلام مثل قبائل براغوطة وغمارة، واستطاع المرابطون أن يقيموا دولة قوية ومتسعة شملت جميع بلاد المغرب، ولكن خبرتهم البحرية كانت ضعيفة لانشغالهم بالقتال البري.
بدأ اهتمام المرابطين بالبحر منذ سنة 476هـ عندما فتحوا ثغر "سبتة" وكان من القواعد البحرية الشهيرة، فاستفادوا من قوتها البحرية، وبعد أن خلع المرابطون ملوك الطوائف من حكم الأندلس، أصبحت تحت أيديهم قوة بحرية كبيرة من أساطيل ودور صناعة وكفاءات بشرية ماهرة، فأصبحت البحرية الأندلسية في عهد المرابطين، قوة بحرية موحدة منظمة، بعد أن كانت مبعثرة أيام ملوك الطوائف.وبرزت العديد من القيادات البحرية الماهرة في عهد المرابطين مثل أسرة بني ميمون التي قادت أساطيل المرابطين إلى النصر في معظم المعارك التي خاضتها مع الأوروبيين في صقلية والأسبان في شمال الأندلس، يقول ابن خلدون: «وكان الجانب الغربي من هذا البرح موفور الأساطيل، ثابت القوة، لم يخيفه عدو، ولا كانت لهم به كرَّة، فكان قواد الأسطول به لعهد لمتونة (يعني المرابطين) بني ميمون رؤساء جزيرة فارس
وفي سنة 509هـ فتح المرابطون جزر البليار أو الجزر الشرقية ، بعد أن استولت الأساطيل الإيطالية عليها سنة 508هـ وأوقعت بأهلها مجزرة مروعة كما هي عادة الصليبيين في البلاد الإسلامية التي تقع في قبضهم، وكان فتح المرابطين للجزر الشرقية إيذانًا ببدء سلسلة من المعارك البحرية العنيفة التي خاضها أسطول المرابطين ضد القوى الصليبية في الحوض الغربي للبحر المتوسط، وخلال تلك المعارك بزرت أسرة بني غانية القادة الأبطال الذين سيقودون حركة المقاومة ضد حكم الموحدين للأندلس لعشرات السنين، ولم يقتصر نشاط البحرية المرابطة على محاربة الأطماع الإيطالية والفرنسية والأسبانية، بل أوقفوا أطماع النورمانديين الذين احتلوا صقلية في الشمال الإفريقي والمغرب الأوسط.
البحرية الأندلسية في عهد الموحدين:
دولة الموحدين تنسب لرجل اسمه محمد بن تومرت ادعى المهدية في بلاد المغرب، وقاد ثورة ضد دولة المرابطين مستغلاً حالة الصراع القبلي بين بطون صنهاجة التي تنتسب إليها دولة المرابطين، وبطون مصمودة التي ينتمي إليها ابن تومرت، وبعد معارك طاحنة كثيرة سقطت دولة المرابطين سنة 541هـ، وكان ابن تومرت يطلق على أتباعه اسم الموحدين لاعتقاده بأنهم وحدهم على التوحيد الصحيح، وكان يصف المرابطين أصحاب العقيدة الصحيحة بالمجسمة، وكانت عقيدة الموحدين عقيدة فاسدة، خليطًا من الاعتزال والأشعرية والتصوف غارقة في التأويل.
ورثت دولة الموحدين أملاك المرابطين في المغرب والأندلس، ونشأت فيهم حركة جهادية كبرى بفضل عبقرية القيادة التي كان عليها أول خلفاء تلك الدولة وهو عبد المؤمن بن علي الذي جعل الجهاد شغله الشاغل، ومن ثم وجه اهتمامه نحو تقوية البحرية فأنشأ وأعاد تعمير المراسي ودور الصناعة المنتشرة على طول السواحل المغربية والأندلسية حتى صار أسطول الموحدين في سنة 557هـ أقوى أسطول في البحر المتوسط بشهادة المؤرخين الأوروبيين أنفسهم، وقد أمر عبد المؤمن بن علي بتعمير أسطول هو الأضخم في تاريخ الأندلس من أجل محاربة الممالك النصرانية في الشمال – قشتالة وأرجوان وليون – ولكن العمر لم يمتد به لينفذ مشروعه الكبير.
وإلى جانب هذه المصانع المادية التي تنتج السفن الحربية وما يلزمها من معدات وآلات أهتم الموحدون بإعداد الكوادر البشرية اللازمة لقيامة الأساطيل، فلقد أنشأ عبد المؤمن بن علي في حاضرته مراكش مدرسة لتخريج رجال السياسة وقادة الجيش والأسطول، وكانت تضم هذه المدرسة ثلاثة آلاف طالب من أبناء المغرب والأندلس، ويدرسون فيها القرآن والحديث ومؤلف ابن تومرت المسمى بالمرشدة وتمثل المرجعية العقائدية للموحدين، ويتدربون على فنون الحرب المختلفة وخططه وأساليبه، ثم تعلم السباحة وخوض المعارك البحرية وذلك في بحيرة خاصة أنشأها لذلك الغرض خصيصًا على مقربة من قصره، وأعد فيها طائفة من السفن الكبيرة والصغيرة ليتدرب الشباب فيها على القتال في البحر والتجديف وقيادة السفن والوثب إلى سفن العدو، ومزاولة التمارين البدنية التي تقتضيها الخدمة البحرية، وكان تعليمهم جميعًا على نفقة الدولة، وقد عرفت هذه المدرسة تاريخيا باسم مدرسة الأبطال، وهي تدل علي مدي الفكر العسكري الاستراتيجي الذي كان عليه المسلمون وقتها، وتقدمهم في مجال التعليم المتطور الذي يخدم حاجات الدولة وأهدافها.
ومن دلائل قوة البحرية الأندلسية في عهد الموحدين أن ملك صقلية وليام الثاني،كان يدفع الجزية السنوية للموحدين في عهد يوسف بن عبد المؤمن [558هـ - 580هـ، والناصر صلاح الدين الأيوبي نفسه قد أرسل سفارة من عنده سنة 586هـ يطلب فيها من أمير الموحدين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن [580هـ - 595هـ] يطلب إعانته بالأساطيل الأندلسية لتحول بين أساطيل الصليبيين وبين الثور الصليبية بالشام، ولمنازلة ثغور عكا وصور وطرابلس، علي الرغم من تقدم البحرية في عهد صلاح الدين.
كما لم تقتصر مهام الأساطيل الأندلسية في عهد الموحدين على محاربة الصليبيين فقط، بل امتدت لتقمع حركة القرصنة التي كانت منتشرة بين النصارى والمسلمين أيضًا، فلقد شن الأسطول الأندلسي في عهد يوسف بن عبد المؤمن غارات بحرية مكثفة على حصن طبيرة الذي كان وكرًا للقراصنة المسلمين بزعامة خارجي اسمه عبد الله بن عبيد الله، ويقع هذا الحصن في منطقة غرب الأندلس على ساحل المحيط الأطلسي، وقد ظل هذا الحصن شجا على أهل المغرب والأندلس في نهب أموال المسافرين والتجار في البحار منذ سنة 546هـ حتى آخر سنة 563هـ عندما استولى عليه يوسف بن عبد المؤمن وقضى على فساقه.
البحرية الأندلسية في عهد بني الأحمر ملوك غرناطة:
مملكة غرناطة في جنوب الأندلس كانت هي البقية الباقية من دولة الإسلام في الأندلس، بعد أن تمزقت وسقطت معظم القواعد الكبرى مثل إشبلية وقرطبة وطليطلة وبلنسية وغيرهم بيد نصارى أسبانيا، وقد أصبحت غرناطة دار هجرة الأندلسيين الذين فروا أو طردوا من مدنهم وقراهم بعد أن أحتلها الأسبان، وكان هؤلاء المهاجرون أصحاب خبرات ومهارات في شتى مجالات الحياة، وكانوا أيضًا موتورون مما أصابهم على يد الأسبان، لذلك أعطوا كل خيراتهم وخبراتهم وطاقاتهم لدولتهم الجديدة مما كان له أعظم الأثر في قيام مملكة غرناطة وازدهارها وبقائها في مواجهة الأسبان لأكثر من 250 سنة، على الرغم من تحالف وإحاطة الأعداء بها من كل مكان.
كانت مملكة غرناطة صاحبة موقع جغرافي متميز ساهم في بقائها لفترة طويلة فهي محصنة طبيعيًا بسلسلة من الجبال الشامخة مثل جبال سيرا نيفادا، وجبال البشرات، كما كان لها أيضًا ساحلاً بحريًا طويلاً تمتد من ميناء ألمرية شرقًا إلى جبل طارق والجزيرة الخضراء [جزيرة طريف] جنوبًا، وهذا الساحل الطويل جعل من غرناطة – على صغر مساحتها – دولة بحرية من دول البحر المتوسط.
هذه السواحل الغرناطية كانت تعرف أيام الدولة الأموية باسم البلاد البحرية، ذلك لأن أهلها كانوا أكثر أهل الأندلس خبرة ودربة بركوب البحر، كما كانت عامرة بأساطيل الدولة وأساطيل المتطوعة غزاة البحر، وبها الكثير من الموانئ والرباطات والمحارس ودور صناعة السفن، وتعتبر ألمرية أهم قواعد غرناطة البحرية، بل كانت أول مراسي البلاد الإسلامية بالأندلس، ويلي ألمرية في الأهمية قاعدة "شلوبين" ثم قاعدة المنكب وبها دار كبيرة لصناعة السفن، ثم مالقة وهي من أجمل مدن الأندلس، ثم جبل الفتح [صخرة جبل طارق الآن]، ثم الجزيرة الخضراء وهي تقع في قبالة مدينة سبتة المغربية، ومرساها من أحسن المراسي وهي آخر البلاد البحرية الإسلامية للأندلس.
كان الموقع الحساس لمملكة غرناطة وسط عدة قوى نصرانية كبيرة في الأندلس مثل قشتالة وأرجوان والبرتغال، كان له أثر في توجيه السياسة العامة للمملكة والتي امتازت بالمهارة والمرونة التي وصلت في عدة أحيان للميوعة والتساهل مع العدو الأسباني، وسياسة غرناطة البحرية كانت جزءً من سياستها العامة، فعلى الرغم من امتلاك غرناطة لقوة بحرية منظمة وقادرة على حماية سواحلها وتجارتها، إلا إنها كانت مملكة صغيرة الحجم ضعيفة القوة والموارد والإمكانيات، ومحاطة بدول تفوقها عدة وعددًا، لذلك وضعت غرناطة حجر زاوية لسياستها البحرية يقوم على عدم التورط في قتال كبير بمفردها ضد الأسبان، ثم الاستعانة بقوة جيرانها المغاربة وهم بنو مرين الذين حلوا محل الموحدين في بلاد المغرب، عندما تضطرهم الظروف.
هذه السياسة البحرية جعلت غرناطة تحرص دائمًا على أن يكون مضيق جبل طارق مفتوحًا أمام النجدات المغربية، وبعيدًا عن السيطرة الأسبانية، وقد اضطرت غرناطة في سبيل ذلك للتنازل عدة مرات للمغرب عن بعض قواعدها الجنوبية لاتخاذها رأس جسر للتدخل وقت الجهاد، وقد أدرك الأسبان تلك السياسة الغرناطية، فحاولوا احتلال المضيق، ومن هنا نشأ صراع طويل بين جميع القوى حول السيطرة على جبل طارق واستغرق هذا الصراع السياسة البحرية الغرناطية لأكثر من قرنين من الزمان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم