سلسلة خطب الدار الآخرة (16) الجدال والتخاصم بين الغرماء

عبدالله محمد الطوالة

2023-09-22 - 1445/03/07 2023-09-28 - 1445/03/13
عناصر الخطبة
1/مجيء الله تعالى لفصل القضاء 2/الجدال والتخاصم بين الغرماء 3/سؤال الأنبياء والمرسلين 4/جدال المتخاصمين بين يدي الله تعالى 5/القصاص بين العباد يوم القيامة.

اقتباس

ثم يَجيءُ اللهُ -جلَّ جلاله- في ظُللٍ من الغمام والملائكة.. فإذا جاء العظيمُ -جلَّ جلاله- أشرقت الأرض بنوره، ويُصعقُ أهلُ الموقفِ لجلاله وهيبتهِ، ثم يُفيقون وقد انخلعت القلوب، ووجلت النفوس، وشخصت الأبصار، وأُبلس المجرمون, ويضعُ الله عرشهُ حَيْثُ شَاء..

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ ذلَّ لجبروته كلُّ شيءٍ وخضَعَ، والحمدُ للهِ أبدعَ ما أوجدَ, وأتقنَ ما صنَعَ، والحمدُ للهِ أحسنَ ما خلقَ وأحكمَ ما شرع.. (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[النور: 45].

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى في مجده وتقدَّسَ وارتفع.. وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، ومصطفاهُ وخليله، أفضلُ مُقتدًى به وأكملُ مُتَّبَع، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه, وعلى آله وصحابته أولو الفضل والتّقَى والورَع، والتابعين وتابِعيهم، وكُلّ من نهجَ سبيلَ الحقِّ ولم يبتدع، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أنَّ الإيمانَ إذا وقرَ في القلبِ فاضَ على الجوارحِ، فأصبحت الحركاتُ والسكناتُ كُلُّها للهِ.. جاء في حديثٍ قدسيٍ صحيح: "فإذا أحببتُه كنتُ سمعَهُ الذي يسمَعُ به، وبصرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويدَهُ التي يبطِشُ بها، ورجلَهُ التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينّهُ، ولئن استعاذني لأعيذنّهُ"؛ (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الجمعة: 4].

 

معاشر المؤمنين الكرام: هذه هي الحلقةُ السادسةَ عشرةَ من سلسلة خُطبِ ودروسِ الدارِ الآخرة، وقد تحدثنا في الحلقة الماضيةِ عن العرضِ العامِّ على الله -تعالى-، بعد أن يقبلَ اللهُ شفاعةَ نبيه -صلى الله عليه وسلم- في بدء الحسابِ, ويخبرهُ أنهُ سيأتي بنفسه لفصلِ القضاء بين العباد، تنشقُ السماءُ ويسمعُ أهلُ المحشرِ لانشقاقها صوتاً عظيماً مُرعباً، (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا)[الفرقان: 25].

 

ثم ينظرون فإذا الملائكةُ يهطلون من السماء بأعدادٍ هائلة، فيحيطون بأطراف أرضِ المحشر، فإذا رآهم الناسُ ندُّوا وهربوا، فلا يتوجهون إلى جهةٍ إلا وجدوا صفوف الملائكة أمامهم، فذلك قول الله -تعالى-: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ)[غافر: 32-33].

 

وتظلُ الملائكةُ تهبطُ أفواجاً مُتتابعة، كُل ملائكةِ سماءٍ يُحيطونَ بمن قبلهم، حتى تكتمل سبعة صفوف، وكلما هبطَ فوجٌ من الملائكة بادرهم أهل المحشر يسألونهم: أفيكم ربنا، فيقول لا وهو آتٍ..

 

ثم يَجيءُ اللهُ -جلَّ جلاله- في ظُللٍ من الغمام والملائكة.. فإذا جاء العظيمُ -جلَّ جلاله- أشرقت الأرض بنوره، ويُصعقُ أهلُ الموقفِ لجلاله وهيبتهِ، ثم يُفيقون وقد انخلعت القلوب، ووجلت النفوس، وشخصت الأبصار، وأُبلس المجرمون, ويضعُ الله عرشهُ حَيْثُ شَاء مِنَ الأرْض, ثم تأتي جميعُ الأممِ تِباعاً للعرض عليه -جلّ وعلا-؛ (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)[الكهف: 48]، وقال -جلَّ جلاله-: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)[الحاقة: 18]..

 

في الحديث الصحيح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -تبارك وتعالى- إذا كان يومُ القيامة ينزلُ إلى العباد ليقضي بينهم وكلُّ أمةٍ جاثية".. فالكل يُعرضُ جاثياً على الركب، ينتظرُ كلمةَ الحكمِ وفصلَ القضاء.. وخلالَ هذا العرضِ المهيب, يأمرُ اللهُ -جلَّ جلاله- بالنار فتسعَّرُ، وتُقربُ من الكفار، ويأمرُ بالجنة فتقرَّبُ لأهلها، قال -تعالى-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ)[الشعراء: 90-91].

 

 ويخرجُ عنقٌ طويلٌ هائلٌ من النار، قد وكِّلَ بأصنافٍ مُعينةٍ من الكفار فيلتقِطُهم ويمضي بهم إلى النار.. وبعد مرحلةِ العرضِ العام، تبدأُ مرحلةُ الجدالِ والتَّخاصُم بين الغرماء.. ففي صحيح الإمام البخاري: قال -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَّلُ مَن يُدْعَى يَومَ القِيامَةِ آدَمُ، فَتَراءَى ذُرِّيَّتُهُ، فيُقالُ: هذا أبُوكُمْ آدَمُ، فيَقولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، فيَقولُ: أخْرِجْ بَعْثَ جَهَنَّمَ مِن ذُرِّيَّتِكَ، فيَقولُ: يا رَبِّ، كَمْ أُخْرِجُ؟ فيَقولُ: أخْرِجْ مِن كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وتِسْعِينَ"..

 

وفي حديثٍ قدسيٍ متفقٍ على صحته، "يقولُ اللَّهُ -تَعالَى-: يا آدَمُ، فيَقولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ في يَدَيْكَ، فيَقولُ: أخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قالَ: وما بَعْثُ النَّارِ؟ قالَ: مِن كُلِّ ألْفٍ تِسْعَ مِئَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها، وتَرَى النَّاسَ سُكارَى وما هُمْ بسُكارَى، ولَكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وأَيُّنا ذلكَ الواحِدُ؟ قالَ: أبْشِرُوا؛ فإنَّ مِنكُم رَجُلًا، ومِنْ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ ألْفًا.. ثُمَّ قالَ: والذي نَفْسِي بيَدِهِ، إنِّي أرْجُو أنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ، فَكَبَّرْنا، فقالَ: أرْجُو أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أهْلِ الجَنَّةِ، فَكَبَّرْنا، فقالَ: أرْجُو أنْ تَكُونُوا نِصْفَ أهْلِ الجَنَّةِ، فَكَبَّرْنا، فقالَ: ما أنتُمْ في النَّاسِ إلَّا كالشَّعَرَةِ السَّوْداءِ في جِلْدِ ثَوْرٍ أبْيَضَ. أوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضاءَ في جِلْدِ ثَوْرٍ أسْوَدَ"..

 

ولاختلاف النسبةِ بين الحديثين، قال العلماءُ: إنَّ الحديثَ الثاني يشملُ جميعَ الأممِ بمن فيهم يأجوجُ ومأجوج، أما الحديث الأول فمن دون يأجوج ومأجوج.. ثم ينادي الله -جلَّ جلاله- الأنبياء والرسل, فيدعوهم جميعاً للمثول بين يديه -تبارك وتعالى-؛ ليسألهم على مرأىً ومسمعٍ من أقوامهم، قال -تعالى-: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)[المائدة: 109].

 

 هذا السؤالُ العظيم تحقيقاً للقسم الذي أقسمهُ الله في كتابه: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الحجر: 92-93]، وقال -تعالى-: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)[الأعراف: 6].. فيسألهم -سبحانهُ- سؤالاً عاماً: (مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)[المائدة: 109]، وقولُ الرسل لا علم لنا, ليس جهلاً منهم بالإجابة، وإنما لهول الموقفِ وتأدباً مع الله -تعالى- فهو علَّام الغيوب..

 

ثم ينادي الله الأمم جميعاً بنداءٍ يسمعهُ من بَعُدَ كمن قرُب، فيسألهم نفس السؤال، قال -تعالى-: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ)[القصص: 65-66]، فلهول الموقفِ تضيعُ الإجابةُ من الجميع، ولذا قال الله -تعالى- بعدها: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ)[القصص: 67].

 

فيا له من موقفٍ ما أكربه! ويا لهُ من هولٍ ما أصعبه! (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[إبراهيم: 48-52]...

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه،....

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه،.....

 

معاشر المؤمنين الكرام: ومن عدل اللهِ المطلق, وحكمته المتناهية, أنه سيوضحُ الحقَّ عند جدالِ المتخاصمين بين يديه، وسيقيمُ الحجةَ على كُل مُنكرٍ ومُكذبٍ، وسيكونُ -جلَّ جلاله- بنفسه حكماً وشاهداً, وكفى بالله شهيداً, فهو أحكم الحاكمين، وهو العليم الخبير، ومع ذلك سيجعلُ الشهودَ كثيرينَ ومتنوعين، قطعاً لأي عذر، وإفحاماً لأي مُنكِر، فالملائكة الكرام تشهد، والأنبياءُ والرسلُ يشهدون، والصحفُ تشهد، والأممُ والأفرادُ يشهدون على بعضهم، والأعضاءُ تشهد، والجلودُ تشهد، والمكانُ يشهد، والزمانُ يشهد..

 

وقد تكرر في القرآن الكريم قوله -تعالى-: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا)[العنكبوت: 52]، وقال -تعالى-: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الجاثية: 29]، وقال -تعالى-: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ)[النحل: 89].

 

وفي صحيح البخاري، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يُدْعَى نُوحٌ يَومَ القِيامَةِ، فيَقولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ يا رَبِّ، فيَقولُ: هلْ بَلَّغْتَ؟ فيَقولُ: نَعَمْ، فيُقالُ لِأُمَّتِهِ: هلْ بَلَّغَكُمْ؟ فيَقولونَ: ما أتانا مِن نَذِيرٍ، فيَقولُ: مَن يَشْهَدُ لَكَ؟ فيَقولُ: مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُونَ أنَّه قدْ بَلَّغَ: (وَيَكونَ الرَّسُولُ علَيْكُم شَهِيدًا)، فَذلكَ قَوْلُهُ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ علَى النَّاسِ ويَكونَ الرَّسُولُ علَيْكُم شَهِيدًا)[البقرة: 143].

 

وفي حديث صحيح أعمُّ من السابق، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يَجِيءُ النبيُّ يومَ القيامةِ ومعه الرجلُ، والنبيُّ ومعه الرجلانِ، والنبيُّ ومعه الثلاثةُ، وأكثرُ من ذلك، فيُقالُ له: هل بَلَّغْتَ قومَك؟ فيقولُ: نعم، فيُدْعَى قومُه، فيُقالُ لهم: هل بَلَّغَكم هذا؟ فيقولونَ: لا، فيُقالُ له: مَن يَشْهَدُ لك؟ فيقولُ: مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ، فيُدْعَى مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ فيُقالُ لهم: هل بَلَّغَ هذا قومَه؟ فيقولونَ: نعم، فيُقالُ: وما عِلْمُكُم بذلك؟ فيقولونَ: جاءنا نبيُّنا فأَخْبَرَنا أنَّ الرُّسُلَ قد بَلَّغُوا فصَدَّقْناه، فذلك قولُه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143].

 

 يقول الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "وهذا من باب قطعِ حُجةِ الخصمِ وبيانِ بُطلانِ إنكارهِ على رؤوس الأشهاد؛ حيث قالوا كما حكى القرآن عنهم: (مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ)[المائدة: 19]، فيدعى محمدٌ وأمته فيشهدون أن الرسل قد بلغوا، وإنما شهدوا لأن القرآنَ جاء بذلك، فيشهدون للرسل جميعاً: نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وبقية الأنبياء والرسل -عليهم جميعاً أفضلُ الصلاة والسلام-.

 

ويشتدُّ جدالُ المتخاصمين بين يدي الحكمِ العدلِ -جلَّ وعلا-، كُلٌّ يتبرأُ من الآخر ويشهدُ ضِدهُ، قال -تعالى-: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)[الزمر: 30-31].. وقال -جلَّ وعلا-: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ)[إبراهيم: 21].

 

 وقال -جلَّ وعلا-: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ)[يونس: 28-29].

 

وتُسألُ الطواغيتُ التي عُبدت من دون اللهِ فيتبرؤون: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا)[الفرقان: 17-18].

 

حتى عيسى -عليه السلام- يُسألُ ويتبرأ: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[المائدة: 116-117].

 

حتى الملائكةُ الكرام يُسألون فيتبرؤون: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)[سبأ: 40-41].

 

حتى إبليس اللعين يُسألُ فيتبرأ، (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[إبراهيم: 22]..

 

فإذا ما اقتص الله -جلَّ جلاله- للعباد بعضِهم من بعضٍ حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ.. بقي الموقفُ الأصعبُ، والهولُ الأكبر, وهو موقفُ الحساب، حين يقفُ العبدُ منفرداً بين يدي ربه -جلَّ وعلا- ليحاسبه على إيمانه وطاعاته, وفرائضه وعباداته, وسائر أعماله وأقواله خيرها وشرها.. وهذا ما سنتحدثُ عنه في خطبةٍ قادمةٍ -بإذن الله-.

 

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..

 

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. 

المرفقات

سلسلة خطب الدار الآخرة (16) الجدال والتخاصم بين الغرماء.doc

سلسلة خطب الدار الآخرة (16) الجدال والتخاصم بين الغرماء.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات