سلسلة بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بين المبنى والمعنى -1

الشيخ خالد القرعاوي

2023-08-11 - 1445/01/24 2023-08-23 - 1445/02/07
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/حال النبي صلى الله عليه وسلم في بيته

اقتباس

نَحنُ اليومَ على مَوعِدٍ لِزِيَارَةِ أَكْرَمِ بَيْتٍ بَشَرِيٍّ أُقِيمَ على وَجْهِ الأَرْضِ؛ قَيِّمُهُ وَرَاعِيهِ خَيرُ الْبَرِيَّةِ وَأَحَبُّ خَلْقِ اللهِ إلى اللهِ -تَعَالى-...

الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

 

الحمدُ للهِ الذي خَلَقَنَا وَسَوَّانَا، وَأَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، أَكْرَمَنَا بِبُيُوتٍ تَسْتُرُنَا وَتُأْوِينَا فَضْلاً مِنْهُ وَمِنَّةً، وَأَشْهدُ أنْ لا إلِهَ إلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، مِنهُ الفَضْلُ والجُودُ والعَطَاءُ، وَأَشْهَدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحمَّدًا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، إمامُ الحُنفَاءِ الَّلهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَاركْ عليهِ وِعلى الأَرْبَعَةِ الخُلَفاءِ أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وعُثْمَانَ وَعليٍّ، وَعَلى سَائِرِ الصَّحَابَةِ الأتْقِياءِ والتَّابِعِينَ لهُمْ بِإحسانٍ إلى يوم الجَزَاءِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا -عِبَادَ اللهِ- الذي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا تَحْفَظُكُمْ في الحَرِّ وَالبَرْدِ، وَتَسْترُ أَولادَكُمْ وَأَمْتِعَتَكُمْ، فِيهَا تَنَامُونَ وَتَأكُلُونَ وَتَأْنَسُونَ؛ فَللهِ الْحَمْدُ والشُّكُرُ والْمِنَّةُ؛ فَقَدْ كَانَ مِن جُمْلَةِ دُعَاءِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ”(رَوَاهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللهُ).

 

عِبَادَ اللهِ: نَحنُ اليومَ على مَوعِدٍ لِزِيَارَةِ أَكْرَمِ بَيْتٍ بَشَرِيٍّ أُقِيمَ على وَجْهِ الأَرْضِ؛ قَيِّمُهُ وَرَاعِيهِ خَيرُ الْبَرِيَّةِ وَأَحَبُّ خَلْقِ اللهِ إلى اللهِ -تَعَالى-، وأَهْلُهُ أَطْهَرُ الأَهْلِينَ؛ وَأكْرَمُهُمْ وَأَشْرَفُهُمْ؛ فَقَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا، نَحنُ على مَوعِدٍ لِزِيَارَةِ حُجُرَاتِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِجِوارِ مَسْجِدِهِ الْمُبَارَكِ؛ فَيَا حَبْذَا تِلْكَ الرِّحَابُ الطَّاهِرَةُ، وَالبُيُوتُ العَامِرَةُ، بِآيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ؛ فَهَلُمَّ أَوَّلًا -يَا رَعَاكُمُ اللهُ-، لِنَرَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في بَيتِهِ وَمَعَ أَهْلِهِ، هَلُمَّ بِنَا نَسْتَوصِفُ ذَلِكَ البَيتَ الكَرِيمَ، مَأْوى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَسَاكِنُوهُ أُمَّهَاتُ الْمُؤمِنِينَ. وَقَبْلَ أَنْ نَلِجَ بَيْتَ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَنَتَصَوَّرَ بِنَاءَهُ وَهَيكَلَهُ، فَأَوَّلًا: أَبْعِدْ عَنْكَ أَيَّ مُقَارَنَةٍ بَينَهُ وَبَينَ مَا نَحْنُ فِيهِ الآنَ!

 

وَثَانِيًا: لا تَتَعَجَّبَ إنْ رَأَيْتَ مَسْكَنًا صَغِيرًا وَفِرَشًا مُتَواضِعًا؛ فَالرِّجَالُ لا تُقَاسُ بالثَّرَاءِ والأَمْوَالِ. فَإنَّ رَسُولَنَا -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَزْهَدَ النَّاسِ؛ فَقَدْ نَزَلَ مَلَكٌ عِنْدَ مَبْعَثِهِ يُخُيِّرُهُ أنْ يُصبِحَ مَلِكًا رَسُولًا أَمْ يَبْقَى عَبْدًا رَسُولًا، فَقَالَ جِبريلُ عَليهِ السَّلامُ ناصِحًا لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "تواضَعْ لرَبِّكَ"، فَقَالَ رَسولُ اللهِ: "بَلْ عَبْدًا رَسًولًا".

 

عِبَادَ اللهِ: هَا نَحْنُ قَدْ أَقْبَلْنَا على بَيتِ الرَّسُولِ الأَكْرَمِ نَحُثُّ الخُطَى وَقَدْ بَدَتْ حُجُرَاتُ أَزَوَاجِهِ التِّسْع. حَولَ مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ، غُرَفًا مَبْنِيَّةً مِن جَرِيدِ النَّخْلِ مُطَيَّنَةً بِالطِينِ، وَبَعْضُها مِن حِجَارَةٍ بَعْضُهَا عَلى بَعْضٍ، وَسَقْفُهَا جَرِيدُ النَّخْلِ، إنَّها مَسَاكِنُ قَصِيرَةُ البِنَاءِ، قَرِيبَةُ الفِنَاءِ، وكانَ سَرِيرُهُ -صلى الله عليه وسلم- خَشَبَاتٍ مَشْدُودَةً بِالِّليفِ! بَيتٌ مُتَواضِعٌ وحُجَرٌ صَغِيرَةٌ، تِسْعُ حُجُرَاتٍ لِكُلِّ زَوجَةٍ حُجْرَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ البَيتُ بِأَكْمَلِهِ، مَسَاحَةُ كُلِّ حُجْرَةٍ بِفِنَائِهَا ثَمَانِيَةُ أَذْرُعٍ طُولًا وَعَرْضًا، نِصْفٌ لِأَهْلِهِ، وَالنِّصْفُ الآخَرُ لِضَيفِهِ.

 

عِبَادَ اللهِ: لكُمْ أَنْ تَتَخَيَّلُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذَا تَنَفَّلَ في بَيتِهِ وَسَجَدَ رَفَعَتْ أُمُّنَا عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- رِجْلَيهَا وَأَبْعَدَتْهَا عَنْ مَكَانِ سُجُودِهِ لِضِيقِ بَيتِهَا! بَيتٌ حَيٌّ عَامِرٌ بِالإيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَالوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ! بَيتٌ أَسَاسُهُ التَّوَاضُعُ وَرَأْسُ مَالِهِ الإيمَانُ، بَيتٌ نَبَوِيٌّ مُبَارَكٌ، جُدْرَانُهُ خَلَتْ مِنَ الزَّخَارِفِ وَمِنْ صُوَرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ التي يُعَلِّقُهَا بَعْضُنَا اليومَ! لأنَّ نَبِيَّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: “لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ”(رَوَاهُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ).

 

يَا مُؤمِنُونَ: تِلْكَ لَمْحَةٌ مُوجَزَةٌ عَنْ بَيتِ النُّبُوةِ الْمُتَواضِعِ، فِي زَمَنٍ طَغَتْ عَلينَا فِيهِ الْمَادِيَّاتُ وَتَبَاهَينَا فِيهِ بِأَفْخَمِ الأَثَاثِ وَأَغْلى الْمَفْرُوشَاتِ، تَكَاثُرٌ وَتَفَاخُرٌ، حَتَّى صَارَتْ بُيُوتُ بَعْضِنَا تُرَبَّى فِيهَا الْكِلابُ، وَنَغْفُلُ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلى ذَلِكَ مِنَ الإثْمِ والْعَذَابِ! فَمَعَ ذَهَابِ بَرَكَةِ الْبُيُوتِ بِعَدَمِ دُخُولِ الْمَلائِكَةِ الْكِرَامِ فَإنَّ نَبِيَّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ”(رَوَاهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللهُ).

 

عِبَادَ اللهِ: إنَّ نَبِيَّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيرُ مَنْ تَفَهَّمَ قَولَ اللهِ تَعَالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).

 

فَالَّلهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيمَا رَزَقْتَنَا، وَقَنِّعْنَا بِما آتَيتَنَا، وَأَغْنِنَا بِحَلالِكَ عنْ حَرَامِكَ، وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواكَ.

 

أَقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهُ على نَعْمَائِهِ، وَأَشهدُ ألَّا إله إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لهَ نَشْكُرهُ على وَاسِعِ فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ، وَأَشهَدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُهُ أَفْضَلُ رُسُلِهِ وخَاتَمُ أَنْبِيائِهِ، الَّلهمَّ صَلِّ وَسَلِّم وَبَارِكْ عليهِ وَعلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَوليائِهِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَأَوصِيكُمْ -عِبَادَ اللهِ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ وَكَثْرةِ حَمْدِهِ فَكَمْ خَصَّنَا بِنِعَمٍ! وَأَزَالَ عنَّا مِنْ فَقْرٍ وَنِقَمٍ؟! ثمَّ اعلموا -يَا مُؤمِنُونَ- أَنَّ قِيمَةَ الْمُسْلِمِ لَيسَتْ بِأَمْوالِهِ، وَمَسَاكِنِه، وَمَرَاكِبِهِ، وَأَرْزَاقِهِ! فَإنَّ نَبِيَّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ- صَحِيحِهِ).

 

عِبَادَ اللهِ: دَعُونَا نُشَنِّفُ آذَانَنَا وَنُبْحِرُ فِي خَيَالِنَا وَتَفْكِيرِنَا وَنَتَجَوَّلُ فِي بَيتِ نَبِيِّنَا وَحَبِيبِنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَنَحْنُ نَقْرَأُ كَلامَ الإمَامِ ابنِ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- كَتَابِهِ الْعَظِيمِ زَادِ الْمَعَادِ فِي هَدْي خَيرِ الْعِبَادِ وَاصِفًا حَيَاةَ رَسُولِ اللهِ وَأَثَاثَهُ وَمَلْبَسَهُ وَمَرْكَبَهُ لِنُدْرِكَ أَنَّ الرِّجَالَ لا يُقَاسُونَ بِالْمَظَاهِر! فَمِمَّا قَالَهُ: فِرَاشٌ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أُدُمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ. مِنْ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ، مَحْشِيٍ بِلِيفِ النَّخْلِ، وِسَادَتُهُ كَذَلِكَ. فَكَانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنَامُ على الفِرَاشِ تَارَةً، وَعَلى الحَصِيرِ تَارَةً، وَعَلى الأَرْضِ تَارَةً، وتَارَةً عَلى سَرِيرٍ قَوَائِمُهُ مِنْ سَاجٍ أَهْدَاهُ لَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ-.

 

وَإليكُمْ -يَا رَعَاكُمُ اللهُ- صُورَةً مُعَبِّرَةً مِن صُوَرِ عِيشَةِ النَّبِيِّ الأَكْرَمِ فَقَدَ دَخَلَ يَومًا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَقَدْ أَثَّرَ الشَّرِيطُ بِجَنْبِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حِينَها تَفَجَّرَتْ مَدَامِعُ عُمَرَ وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَحْتَمِلَ مَا رَأَى، فَبَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا يُبْكِيكَ يَا عُمَرُ؟" قَالَ: وَاللهِ مَا أَبْكِي إِلَّا أَنْ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّكَ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْ كِسْرَى، وَقَيْصَرَ وَهُمَا يَعِيثَانِ فِي الدُّنْيَا فِيمَا يَعِيثَانِ فِيهِ، وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، بِالْمَكَانِ الَّذِي أَرَى. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ " فَقَالَ عُمَرُ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ".

 

أَيُّهَا الْمُؤمِنُونَ: تَحَمَّلُوا مَا سَتَسْمَعُوهُ مِنْ عَيشِ خَيرِ البَرِيَّةِ وَنَبِيِّ الْثَّقَلَينِ بِأَحَادِيثَ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ- صَحِيحِهِ؛ فَقَدْ كَانَ مِن جُمْلَةِ دًعَاءِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَولَهُ: “اللهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا” أَيْ كِفَايَةً مِنْ غَيرِ إسْرَافٍ يَسُدُّ رَمَقَهُمْ! فِي يَومٍ وَصَفَتْ أُمُّنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا حَيَاتَهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ بِقَولِهَا: “مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، حَتَّى قُبِضَ” وَقَالَتْ: “إِنْ كُنَّا آلَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَنَمْكُثُ شَهْرًا مَا نَسْتَوْقِدُ بِنَارٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا التَّمْرُ وَالْمَاءُ”، وَكَانَتْ تَقُولُ لِعُرْوَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَاللهِ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَارٌ، قَالَ: قُلْتُ: يَا خَالَةُ فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟ قَالَتْ: “الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَلْبَانِهَا، فَيَسْقِينَاهُ”.

 

وَهَذَا النُّعْمَانُ بْنَ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: “لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ، مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ” يَعنِي رَدِئَ التَّمْرِ. وَوَصَفَ الْفَارُقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَالَةَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: “لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي، مَا يَجِدُ دَقَلًا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ” وَكُلُّكُمْ يَعْلَمُ تِلْكَ الْقِصَّةَ الشَّهِيرَةَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ أبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ والرَّجُلِ الْأَنْصَارِيَّ التي سأذْكُرُ تَفْصِيلَهَا فِي جُمُعَةٍ قَادِمَةٍ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.

 

فَأسْأَلُ اللهَ أنْ يَعْمُرَ قُلُوبَنَا جَمِيعًا بِطَاعَتِهِ، وَألْسِنَتَا بِذِكْرِهِ، وَجَوارِحَنَا بِشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ.

 

يَا عَبْدَ اللهِ:

إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا *** فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ

وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَا *** دِ فَرَبُّ الْعِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ

 

فَالَّلهُمَّ اقْسِمْ لَنا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحولُ بِه بَينَنَا وبينَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلُّغُنَا بِه جَنَّتَكَ، الَّلهمَّ لا تَجعلِ الدٌّنيا أكبرَ همِّنا، ولا مَبلَغَ عِلمِنا، ولا إلى النَّارِ مَصِيرَنَا، الَّلهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّن بَرَّ واتَّقى، وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَيَسَّرتَهُ لليُسرَى.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَحِّدِ َّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ الْمُؤمِنِينَ.

 

اللَّهُمَّ احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَوَفِّقْ وَلِيَّ أمْرِنا لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَهُ فِي رِضَاكَ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ. اللَّهُمَّ انْصُرْ جُنُودَنَا وَاحْفَظْ عَلينَا دِينَنَا وَأَمْنَنَا وَحُدُودَنَا وَأَخْلاقَنَا يَارَبَّ الْعَالَمِينَ.

 

اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في أَرزَاقِنَا، وَأَغْنِنَا بِحَلالِكَ عنْ حَرَامِكَ، وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواكَ. رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ. عِبَادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

 

فَالَّلهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلى عَبْدِكَ وَنَبِيِّكَ مُحَّمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجمعينَ.

 

(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).

المرفقات

سلسلة بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بين المبنى والمعنى.doc

سلسلة بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بين المبنى والمعنى.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات