اقتباس
الدعاة إلى دين الله -عز وجل - يعايشون واقعا مليئا بالمتغيرات والمستجدات والنوازل؛ بل إن هذه المستجدات والنوازل قد أصبحت سمة العصر، وقد تقلصت قاعدة الثوابت واتسعت قاعدة المتغيرات، فحاجات البشر لا متناهية، فكل يوم جديد ومستحدث، والأهم من ذلك أن...
تكلمنا في الحلقتين السابقتين من هذه السلسلة المباركة من " أفقاه لا يستغني عنها داعية " عن " فقه الواقع " ثم عن " فقه المقاصد " وسوف نتكلم هذه المرة عن " فقه الموازنات " ومقصودنا من هذه السلسلة أن يتخرج جيل جديد من الدعاة يجمع بين الفقه وبين الدعوة، أي الداعية الفقيه الذي يدعو إلى الله -عز وجل - على بصيرة وعلم ودراية، فيتحقق بإذن الله علي يديه أكبر النجاحات، ويكون عاملا من عوامل البناء والنهوض، فليس الكلام عن هذه الأفقاه من باب الترف الفكري والتحسين الدعوي، بل هي من ركائز الدعوة الأصلية التي بدونها يكون الداعية معول هدم شره أكبر من خيره.
أولا: تعريف فقه الموازنات
فقه الموازنات؛ هو فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، والنظر في مآلات الأمور، بعد تقرير المصالح والمفاسد المترتبة على الفعل أو الترك، وهذا النوع من الفقه من أهم وأعظم قواعد الشريعة، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها ومن ثم يجب على الدعاة مراعاة المصالح والمفاسد في الدعوة بما يحقق أعلا المصالح ويدرأ أعظم المفاسد. قال ابن القيم - رحمه الله -" والشريعة مبناها وأساسها يقوم على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد, وهي عدل كلها, ورحمة كلها, ومصالح كلها, وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور, وعن الرحمة إلى ضدها, وعن المصلحة إلى المفسدة, وعن الحكمة إلى البعث, فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل "، وقال شيخه ابن تيمية -رحمه الله -" جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين, وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما, وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما "
ثانيا: أهميتها الدعوية
الدعاة إلى دين الله -عز وجل - يعايشون واقعا مليئا بالمتغيرات والمستجدات والنوازل؛ بل إن هذه المستجدات والنوازل قد أصبحت سمة العصر، وقد تقلصت قاعدة الثوابت واتسعت قاعدة المتغيرات، فحاجات البشر لا متناهية، فكل يوم جديد ومستحدث، والأهم من ذلك أن هذه المستجدات طالت أيضا الأفكار والمناهج والأطروحات، فكل يوم يطلع علينا من الشرق أو الغرب أوراق عمل وبحث جديدة، وكلما اتسعت قاعدة المتغيرات والمتطلبات، كلما زادت حدة الاختلافات والتعارضات، والحكم على كل هذه المتغيرات، وبيان أيها أولى بالتقديم والترجيح يعتبر من أهم أولويات العمل الدعوي، وإن مراعاة فقه الموازنة بين الصالح والمفاسد من الأمور المهمة التي ينبغي لكل داعية أن يتعلمها, والدعاة فيها اليوم للأسف بين إفراط وتفريط, فطائفة لم تعتد بالمصالح الراجحة فخالفت بذلك النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-, وطائفة تساهلت في اعتبار المصالح وتوسعت في استعمالها على حساب النصوص الشرعية الواضحة فلم تراع (فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد)، ووفق الله طائفة فتوسعت بين هاتين الطائفتين فعملت (بفقه الموازنة بن المصالح والمفاسد) في ضوء نصوص الكتاب والسنة مراعية في ذلك الأصول والضوابط الشرعية مستفيدة من ميراث العلماء المحققين من سلف الأمة، وما قرره من قواعد وأصول عظيمة في فهم الدين. فالدعاة إلى الله وهم يعيشون واقع الدعوة ويحملون همومها قد يرون في واقع الحياة العملي تصادماً بين حكمين شرعيين على نحو يعجز معه المكلف عن الجمع بينهما, فيضطر إلى اختيار أحدهما وإعطائه الأولوية التنفيذية، وهذا التقديم لا يكون عشوائياً, أو عن هوى وغرض كما يفعل بعض المتلاعبين بالنصوص؛ بل يجب أن يكون وفق ضوابط, وهي بمثابة قوانين يستنير بها المكلف في ترجيح حكم على آخر ليفض الاشتباك الحادث عند التنفيذ.
ثالثا: ضوابط فقه الموازنات
الموازنة بين المصالح والمفاسد ليست عمل آحاد الدعاة أو عموم الناس، فهي مهمة العلماء الراسخين الربانين، النظر في تقدير المصالح والمفاسد وتقريرها والترجيح بينها يحتاج إلى التقوى الصادقة، والبصيرة النافذة، والدراية الواسعة، ليتمكن الداعية من تحقيق مقصود الشريعة التي جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها. وعلى هذا فلابد من مراعاة أمر في غاية الأهمية عند ممارسة هذه الفقه الدعوي وهي: أن تحديد المصلحة من المنظور الشرعي لا المنظور العقلي المجرد, أو الهوى أو الغرض الدنيوي، وذلك بواسطة العلماء الصادقين الربانيين الواعين اليقظين. ومن أهم الضوابط المستخدمة في فقه الموازنات:
الضابط الأول: تقديم أعظم المصلحتين على أدناهما
ومعناه أنه في حالة تعارض مصلحتين وازدحامهما على نفس الحال، يتم تقديم المصلحة الأعلى على الأدنى، أو بعبارة أخرى تقدم المصلحة العامة على الخاصة، وذات النفع المتعدي على القاصر نفعها، فإذا تزاحمت مصلحتان لزم المكلف الحفاظ على كلهما، فإن عجز عن الجمع قام بتقديم المصلحة الراجحة والتضحية بالمصلحة المرجوحة, وليس معنى هذا أن المصلحة المرجوحة التي أهدرت, أو لم تعد مصلحة, ولكن معناه أن المكلف لم يتمكن من الجمع بينهما وبين المصلحة الراجحة, فضحى بها مضطراً لأن الشرع والعقل يحكم بلزوم الحفاظ على المصلحة العليا, ولو أدى إلى تفويت الأدنى، قال ابن القيم: "وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما ", وقال العز بن عبد السلام: "إذا تعارضت المصلحتان وتعذر جمعهما فإن علم رجحان إحداهما قدمت " والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1 ـ قوله عز وجل (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين) [ التوبة: 19 ]، وفي سبب نزولها روى الإمام مسلم من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام, إلا أن أسقي الحاج, وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام, إلا أن أعمر المسجد الحرام, وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم, فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وهو يوم الجمعة, ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه, فأنزل الله –تعالى- الآية، فيها يبين الله –تعالى- أن أعمال البر في الحج من العمارة والسقاية والرفادة, لا تساوي الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله فالإيمان بالله والجهاد في سبيل إعلاء كلمته, أعظم درجة عند الله من أعمال البر في الحج, وما عظم ثواب الإيمان والجهاد على ثواب الحج, إلا بسبب كثرة منافعهما, وهنا بيان لأن كل ما ذكر من الأعمال الصالحة إلا أن عند الموازنة بقدر الأكثر منفعة.
2 ـ قوله -صلى الله عليه وسلم- في تفضيل الجهاد وتقديمه على التطوع بالنوافل في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن سلمان -رضي الله عنه-: "رباط يوم خير من صيام شهر وقيامه, وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان ". وهذا التفضيل النبوي للعمل بناء على كثرة المنفعة فيه, يتمشى مع طبيعة الإنسان التي تميل إلى الأكثر منفعة، قال الإمام العز بن عبد السلام: "واعلم أن تقديم الأصلح فالصالح مركوز في طبائع العباد، فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لأختار الألذ, ولو خير بين الحسن والأحسن لأختار الأحسن, لا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المسرتين من تفاوت "
وهذا الضابط يعتبر من الضوابط الهامة في ضبط الخطاب الدعوي، وكيفية توجيه الناس لما فيه نفعهم الخاص والعام في الدنيا والآخرة، وأيضا هو من أدوات ضبط العمل المجتمعي، حيث يتم توجيه الطاقات والملكات والإمكانات لما يعود بالخير العميم على المجتمع والبلاد ككل، وهو يستخدم كمعيار لحل كثير من إشكاليات المجتمعات المعاصرة، كما أنه يستخدم في ترشيد حركة الدعاة حيث يركزون على الأهم فالمهم، وذلك في الوسائل والأعمال على حد السواء، مثال ذلك لو تزاحمت وسيلتان للدعوة إحداهما تذكرة وعظ وإرشاد لعدد قليل من الناس، والأخرى درس علم ثابت يمكن تدوينه وتسجيله ونشره بين أعداد كبيرة، عندها يكون تقديم الدرس على الموعظة، ومثال آخر لو تزاحم عملان للداعية أحدهما في تحفيظ القرآن لعدد محدود من الشباب أو الأطفال، والآخر في الخطابة والقوافل الدعوية، قدم العمل بالخطابة والقوافل على التحفيظ على الرغم من كون تعليم القرآن من خير، ولو تعارضت تربية الداعية لبيته وتهذيب نفسه مع مشاغله الدعوية، بحيث يؤدي هذا الانشغال لحدوث خروقات تربوية لأبنائه، وجب عليه الانتباه لبيته وأبنائه.
الضابط الثاني: درء أعظم المفسدتين بتحمل أدناهما
ومعناه إذا لم يكن هناك بد من ارتكاب إحدى مفسدتين، وقد ازدحما على نفس المكلف أو الواقعة، كان عليه أن يدفع أعظم المفسدتين ضررا بتحمل أداء أخفهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبًا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرمًا في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة؛ أو لدفع ما هو أحرم"، والدليل على هذا الضابط مطرد في مواطن كثيرة من نصوص الشريعة منها:
1ـ قوله تعالى في شأن القتال في الأشهر الحرم مبيناً أن القتال فيها أقل مفسدة من الصد عن سبيل الله: (يسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [ البقرة: 227 ]. فقد أنكر الكفار على المسلمين استباحة الأشهر الحرم والقتال فيها, فرد الله عليهم قائلاً: نعم القتال فيها كبير الإثم والجرم, ولكن الاعتداء على المسلمين والإسلام بالصد عن سبيل الله وقتل المسلمين وفتنتهم في دينهم وإخراجهم من ديارهم, كل هذا وغيره أعظم مفسدة وأكبر جرماً عند الله من انتهاك حرمة الأشهر الحرم بالقتال فيها, وإذا كان كذلك فإن القتال فيها ضروري وواجب لدرء هذه المفاسد الكبيرة.
2 ـ في قصة الخضر مع موسى -عليهما السلام- ما يبين تطبيق عملي لهذا الضابط، فقد دفع مفسدة غصب الملك السفن بمفسدة أخف, وهي خرق السفينة, واحتمل مفسدة قتل الولد ليدفع مفسدة إرهاق والديه طغياناً وكفراً التي هي أعظم وأشد من قتله.
3 ـ أما من السنة فقد روى البخاري عن أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس, فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: " دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء - أو ذنوباً من ماء- فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين "، فبول الأعرابي مفسدة لكنها أخف مما قد يصيبه من مرض بسبب قطع بوله, لهذا قال الإمام النووي معلقاً على هذا الحديث: " فيه دفع أعظم الضرر باحتمال أخفهما لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (دعوه) لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله لتضرر وأصل التنجس قد حصل, فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به.والثانية: أن التنجس قد حصل في جزء يسير من المسجد, فلو أقاموه أثناء بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد "
ومن الأمثلة التطبيقية في عالم الدعوة كثيرة، خاصة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث تعظم الحاجة لفقه الموازنات، فمثلا إن رأى الداعية شخصا في غضبه وهياجه يشتم ويلعن فلانا أو علانا، فأنكر عليه بشدة أو بغلظة أو أنبه أمام الناس ولامه بقوة، فربما ينتقل من الشتم واللعن إلى سب الدين والجهر بالكفر، فعندها يكون من الفقه الانتظار حتى تنتهي سورة غضبه ثم ينصحه بهدوء وبعيدا عن أعين الناس، مثال أخر فلو أنكرت على الأبناء في البيت تقصيرًا في صلاة الجماعة، أو عمل محظور شرعي، ثم أدى بهم هذا الإنكار إلى أن يخرجوا من البيت ويختلطوا بالفساق، فتركهم على ما هم فيه من المنكر ثم الترفق في نصحهم والتدرج معهم حتى يدعوه، وكما يطبق هذا على الأولاد في البيت يطبق في المجتمع بعامة.
الضابط الثالث: تقديم الأغلب على الأقل عند التعارض
من القواعد الأصولية عند العلماء: أنه لا مصلحة صرفة، ولا مفسدة صرفة، فكل مصلحة لا تخلو من مفسدة وكل مفسد لا تخلو من مصلحة, فلا توجد مصلحة خالصة ولا مفسدة خالصة في أي فعل من الأفعال؛ لذا كان الحكم للجهة الراجحة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "جميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم, قد تحصل لصاحبه به منافع ومقاصد, لكن كانت مفاسدها راجحة على مصالحها نهى الله ورسوله عنها, كما أن كثيراً من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة, لكن لما كانت مصلحته راجحة على مفسدته أمر به الشارع فهذا أصل يجب اعتباره "، وقال الشاطبي: " فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب, فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفاً, وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفاً ". وجريا مع هذا الميزان الشرعي الذي يراعي الجانب الأقوى فإنه إذا تزاحمت المصالح مع المفاسد فإن الحكم للجهة الغالبة, إما للمصلحة وإما للمفسدة, فإن كانت المفسدة أكبر درأنها , وإن كانت المصلحة أكبر جلبناها. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة جدا منها:
1 ـ قوله تعالى في شأن الخمر والميسر: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)
2 ـ وامتناع النبي -صلى الله عليه وسلم - عن بعض الأعمال التي قد تفهم خطأ أو يسئ استخدامها فيما بعد، مثل نقض بيت الله الحرام وإعادة بنائه على أساس إبراهيم -عليه السلام-؛ لأن المصلحة في إعادة بنائه عارضها مفسدة أكبر متمثلة في امتناع قبول بعض المسلمين ذلك لحداثة عهدهم بالكفر، كما ورد في حديث عائشة، ومنها عدم قتله للمنافقين على الرغم من كفرهم وشدة عداوتهم للمسلمين، حتى لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وحتى لا تتخذ ذريعة لمن بعده في اتهام الناس في نواياهم ومحاكمتهم بناء على ذلك.
ولعل أعظم تطبيقات هذا الضابط في الدعوة هو التعاون مع غير المسلمين والاستفادة فيما عندهم علوم وتقنية في الجهود الإنسانية أو العمرانية، بما يعود بالنفع على المجتمعات الإسلامية.
الضابط الرابع: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح
وهو أهم ضابط على الإطلاق، ولب فقه الموازنات في فهم وتقدير هذا الضابط، فمتى تعارضت المصالح مع المفاسد، ولم يمكن الترجيح أيهما أعظم نفعا أو ضررا، وكلاهما سواء، يكون درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، شريطة أن يكون تقدير حجم المصلحة أو المفسدة راجع للعلماء المتوافر فيهم الشروط السابقة من العدالة والصدق والتقوى والبصيرة بالواقع؛ حتى لا يأتي من يعظّم مصلحة أو يدّني مفسدة، ويلعب بهما كيف ما شاء وتوظيفا لأهدافه وأغراضه الخاصة، والشريعة جاءت باجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد الشرعي من فعل الأوامر، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح، ومن ذلك حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرمٍ، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم"، فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج؟ فقال: "اخرج معها" فالرجل أراد أن يخرج للجهاد (وهذه مصلحة محققة)؛ ولكن لما تعارضت مع مفسدة حج المرأة بدون محرم درئت المفسدة بسفر الرجل مع زوجته ليكون لها محرمًا، وتركت المصلحة وهي الجهاد.
إن غياب فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد من أعظم أسباب نجاح الدعوات، ومن آكد أفقاه الداعية في عالم ملئ بالمتغيرات والمستجدات والمتعارضات، وإن غياب هذا الفقه عند بعض الدعاة , جعلهم يفعلون أموراً يحسبون أنهم يحسنون بها صنعا، وهم من حيث لا يشعرون يجلبون بها المفاسد, ويفوتون بها المصالح، ولن ينفع إخلاص وصدق، مع جهل واستعجال.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم