اقتباس
وفقه الدعوة هو العِلْم الذي يُعْنى ببيان ما يحتاجه الداعية من أحكام وضوابط لكي تصبح دعوته على بصيرة، ويدخل في ذلك بيان الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الداعية، وكذلك تفصيل أحوال المدعو ووسائل دعوته، وترتيب أولويات الدعوة، وواقع المجتمعات المدعوة وظروفها، وكل...
الدعوة إلى الله من أفضل ما يتقرب به العبد إلى مولاه سبحانه، وهي أشرف الوظائف على الإطلاق بعد وظيفة النبوة، والقائمون عليها هم ورثة الأنبياء، يقومون في الأمة مقامهم، كما أنها رافد عظيم من روافد الدين؛ بها ينتشر الإسلام في العالَمِين، ومن خلالها تعم الهداية أرجاء الأرض، وفي ضوئها يرى العالَم ما عند المسلمين من خير وبركة، ولهذا كله تتطلب الدعوة إلى الله فقهًا لا يقل أهمية عن فقه العبادات والمعاملات إن لم يكن أهم منهما؛ فالفقه في الدعوة أضحى من أهم المتطلبات وعلى رأس الأولويات، ومن دون ذلك الفقه تبقى مسيرة الدعاة يشوبها الخلل ويعترضها الزلل.
وفقه الدعوة هو العِلْم الذي يُعْنى ببيان ما يحتاجه الداعية من أحكام وضوابط لكي تصبح دعوته على بصيرة، ويدخل في ذلك بيان الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الداعية، وكذلك تفصيل أحوال المدعو ووسائل دعوته، وترتيب أولويات الدعوة، وواقع المجتمعات المدعوة وظروفها، وكل ما يتصل بمجال الدعوة إلى الله.
ونحن في هذه السلسلة من أفقاه الداعية سوف نعرض لأهم أنواع الفقه التي يحتاجها الداعية أثناء ممارسته لوظيفته الدعوية، أفقاه لا يستغنى عنها، وسوف نبدأها بالحديث عن " فقه الواقــــــع "
أولا: تعريف فقه الواقع
**********************
فقه الواقع عبارة عن مركب إضافي أشبه بالمركبات الإضافية، مثل فقه السيـرة، فـقه الحديـث، والمعـاجم لا يمكنـها أن تعطيـنـا تعـريفًا أو معنى لهذه المركبات لاحتوائها على أكثر من مفردة. ثم إن مصطلح «فقه الواقع» لم يصبح بعد علمًا قائمًا مقعـدًا له كباقي العلوم التي حظيت بتعريفات كأصول الفقه، وأصول الدين ومن ثم كان تحليل عناصره ومركباته يمثل بداية وضع تعريف واضح له.
الجزء الأول من المركب هو كلمة " فقه "، وفقه الأمر يعني إدراكه وفهمه وتفطن حقيقته، والفقه هو الفهم، ويأتي بمعنى العلم، كما ورد في الحديث الصحيح " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " وقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل "، أما كلمة الواقع فهي كلمة لا أصل لها في المعاجم العربية ولسان العرب وأشعارهم، فهي أقرب لئن تكون محدثة، وبالنظر في تعريفات المعاصرين من أهل العلم نجد أن جل تعريفاتهم دارت في فلك تعريف الواقع بالنشاط الإنساني بصورة عامة ،وما تجري عليه حياة الناس، في شتى مجالاتها المختلفة، من أنماط في المعيشة، وما تستقر عليه من عادات وتقاليد وأعراف، وما يستجد فيها من نوازل وأحداث.
ومن هنا نستطيع أن نعرف فقه الواقع بعدة معان متقاربة، فنقول هو: النزول إلى الميدان وإبصار الواقع الذي عليه الناس، ومعرفة مشكلاتهم ومعاناتهم وما يستجد لهم في حياتهم وما يعرض لهم من نوازل وأحداث، وما هي النصوص التي تتنزل عليهم في واقعهم، في مرحلة معينة، أي أن فقه الواقع هنا مبني على دراسة الواقع اليومي الذي يعايشه الناس، دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع، معتمدة على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصاءات، للشيخ الألباني رحمه الله تعريف مميز لفقه الواقع، إذ عرّفه بأنه: الوقوف على ما يهم المسلمين مما يتعلق بشؤونهم أو كيد أعدائهم، لتحذيرهم والنهوض بـهم واقعيًا لا نظريًا، لا انشغالاً بأفكار الكفار وأنبائهم، أو إغراقًا بتحليلاتهم وأفكارهم. وبالجملة فإن فقه الواقع هو الفهم العميق والقراءة الواعية الصحيحة للبيئة التي يعاصرها الداعية ،وإدراك مؤثراتها وأبعادها وطبيعتها وتوصفيها على نحو صحيح.
ثانيا: أهمية فقه الواقع
*********************
إذا غفل الإنسان عن واقعه، وأعمى بصره وبصيرته عنه، فإنه لن يعبد الله عز وجل حق عبادته كما أمر، ومن لا يتصفح مع نصوص القرآن وصحيح الحديث حقيقة الواقع المتغير، الذي جعل الله تغيره بلاءً، يعجز عن عبادة الله وعن الاجتهاد في الدين، ولم يستطع أن يواكب المتغيرات الكثيرة والمتلاحقة، فإن دراسة المجتمعات، وفهم واقعها، وتاريخها وثقافتها ومعادلاتها الاجتماعية، هو الذي يوضح لنا كيفيات وآليات التعامل معها، ومواصفات خطابها، والفقه الذي يمكننا من التدرج في الأخذ بيدها إلى تقويم سلوكها بشرع الله، ففقه الواقع هو الذي يدلنا على منهج الاجتهاد ونوعه المطلوب، كما يفتح لنا باب التجديد، ويضع معالم التغيير، كل هذا طبعًا تحت ضوء المنهاج الشرعي واستمدادًا من أصوله.
وقد تكلم الأصوليون في باب الاجتهاد عن شروط المجتهد، فكان أغلبها، إن لم نقل كلها، يتكلم عن متعلقات الحكم والنــص، بحكم أن المجتهد في تلك العصور كان واحدًا من المجتمع المسلم منخرطًا فيه، معايشًا لآمال الناس وآلامهم، فكانت الاجتهادات ضمنيًا منبعثة من أعـماق الواقع الإنساني للمجتهد ،ولكن بعد أن سد باب الاجتهاد وسيطر الجمود، منذ أواسط القرن الرابع الهجري ،وابتعد المسلمون في واقعهم عن شريعة الإسلام، واستمر الكلام عن الاجتهاد وشروطه بعيدًا عما يجب أن يكون، محلقًا في أجواء النظري فقط، وانغلق المسلمون في دائرة النص، وهذا ما زاد في تعميق أزمة الاجتهاد وعقدها، حتى عد فتح باب الاجتهاد من الخطايا التي لا تغتفر، وتعرض علماء وأئمة كبار لتهمة الاجتهاد، ونالهم أشد الإيذاء والابتلاء بسبب ذلك، وحتى أن بعضهم قد قضى نحبه في السجون بسبب بعض آرائه الاجتهادية التي ظهر بعد ذلك صوابها، مثل فتاوى الإمام ابن تيمية رحمه الله في الطلاق، وكذلك ما جرى لابن القيم والعلامة ابن الوزير والأمير الصنعاني والشوكاني والقاسمي، وغيرهم كثير ممن تعرض لشتى صنوف البلاء بسبب اجتهاداته.
ولا يرتبط فقه الواقع بالاجتهاد فقط،وإنما يرتبط بالتجديد أيضًا ،وفرق بين الاجتهاد والتجديد،لأن الأول يطلق في مجال الأحكام الشرعية وتطبيق النص،والثاني فمدلوله أوسع وشامل لكل قضايا الفكر والثقافة والدين.
ثالثا: أدلة فقه الواقع
********************
يقول الله عز وجل: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [يونس: 57 ]، هذه أربعة مقاصد للقرآن الكريم: موعظة، شفاء لما في الصدور، هدى، ورحمة للمؤمنين، ترينا كيف اهتم القرآن بالإنسان الذي هو (المحور) في هذا الكون، والذي من أجله خلق وسخر، فأنزل الله سبحانه وتعالى القرآن العظيم لإخراج الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ورحمته، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، مغيرًا ما بالإنسان وما بواقعه من شرور وفساد، والشواهد على فقه الواقع من كتاب الله عز وجل كثيرة منها على سبيل الحصر ى الإجمال:
1 ـ القرآن المكي والمدني، فلكل واحد منهما خصائص وسمات وعلامات وأحكام وتشريعات، فمثلا لم يفرض القتال أو حتى رده في الفترة المكية، فجاءت كل الآيات داعية للصبر الطويل والعفو والصفح الجميل، وعلى الرغم من إلحاح المسلمين وطلبهم الإذن بالقتال وهم في مكة، فإن القتال كان محظورًا، فقد روى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له كانت أموالهم بمكة. فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ومنعة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلاء، فقال: " إني أمرت بالعفو فلا نقاتل القوم ".
2 ـ لكل قوم هاد، ولكل رسول قضية، فالله عز وجل كان يرسل الرسول إلى قومه خاصة، قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وتكرر ذلك في كتاب الله كثيرا خاصة في سورة الشعراء ( وإلى عاد أخاهم هودا ) ( وإلى ثمود أخاهم صالحا ) ( وإلى مدين أخاهم شعيبا ) والمراد أخوهم في النسب والقبيلة، وليس أخوهم في الدين كما هو مفهوم، وقال تعالى ويقول الله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ) [إبراهيم:4]، والله سبحانه وتعالى لم يبعث رسولاً إلا لمعالجة قضية من قضايا الفساد والظلم، ويصلح وضعًا من الأوضاع المنحرفة، هذا بجانب رسالته الأصلية في دعوة الناس إلى التوحيد الخالص، فهود لمواجهة الطغيان والاستبداد والتكبر، وصالح لمواجهة الفساد في الأرض، وشعيب لمواجهة التطفيف في الميزان، وأكل أموال الناس بالباطل، ولوط لمواجهة الشذوذ الأخلاقي والسلوكي، وهذا كله من باب مراعاة واقع كل مجتمع وقضاياه الهامة وأخطر أزماته.
ثالثا: أخبار الأمم السابقة، فثلث القرآن كما قال أهل العلم هو من أخبار الأمم السابقة، ومصارع الأمم، ومصير الغابرين، وجزاء المكذبين، وعاقبة المتقين، ذكرها الله عز وجل للتدبر والاعتبار والتروي والانزجار، وللقصص أثر بالغ في النفوس، تعوض عن الكثير من الكلام، إذ هي واقع حي مماثل يستعرضه علينا القرآن وكأننا نشاهده، وينقل لنا القرآن الكريم واقع الأمم السابقة، حتى نعرف أسباب الهلاك فنتجنبها وأسباب النجاة فنتبعها،فمن القصص القرآني نكتشف سنن السير في هذا الكون ومنهاج التعامل مع نعم الله عز وجل، فمشيئة الله تسير على نظم ثابتة وسنن حكيمة ترتبط فيها الأسباب بالمسببات، والمقدمات بالنتائج،وذلك كله بقدرة الله عز وجل، وتلك السنة في الماضين واللاحقين هي أن من سار على منهاج الطائعين المؤمنين الموفقين حظي بالسعادة والنصر والفلاح، ومن سار في طريق العصاة المكذبين كانت عاقبته خسرًا ودمارًا وهلاكًا.
رابعا: الإجابة على التساؤلات، ففي القرآن مواضع كثيرة يجيب الله عز وجل فيها على تساؤلات الناس المختلفة، ويبصرهم بكيفية التعامل معها، ومعظم أحكام القرآن نزلت بأسبابها، ولم تنزل ابتداء دون سبب، والنادر منها من نزل دون سؤال أو سبب، والآيات المبدوءة لكلمة " يسألونك " و " يستفتونك "، وفي نفس الوقت الذي يبين الله عز وجل فيها الأحكام، فإنه سبحانه من باب مراعاة الواقع وما فيه من مستجدات وظروف طارئة، يبين أحكام الأوضاع الاستثنائية، مثل أكل الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة.
أما من سيرة وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في مراعاة الواقع، واختلاف أحوال الناس وطبائعهم، أكثر من أن تحصر، فسيرته صلى الله عليه وسلم خصبة بمظاهر التعامل مع الواقع واعتباره، وسنقتصر هنا على ذكر وجهين فقط من مظاهر مراعاته صلى الله عليه وسلم للواقع، الأول في الإجابات المختلفة عن السؤال الواحد الذي كان يوجَّه للنبي صلى الله عليه وسلم من سائلين مختلفين، والثاني في صور تقدير الواقع في السيرة النبوية الشريفة.
الأول: أجوبة متعددة وسؤال واحد، فإن المتتبع لكلام النبي صلى الله عليه وسلم يجد أجوبة متعددة للسؤال الواحد، نظرًا لتعدد السائلين واختلاف أحوالهم، فمثلاً: عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل ؟ نجد أجوبة متعددة فتارة الصلاة على وقتها، وتارة بر الوالدين، وثالثة الجهاد في سبيل الله وهكذا، وكذلك عندما سئل: أي الناس أفضل ؟ وحين يقال له: أوصني. أو طُلب منه عمل يُنتفع به، وغير ذلك، وفهم هذا التباين والاختلاف في الإجابة على نفس السؤال، لا يكون إلا إذا وضعنا في اعتبارنا اختلاف أحوال السائلين، وعندها يزول ما قد يتوهم من تناقض، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أفقه الدعاة بواقع الناس وأحوالهم.
الثاني: تقرير الواقع في الهدي النبوي، فمن يستعرض السيرة النبوية الشريفة يجد النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس حسب أفهامهم، ويعاملهم ويخاطبهم حسب قدراتهم، كما كان يراعي أحوالهم في المنشط والمكره، ويعتبر حاجاتهم ويرأف بهم وييسر عليهم، ويرفع عنهم الحرج، فهذه أمور كانت بمثابة الملامح الأساسية للدعوة النبوية، نعرض بعضًا منها لاستخلاص العبر والحكم، لتكون بذلك منهاجًا واقعيًا واسعًا شاملاً وكاملاً للدعوة إلى الله عز وجل، فمثلا عن ابن عمر رضي الله عنه قال، قال رجل: يا رسول الله، حدثني بحديث واجعله موجزًا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " صل صلاة مودع، فإن كنت لا تراه، فإنه يراك، وإياك مما في أيدي الناس تعش غنيًا، وإياك وما يعتذر منه "، وجاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علمني كلامًا أقوله، قال: "قل:لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم "، فقال: هؤلاء لربي فمالي ؟ قال: قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني "، فانظر إلى الأعرابي، وهو المعروف بالطبع الحاد والفهم الساذج والانفعال السريع، يقول: هذا لربي، فمالي ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعنفه، بل علمه دعاءً وقدر فهمه، فلا يمكنه أن يعلمه ما لا يطيق أو ما يسبب له حنقًا وغضبًا على الإسلام، وكذلك الإعرابي الذي بال في المسجد، ورد فعل الصحابة ورد فعل النبي صلى الله عليه وسلم، مثال آخر، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال: " يا رسول الله، أقبل وأنا صائم ؟ قال: لا، فجاء شيخ فقال: يا رسول الله، أقبل وأنا صائم ؟ قال: نعم، فنظر بعضنا إلى بعض فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد علمت نظر بعضكم إلى بعض، إن الشيخ يملك نفسه "، أي أن قدرة الشيخ ليست هي قدرة الشاب. أما الأمثلة على التيسير ورفع الحرج فكثيرة جدا، فغالب نصوص الشريعة جاءت برفع الحرج.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم