عناصر الخطبة
1/حديث: \"يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة\" وبعض فوائده وعبره 2/خطر أمراض القلوب 3/ضرورة اجتماع المسلمين ووحدتهم 4/اجتماع ملل الكفر على المسلميناقتباس
من سلم قلبه للمؤمنين، طاب حديثه والحديث معه، وأنس به الجليس، تحبه النفوس، وتشتاق إليه الأرواح والقلوب، طيّب المعشر، لينٌ متواضع، بَرٌ رحيم، عطوف كريم. إن تحدث لم يؤذ، وإن نزل بقوم نزل السرور بساحتهم، وإن...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
"يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة". "يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة".
قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بين أصحابه، فاشرأبت الأعناق وحدقت الأبصار، لترى من هو المبشر بروح وريحان، وربٍ راضٍ غير غضبان، فإذا به رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-، لا يعرفه إلا القليل.
وغابت الشمس ذلك اليوم، لتشرق مع صباح الغد القريب، فيقول النبي -عليه الصلاة والسلام- قولته البارحة: "يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة".
وإذا بالرجل ذاته!.
وفي اليوم الثالث يكرر المصطفى بشارته فيطلع هو، فمن ذلك الرجل؟!
ولماذا حظي بالبشارة بالجنة من فم النبي -عليه الصلاة والسلام-، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى؟!
ولماذا شهد له النبي -عليه السلام- بالفوز والفلاح على مرأى ومسمع من أصحابه؟
ولماذا كان الأسلوب فريدًا، والعرض مشوقًا؟
فبينما هم في المسجد، والسكون يحتويهم وهم يرقبون كلمة نور وهدى، يتحرك بها لسان المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، لبيان حكم، أو تبليغ آية، أو وصاية بأدب، إذا به يقول: "يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة".
فلا تسل عما احتوى القلوب من الرجاء أن لو كانت هي ذلكم الطالع، وما ملأ النفوس من معاني الإكبار والإعظام لذلك الرجل المبشَّر بالنعيم المقيم، والفوز الذي لا يعقبه خسارة، والخلود الذي ليس وراءه فناء أو زوال.
ليس المهم من هو، ولكن الأهم لماذا بُشِّر؟ وما عمله الذي بلّغه تلكم المنزلة، وأوصله ذلك الشرف؟
وبينما هم يرقبون باب المسجد في شوق إذ طلع رجل من الأنصار تنطف -تسيل- لحيته من وضوئه قد علّق نعليه بيده الشمال.
فلما قام النبي -صلى الله عليه وسلم- تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: "إني لاحيت -نازعته- أبي، فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم.
قال أنس -رضي الله عنه- فكان عبد الله يحدث: أنه بات معه تلك الثلاث الليالي، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعارّ تقلب على فراشه
ذكر الله -عز وجل-، وكبّر حتى يؤذَن لصلاة الفجر.
قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث الليالي، وكدت أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك، فأنظر ما عملك فاقتدي بك فلم أركَ عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟
قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليتُ دعاني، فقال: "ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك"[إسناده صحيح على شرط الشيخين، راه أحمد في مسنده وعبد الرزاق في مصنفه وصحح إسناده الضياء في المختارة وابن كثير في التفسير].
نعم، هذه هي التي بلغت به تلكم المنزلة، فرفعت قدره، وأعلت شأنه، فها هو ذا يسير بين الناس، بل بين أفضل الناس، يُشار إليه بالبنان: أن هذا الموعود بالنعيم والرضوان.
لم يكن طويل القيام والصلاة، قد يُحتقر عمله ويستقل، ولكنه كان يحمل قلبًا طاهرًا، طهارة الماء العذب الزلال، نقيًا، نقاء الثلج والبرد مشرقًا بنور الإخاء والمحبة، ساطعًا بضوء السلامة وحب الخير للناس، سليماً من الحقد والغش والحسد.
من سلم قلبه للمؤمنين، طاب حديثه والحديث معه، وأنس به الجليس، تحبه النفوس، وتشتاق إليه الأرواح والقلوب، طيّب المعشر، لينٌ متواضع، بَرٌ رحيم، عطوف كريم.
إن تحدث لم يؤذ، وإن نزل بقوم نزل السرور بساحتهم، وإن ارتحل ارتحل من غير أذىً أو أذية، كالنحلة تلقُط خيرًا وتلقي شهدًا.
كيف لا يحظى بهذه المنزلة، ويفوز بتلك البشارة؟
كيف لا ينعم في الأولى بالراحة والسرور، وفي الأخرى بالجنة والخلود مع المقربين الشهود، والنداء الرباني لم يزل يتردد في كل حين: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:88 - 89].
أخرج ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب، صدوق اللسان" قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد"[صحيح، سنن ابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان، وصحح إسناده المنذري في الترغيب والبوصيري في الزوائد، وصححه الألباني].
كم من مريض قلب، يتقطع حسرة وألمًا؛ لأن زيدًا ربح في تجارته، وعمرًا نجح في دراسته، وآخر بورك له في زواجه؟!
كم من الناس يعيش همًا وغمًا وعناءً وحرقة، يتقلب على فراشه والغيظ يعتصره يأكل معه الحسد ويشرب، وينام معه الكره والبغض ويستيقظ؛ لأن فقيرًا اغتنى، ومريضًا شفي، أو عقيمًا رزق؟.
أيا حاسدًا لي على نعمتي *** أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه *** لأنك لم ترض لي ما وهب
فأخزاك ربي بأن زادني *** وسد عليك وجوه الطلب
أفٍ لقلوب مريضة! إن أعطيت لم تشكر، وإن مُنعت لم تذكر، تنظر إلى الناس شزْرًا -نظر الغضبان بمؤخِر عينه- يؤلمها أن يترقّى الناس في مراتب التوفيق والنجاح، يحزنها أن يسعدوا ويفرحوا، ويملأ حياتهم السرور، ويغشى دارهم الحبور.
روى الترمذي والبزار بسند حسن من حديث الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دب إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يُثبت ذاكم لكم؟ أفشوا السلام بينكم"[حسن، سنن الترمذي وأحمد وحسنه الألباني بشواهده].
ربما عجز الشيطان من أن يجعل الرجل العاقل المسلم يسجد لصنم، أو يؤلّه حجرًا أو شجرًا، ويتمسح بقبر أو ضريح؛ ولكنه لن يعجز عن المباعدة بينه وبين ربه، وهو يحتال لذلك بإيقاد نار العداوة في القلوب، فإذا اشتعلت استمتع الشيطان برؤيتها وهي تحرق حاضر الناس ومستقبلهم، وتلتهم علائقهم وفضائلهم، الحقد والعداوة والبغضاء هي المصدر الدفين لكل رذيلة.
رَهَّبَ منها الإسلام، افتراء على الغير، وسوء ظن، وتتبع للعورات، لمز وهمز، تعيير بالعاهات والمناقص.
إن جمهور الحاقدين الحاسدين، تغلي مراجل الحقد في أنفسهم؛ لأنهم ينظرون إلى الدنيا، فيجدون ما تمنوه لأنفسهم قد فاتهم وامتلأت به أكفٌّ أخرى، وهذه هي الطامة التي لا تدع لهم قرارًا.
وهم بذلك كله أضحوا خلفاء إبليس ووزرائه.
أخرج الطبراني من حديث جابر -رضي الله عنهما- قال: "تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر فيغفر له، ومن تائب فيتاب عليه، ويرد أهل الضغائن بضغائنهم حتى يتوبوا"[المعجم الأوسط للطبراني وضعفه للألباني].
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا"[رواه مسلم].
ترفع أعمال العباد، كل العباد، فيغفر الله لمن شاء شريطة أن لا يشرك به شيئًا.
أما أولئك المتخاصمين، أصحاب القلوب التي قد أثرت فيها براكين الحقد والحسد وإن كانوا أعبد الناس، فلا يرفع لهم عمل، ولا تمنح لهم مغفرة، حتى تُزال سخائم القلوب، ودفائن البغض والعداء.
فتصور -أيها الحبيب المحب للخير وأهله- يوم يَستسلم الإنسان لهواه، وينقاد لألاعيب الشيطان وحزبه، فيهجر أخاه المسلم، لوشاية وصلته، أو خلافٍ في تجارة أو مال، أو غيرها من حُطام الدنيا وشهواتها.
تفكر -أيها المبارك- والأيام تتابع، والأسابيع تتوالى، تتقلب الشهور والأعوام، وأعمال العباد ترفع، والرب الكريم الرحيم يجود بالغفران والستر، وهو ما زال يؤخر ويُنظر، أنظروا هذين حتى يصطلحا، فهل يصح هذا في قاموس العقلاء؟
أيها العاقل: هل يصح أن يحرم المرء نفسه من المغفرة والرضوان، لأجل موقف ساذج أو عبارة تافهةٍ؟
هل تفكرنا في قول الصادق المصدوق -عليه السلام-: "يوم تشرع أبواب الجنة في كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا"[رواه مسلم].
هل نعي معنى الغفران، إذا منّ الله عليك بالغفران تنزلت عليك في دنياك السكينة، تشعر معها براحة وسعادة لا يعلم مداها إلا من وهبها وأسداها؟
المغفرة نور في القلب والجوارح، إن يغفر الله لك، فبشراك! بشراك بجنة عرضها السموات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
إذا رضي الله عنك، فلا يضرك وإن سخط عليك الناس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات:11].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا"[رواه البخاري ومسلم].
فسلامة القلب للمؤمنين، عطية ربانية، ومنحة إلهية، يهبها من يشاء من عباده.
وإن الأمة اليوم بحاجة ماسة إلى اتحاد الصف، وجمع الكلمة، ونبذ العداوات والشقاق: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[رواه البخاري ومسلم].
وإن الناظر اليوم لملل الكفر على اختلافها، يجد فيها معاني التفاني في نصرة العقيدة والمبدأ، فمن غابر العصور، الكفر يدٌ واحدة على المسلمين، ينسون ما بينها من العداوة والبغضاء، بل وينسون الحروب والأحقاد.
فالكفر ملة واحدة، فعجبًا، أليس الواجب أن تكون الأمة الإسلامية صفًا واحدًا في وجه الأعداء؟! فأين مبادئ الصدق والوفاء التي نتغنى بها، ونحفظ عباراتها؟
أين ركائز الأخوة وعلاقات المحبة الدينية التي ما زلنا نرددها ونقرأوها؟
وهي من واقع الحياة بعيدة، فهل تستكثر -يا رعاك الله- ابتسامة تقبل بها على أخيك المسلم، أو عبارة شجية حانية تخاطبه بها؟
أم أن القضية أضحت مصالح ومعارف، فلا تسلم إلا على من عرفت، ولا تهش وتبش إلا في وجه من تنتظر منه نفعًا أو مصلحة؟
فكيف تريد الأمة أن تستيقظ من سباتها العميق وأفرادها لم ينتصروا بعدُ على أنفسهم، ويغلبوا هواهم، ويقودوا عواطفهم ومشاعرهم في سبيل صراط الله المستقيم؟!
إن أمتك ترجو منك أن تحب الخير للمسلمين.
افرح لفرحهم، واحزن لحزنهم، شاركهم في الألم والأمل، سلّم على من عرفت ومن لم تعرف، لتعلُ محياك ابتسامة الرضى والمحبة، وليتقاطر لسانك بعبارات الأخوة والصفاء.
كن من صنّاع الحياة وناشري السعادة، وارفع علمًا لا ترض له تنكيسًا، منقوشاً بين خيوطه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10].
كن بلسمًا إن صار دهرك أرقما *** وحلاوة إن صار غيرك علقما
أحسن وإن لم تجز حتى بالثنا *** أي الجزاء الغيث يبغي إن هما
من ذا يكافئ زهرة فواحة *** أو من يثيب البلبل المترنما
أيقظ شعورك بالمحبة إن غفا *** لولا الشعور الناس كانوا كالدُّمَى
أحبب فيغدو الكوخ كونًا نيرًا *** أبغض فيمسي الكون سجنًا مظلمًا
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم