عناصر الخطبة
1/عظم نعمة سفر القلب إلى الله 2/سفر القلب 3/من معينات سفر القلب إلى الله 4/حال المسافر بقلبه إلى اللهاقتباس
وَإِذَا اسْتَيْقَظَ القَلْبُ مِنْ غَفْلَتِهِ أَخَذَ فِي أُهْبَةِ السَّفَرِ، واسْتَصْحَبَ مَا لَهُ، وَأَدَّى مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرَ مَنْ لَا يَعُودُ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْد: فأُوْصِيْكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى الرَّحْمَن، فَهِيَ سَبَبُ الإِيْمَان، والاِتِّعَاظُ بِالقُرْآن، (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 138].
عِبَادَ الله: إِنَّهُ مِنْ أَجَلِّ الْعَطَايَا وَالْمَوَاهِبِ؛ وأَعْظَمِ الأَهْدَافِ والمَطَالِب؛ إِنَّهُ سَفَرُ القُلُوْبِ إِلَى عَلَّامِ الغُيُوْب، والمُؤْمِنُ لَا يَسْتَقِرُّ قَلْبُهُ حَتَّى يصل إِلَى اللهِ؛ فالْغَايَاتُ كُلُّهَا تَنْتَهِي إِلَيْه (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)[النجم:42].
وَإِذَا كانَ سَفَرُ الدُّنْيا قِطْعَةٌ مِنَ العِذَاب؛ فَإِنَّ سَفَرَ الآخِرَةِ؛ قِطْعَةٌ مِنَ النَّعِيْم، لا يُوْجَدُ فِيهِ مِنَ التَّعَبِ والنَّصَبِ؛ مَا يَجِدُهُ الإِنْسَانُ في سَفَرِ الدُّنيا، قالَ ابْنُ الجَوْزِيّ: “وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيْقَ المُوْصِلَةَ إِلى الحَقِّ سُبْحَانَه؛ لَيْسَتْ مِمَّا يُقْطَعُ بِالأَقْدَام، وَإِنَّمَا يُقْطَعُ بِالقُلُوْبِ، والشَّهَوَاتُ العَاجِلَةُ: قُطَّاعُ الطَّرِيْق”.
وَإِذَا اسْتَيْقَظَ القَلْبُ مِنْ غَفْلَتِهِ أَخَذَ فِي أُهْبَةِ السَّفَرِ، واسْتَصْحَبَ مَا لَهُ، وَأَدَّى مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرَ مَنْ لَا يَعُودُ. وَقِيْلَ -فِي وَصْفِ هَؤُلَاءِ المُسَافِرِيْن-: “رَكْبٌ تَصَاحَبُوا فَتَوَادُّوا؛ فَالأَيَّامُ واللَّيَالي، مَرَاحِلُهُمْ إِلى سَفَرِ الجَنَّة”.
وَلا يَصِحُّ سَفَرُ القَلْبِ إِلَّا بِصُحْبَةِ الكِتَابِ وَالسُنَّة، قَالَ الإمام مَالك: “السُّنَّةُ سَفِينَةُ نُوحٍ: مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ”.
ومَحَبَّةُ اللهِ هِيَ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الرَّبِّ، والشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَلَهَجُ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى آلَائِهِ. وَمِنْ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم: “أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ”(رواه النسائي، وصححه الألباني).
وَالمُشْتَاقُوْنَ إِلَى لِقَاءِ الله رَكِبُوا جَنَاحَ السَّفَرِ إِلَيْهِ؛ فلا تَهْدَأُ قُلُوْبُهُمْ، وَلَا تَقَرُّ عُيُوْنُهُمْ إِلَّا بِالوُصُوْلِ إِلَيْهِ، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ)[العنكبوت:5]. قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِيْنَ: “هَذَا تَعْزِيَةٌ لِلْمُشْتَاقِينَ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُمْ: أَيْ أَعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَائِي؛ فَهُوَ مُشْتَاقٌ إِلَيَّ؛ فَقَدْ أَجَّلْتُ لَهُ أَجَلًا آتٍ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ”.
والصَّادِقُ فِي مَحَبَّةِ اللهِ يَكُوْنُ على فِرَاشِهِ، وَقَلْبُهُ قَدْ سَافَرَ إِلَى رَبِّهِ، فَإِذَا أَخَذَ مَضْجِعَهُ: اجْتَمَعَ عَلَيْهِ شَوْقُهُ، فَيَهُزُّهُ إِلَى مُنَاجَاةِ رَبِّهِ، قال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَعَماً)[السجدة:16].
وَالزُّهْدُ: سَفَرُ الْقَلْبِ مِنْ وَطَنِ الدُّنْيَا، إلى مَنَازِلِ الْآخِرَةِ. وَيَكُونُ ذَلِكَ بِتَرْكِ الحَرَام، وَمالا يَنْفَعُ في الآخِرَة، قالَ بَعْضُ السَّلَف: “مَنْ تَفَكَّرَ في عَوَاقِبِ الدُّنْيا؛ أَخَذَ الحَذَرَ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِطُوْلِ الطَّرِيق؛ تَأَهَّبَ لِلْسَّفَر”.
وَإِذَا سَافَرَ القَلْبُ بِفِكْرِهِ، في مَخْلُوْقَاتِ اللهِ في سمائه وأرضه، وآلائِهِ وَنِعَمِهِ أَسْرَعَ في سَفَرِهِ إِلَيْه، وَازْدَادَ لَهُ مَحَبَّةً وَتَعْظِيْمًا. قالَ ابْنُ القَيِّم: “فَحِينَئِذٍ يَقُوْمُ الْقَلْبُ بَيْنَ يَدِيَ الرَّحْمَن مُطْرِقًا لِهَيْبَتِهِ، خَاشِعًا لِعَظَمَتِهِ؛ فَيسْجُد بَينَ يَدَي المَلِكِ سَجْدَةً، لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْهَا إلى يَوْمِ الْمَزِيد؛ فَهَذَا سَفَرُ الْقَلْب، فَيَالَهُ مِنْ سَفَرٍ مَا أَبْرَكَه، وأَعْظَمَ ثَمَرَتَه، هُوَ حَيَاةُ الأَرْوَاح، وَمِفْتَاحُ السَّعَادَة، وَغَنِيْمَةُ الْعُقُولِ والأَلْبَاب، لَا كَالسَّفَرِ الَّذِي هُوَ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَاب”.
وَالهِمَّةُ العَالِيَةُ، وَالنِيَّةُ الصَادِقَةُ: تَخْتَصِرُ الطَّرِيْقَ إلى اللهِ، وَالسَّفَرَ إِلَيْه؛ فَهُوَ يَطِيْرُ بِهِمَّتِهِ وَنِيَّتِهِ، فَوْقَ زِحَامِ الأَرْضِ وَحُطَامِهَا، قالَ ابْنُ القَيِّم: “فَيُهَاجِرُ بِقَلْبِهِ مِنْ مَحَبَّةِ غَيْرِ اللهِ إِلَى مَحَبَّتِه، وَمِنْ عُبُوْدِيَّةِ غَيْرِهِ إِلَى عُبُوْدِيَّتِه، وَمِنْ خَوْفِ غَيْرِهِ وَرَجَائِهِ، إِلَى خَوْفِ اللهِ وَرَجَائِهِ، وَهَذَا مَعْنَى الفِرَار إِلَيْه (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)[الذاريات:50]”.
فَسُبْحَانَ مَنْ أَقْعَدَ نُفُوسًا عَنِ السَّفَرِ إِلَى دارِ المُتَّقِيْنَ، فَأَضَاعَوا مَرَاحِلَ أَعْمَارِهِمْ مَعَ الْمُتَخَلِّفِينَ، (فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)[التوبة: 46]. قالَ بَعْضُهُمْ: “ثَبَّطَ عَزَائِمَهُمْ وَهِمَمَهُمْ أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ”.
وَمَنْ سَافَرَ بِقَلْبِهِ إِلَى رَبِّهِ وَتَغَرَّبَ لِأَجْلِهِ أَوْصَلَهُ إِلَى مَنازِلِ السَّعَادَةِ الأَبَدِيَّةِ، وَأَذَاقَهُ طَعْمَ الْحَيَاةِ الْمَلَكِيَّةِ (قُلْ بِفضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيٌر مِمَّا يجمعُونَ)[يونس: 58].
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.
عِبَادَ الله: سَفَرُ القُلُوْب في تَارِيْخِ الأُمَمِ والشُّعُوْب؛ يُبْصِرُ بِهِ الإِنْسَانُ مَصَارِعَ الظَّالِمِيْنَ (فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)[النحل:36].
إِيَّاكَ وَالظُّلْمَ مَهْمَا اسْتَطَعتَ *** فَظُلْمُ الْعِبَادِ شَدِيدُ الْوَخَمْ
وَسَافِرْ بِقَلْبِكَ بَيْنَ الْوَرَى *** تَبْصُرَ آثَارَ مَنْ قَدْ ظَلَمْ
وَإِذَا زَادَكَ اللهُ فِي الأَجَلِ، فَازْدَدْ أَنْتَ مِنَ العَمَل؛ فَإِنَّ كُلَّ يَوْمٍ تَحْيَا فِيْهِ غَنِيْمَة، فَأَقْبِلْ على جَمْعِ زَادِكَ، لِيَوْمِ مَعَادِك، وَاحْزِمْ حَقِيْبَةَ قَلْبِكَ لِسَفَرٍ طَوِيْل، فَقَدْ أَزِفَ الرَّحِيْل (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة:197].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.
اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.
اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لما تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.
عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90].
فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت:45].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم